ثمة تلاعب بالمصطلحات يلبس الحق بالباطل ويكتم الحق، ويحرف الحقائق عن مواضعها، ويتترس بها العدو فينفُذ إلى جرائمه ويحقق مفاسده؛ ولذا وجب تصحيح مصطلحات محورية شاعت اليوم.

مقدمة

﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾ [آل عمران: 149-150].

لا شك أن كل من يسعى مخلصا لتبصير الأمة الإسلامية بالمخاطر التي تحاك ضدها فهو قائم بفرض عظيم من فروض الكفاية ومرابط على ثغر مخوف من ثغور الإسلام.

فإن من رحمة الله وحكمته أن الأرض لن تخلو من قائم لله بحجة لكي لا تبطل حجج الله وبيناته، وأنه لن تزال طائفة من الأمة على محض الحق وصريح السنة حتى يأتي أمر الله تعالى.

ويتأكد القيام بهذا الفرض الكفائي حين تقع الغفلة عن العلم به أو يقع العجز عن العمل به؛ لا سيما في الأزمنة والأمكنة التي ينطمس فيها العلم بميراث النبوة ويخفى فيها نور السنة، ويكثر فيها الدعاة على أبواب جهنم مخانيث اللادينية الإباحية من أصحاب المنهج التخديري والفقه التبريري والطرح الانهزامي.

وكلما طال الأمد وبعُد العهد ازداد خفاء نور النبوة ـ ذلك النور الذي لا يحصل الهدى والصواب ولا يزول الشك والارتياب إلا به؛ فإنه ليس وراءه على وجه الأرض نور يستضاء به ـ وازداد مع خفائه تلبيسُ دعاة الدين الفاسد. لذلك كان أفضل الناس القرن الأول ثم الذين يلونهم ثم الذي يلونهم؛ ولذلك أيضا كان ظهور الضلال والغي والبدع والنفاق والفجور بحسب البعد عن منهاج القرون المشهود لها بالخير.

خطر “اللادينية”

ويمكننا القطع بأنه لم يظهر منذ خلق الله تعالى الخليقة كفر أعظم من كفر “اللادينية”؛ إذ كل كفر سواها فهو فرع عنها، يستوي في ذلك ما دق وجل من الكفر في العقائد والسلوكيات والأراء والسياسات.

فالتعطيل ووحدة الوجود وإقامة نشاطات الحياة على غير الإسلام وإيثار حكم غير الله تعالى على حكمه؛ كل هذا على اختلاف أنواعه هو فرع عن “اللادينية” فهي أصل كل كفر وآخيّته وقطب رحاه، وكل كفر في الخليقة فهو جزء منها وفرع عنها.

وكيف لا تكون “اللادينية” بهذا النعت وهي التي يصرَّح فيها بإلغاء حق الحاكم الأعلى سبحانه في التفرد بالتشريع والحكم والطاعة بنصوص قانونية ملزِمة ويسند ذلك الحق إلى غيره من المجالس والبرلمانات والهيئات..!

أوجب واجبات البيان

إن كل من يأمر بالسكوت عن المؤامرات والدسائس التي تحاك ضد الأمة في غسق الليل أو وضح النهار، أو يُظاهر ويتابع، أو يشايع ويبايع، أو يزيّن ذلك ويدعو إليه ويوجبه ويتعبد به فهو من أكابر المجرمين وأئمة المحاربين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللأمة الإسلامية.

إن كشف دسائس أعداء الأمة الذين يتهددون دينها وسيادتها ووحدتها ومقومات الدفاع فيها، ويسعون لبيعها بثمن بخس، ويعملون لتمكين الأعداء منها على جميع الأصعدة؛ هو أوجب من كشف الضعفاء والمجروحين من الرواة، وهو أوجب من كشف أخطاء العلماء المجتهدين؛ بل لعله أوجب في مصادر الديانة من كشف حقيقة من يدعي النبوة ويضع الأحاديث. فإذا كانت أصول الديانة توجب بيان أخطاء العلماء الصادقين المرموقين وحقيقة الرواة المجروحين حفاظا على الملة ونصحا للأمة فكيف لا توجب كشف من يتهددون كيان الأمة برمته وبكل مكوناته الدينية والدنيوية..؟

وكيف لا توجب كشف الأخطار التي تهدد أمة الإسلام بالاندثار المفجع والاختفاء من الوجود رأسا بحيث تصبح أثرا بعد عين..!

إن الأخطار التي تهدد الأمة كثيرة ومتنوعة. وقد تعددت وتنوعت بحسب تعدد وتنوع خصائص