لقد أدرك الموفقون من عباد الله عز وجل خطورة القعود عن نصرة دين الله عز وجل فنفرت طوائف من هذه الأمة كل بحسبها، وبما تقدر عليه من أنواع الجهاد في مدافعة الصائل على البلاد والعباد والعقائد والأخلاق، فكان منها طائفة تصدت للغزو العسكري بجهاد اليد والسنان، وطائفة تصدت للغزو الفكري والعقدي بجهاد العلم والبيان، وطائفة أخرى تصدت للغزو السلوکی والتغريبي بجهاد التربية والتحصين والاحتساب.
التصدي للغزو الفكري وبث الشبهات
وهذا النوع من الغزو من أشد أنواع الغزو الموجه للمسلمين، والتصدي له وکشف شبهاته من أفضل أنواع الجهاد وأحبه إلى الله عز وجل، ووسيلة التصدي له تكون بجهاد البيان والحجة:
بيان سبيل المؤمنين وبيان سبيل المجرمين، وهذه مهمة العلماء الربانيين والدعاة الصادقين، بل هي من أبرز صفات الصديقين في هذه الأمة، الذين علموا وعملوا وبينوا الحق للناس، وصبروا على ذلك كله، وقد يستهين بعض الناس بهذا الضرب من الجهاد، ويظن أن جهاد الكفار الغزاة باليد والسنان أفضل منه وأولى.
جهاد اللسان وجهاد السنان
والحق أن الأمر ليس كذلك، فإن جهاد البيان إذا قام به أهله حق القيام فإنه قد يفوق جهاد السنان، ويحتاج إلى صبر عظیم لأن بيان الحق ومقارعة الباطل وکشف زيفه وتلبيسه أعظم أنواع الجهاد، وما يتعرض له القائمون به من البلاء والمحن أشد مما يتعرض له المجاهدون في ساحات الوغي، ولأن جهاد السنان يكون في وقت محدد و معدود، أما جهاد البيان فهو مستمر في حياة العلماء والدعاة طول الحياة. يضاف إلى ذلك أن جهاد اليد والسنان يحسنه كل أحد يجيد حمل السلاح والرمي به، أو أي خدمة تقدم للمجاهدين من حراسة، أو تجهيز طعام، أو مداواة جرحى، وهذه المهمات لا تحتاج إلى علم وفقه، بل يقوم بها العامي ولو لم يكن من أهل العلم، بينما جهاد البيان وکشف الشبهات ومصاولة الباطل وبيان زيفه، لا يحسنه إلا أهل العلم الربانيين، وقلما تحصل بهم الكفاية، ولاسيما في مثل أزمنتنا اليوم الذي أجلب فيه أهل الكفر والنفاق على دیار المسلمين محاولين مسخ هوية المسلمين وتشويه عقيدتهم وزعزعة أفكارهم وأخلاقهم، مستخدمين في ذلك ما قدروا عليه من وسائل الإعلام المختلفة ووسائل التنصير والاستشراق والتعليم.
أهمية جهاد الدعوة والبيان
وللتدليل على أهمية جهاد الدعوة والبيان وأن ما يواجه أهله من البلاء والمصائب والمصاعب أكثر وأشد مما يواجه المجاهدين باليد والسنان. أسوق الرواية الآتية التي يخبر فيها النبي صلى الله عليه وسلم أن ما أصابه من الشدائد في مكة وهو يدعو الناس إلى التوحيد، ويبين لهم حقيقة دین الإسلام أكبر وأشد عليه مما أصابه في غزوة أحد والأحزاب، وأصاب أصحابه من الشدة والقرح والابتلاء عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (یا رسول الله ! هل أتی عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: «لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد یالیل بن عبد کلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: «إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم»، قال فناداني ملك الجبال وسلم على، ثم قال: «يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، فيما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين»، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا»1(1) مسلم (1795)..
جهاد البيان أعظم أنواع الجهاد
ويحسن بهذه المناسبة إيراد ما ذكره الإمام ابن تيمية في أهمية وفضل جهاد البيان، وأنه من أعظم أنواع الجهاد، وذلك في كتابه العظيم (منهاج السنة)، وذلك في معرض رده على شبهة الرافضي في أن عليا رضي الله عنه قد سبق الشيخين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما في الشجاعة والجهاد بالسنان في سبيل الله فكان مما قال: (ومما ينبغي أن يعلم أن الشجاعة إنما فضيلتها في الدين لأجل الجهاد في سبيل الله، وإلا فالشجاعة إذا لم يستعن بها صاحبها على الجهاد في سبيل الله، كانت: إما وبالا عليه إن استعان بها صاحبها على طاعة الشيطان، وإما غير نافعة له إن استعملها فيما لا يقربه إلى الله تعالى .
فشجاعة علي والزبير، وخالد وأبي دجانة، والبراء بن مالك وأبي طلحة، وغيرهم من شجعان الصحابة – إنما صارت من فضائلهم رضي الله عنهم لاستعانتهم بها على الجهاد في سبيل الله؛ فإنهم بذلك استحقوا ما حمد الله به المجاهدين.
وإذا كان كذلك، فمعلوم أن الجهاد منه ما يكون بالقتال باليد، ومنه ما يكون بالحجة والبيان والدعوة.
قال الله تعالى: (وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيرًا * فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) [الفرقان: 51-52]، فأمره الله -سبحانه وتعالى أن يجاهد الكفار بالقرآن جهاد كبيرا، وهذه السورة مكية نزلت بمكة، قبل أن يهاجر النبي وقبل أن يؤمر بالقتال، ولم يؤذن له، وإنما كان هذا الجهاد بالعلم والقلب والبيان والدعوة لا بالقتال، وأما القتال فيحتاج إلى التدبير والرأي، ويحتاج إلى شجاعة القلب، وإلى القتال باليد. وهو إلى الرأي والشجاعة في القلب في الرأس المطاع أحوج منه إلى قوة البدن، وأبو بكر وعمر مقدمان في أنواع الجهاد غير قتال البدن.
من فضائل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما
قال أبو محمد بن حزم: وجدناهم يحتجون بأن عليا كان أكثر الصحابة جهادا وطعنا في الكفار و ضربا، والجهاد أفضل الأعمال. قال : وهذا خطأ؛ لأن الجهاد ينقسم أقساما ثلاثة:
أحدها: الدعاء إلى الله تعالى باللسان.
والثاني: الجهاد عند الحرب بالرأي والتدبير.
والثالث: الجهاد باليد في الطعن والضرب. فوجدنا الجهاد باللسان لا يلحق فيه أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر ولا عمر. أما أبو بكر: فإن أكابر الصحاب أسلموا على يديه، فهذا أفضل عمل، وليس لعلي من هذا كثير حظ، وأما عمر: فإنه من يوم أسلم عز الإسلام، وعبد الله علانية، وهذا أعظم الجهاد. وقد انفرد هذان الرجلان بهذين الجهادین اللذين لا نظير لهما، ولا حظ لعلي رضي الله عنه في هذا.
وبقي القسم الثاني، وهو الرأي والمشورة، فوجدناه خالصا لأبي بكر ثم لعمر. بقي القسم الثالث، وهو الطعن والضرب و المبارزة، فوجدناه أقل مراتب الجهاد ببرهان ضروري، وهو أن رسول الله ولا شك عند كل مسلم في أنه المخصوص بكل فضيلة، فوجدنا جهاده إنما كان في أكثر أعماله وأحواله بالقسمين الأولين من الدعاء إلى الله عز وجل والتدبير والإرادة، وكان أقل عمله الطعن والضرب والمبارزة، لا عن جبن، بل كان أشجع أهل الأرض قاطبة نفسا ويدا، وأتمهم نجدة، ولكنه كان يؤثر الأفضل فالأفضل من الأعمال، فيقدمه ويشتغل به، ووجدناه يوم بدر – وغيره- كان أبو بكر معه لا يفارقه، إيثارا من النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك، واستظهارا برأيه في الحرب، وأنس بمكانه، ثم كان عمر ربما شورك في ذلك، وقد انفرد بهذا المحل دون علي، ودون سائر الصحابة، إلا في الندرة.
ثم نظرنا مع ذلك في هذا القسم من الجهاد، الذي هو الطعن والضرب والمبارزة، فوجدنا عليا لم ينفرد بالسيوف فيه، بل قد شاركه فيه غيره شركة العيان، كطلحة والزبير وسعد، ومن قتل في صدر الإسلام، کحمزة وعبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب ومصعب بن عمير، ومن الأنصار سعد بن معاذ وسماك بن خرشة – يعني أبا دجانة – وغيرهما، ووجدنا أبا بكر وعمر قد شاركاه في ذلك بحظ حسن، وإن لم يلحقا بحظوظ هؤلاء، وإنما ذلك لشغلهما بالأفضل من ملازمة رسول الله ومؤازرته في حين الحرب، وقد بعثهما على البعوث أكثر مما بعث عليا، وقد بعث أبا بكر إلى بني فزارة وغيرهم، وبعث عمر إلى بني فلان، وما نعلم لعلي بعثة إلا إلى بعض حصون خيبر ففتحه. فحصل أرفع أنواع الجهاد لأبي بكر وعمر، وقد شاركا عليا في أقل أنواع الجهاد، مع جماعة غيرهم)2(2) منهاج السنة النبوية (8/86 )..
جهاد الكفار والمنافقين بالحجة والبيان وتبليغ القرآن
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله:
(كان الجهاد في أول الإسلام بتبليغ الحجة، وأمره الله تعالى بالجهاد من حين بعثه، وقال تعالى: (وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيرًا * فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) [الفرقان: 51-52]. فهذه سورة مكية أمر فيها بجهاد الكفار بالحجة والبيان وتبليغ القرآن، وكذلك جهاد المنافقين إنما هو بتبليغ الحجة، وإلا فهم تحت قهر أهل الإسلام قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ۚ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [التوبة:73]، فجهاد المنافقين أصعب من جهاد الكفار، وهو جهاد خواص الأمة وورثة الرسل، والقائمون به أفراد في العالم والمشاركون فيه والمعاونون عليه وإن كانوا هم الأقلين عددا، فهم الأعظمون عند الله قدرا. ولما كان من أفضل الجهاد قول الحق مع شدة المعارض، مثل أن تتكلم به عند من تخاف سطوته وأذاه، كان للرسل – صلوات الله عليهم وسلامه – من ذلك الحظ الأوفر، وكان لنبينا -صلوات الله وسلامه عليه – من ذلك أكمل الجهاد وأتمه)3(3) زاد المعاد (3/5)..
وبهذا يتبين لنا أهمية جهاد البيان وفضله، وأن الله عز وجل قد فرضه على علياء الأمة لبيان الحق للناس، ولكشف شبهات الأعداء من الكفار والمنافقين، وبیان باطلهم ودحض حجتهم، فما أعظم الأمانة الملقاة على کاهل العلماء والدعاة، وما أعظم أجرهم إن هم قالوا الحق وفضحوا الباطل للناس، وقاموا في ذلك مخلصين لله تعالى، وما أعظم وزرهم إن هم کتموا الحق أو لبسوا الحق بالباطل، وما أحوج الأمة اليوم إلى علمائها ليقودوها في وسط هذه الأمواج المتلاطمة، ويوصلوها إلى بر الأمان، ويخرجوها من هذا التيه، ويخلصوها بما آتاهم الله من العلم من شبهات المشبهين وانتحال المبطلين.
قال الله عز وجل: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) [آل عمران:187] وإن أمانة القيام بجهاد البيان لتعظم في زماننا اليوم الذي بلغ فيه غزو الأعداء لعقيدة المسلمين ذروته، ولاسيما بعد انتشار وسائل الإعلام المتنوعة ووسائل التواصل بالجوال والحاسوب الذي يخترق عقول المسلمين ويدخل إليها بلا استئذان محملة بآلاف المواقع التي تبث الشبهات وتفتك في العقول والأفكار.
الهوامش
(1) مسلم (1795).
(2) منهاج السنة النبوية (8/86 ).
(3) زاد المعاد ( 3/5).
اقرأ أيضا
أنواع الغزو الذي يتعرض له المسلمون اليوم
من مظاهر الغزو الفكري: تشويه التاريخ الإسلامي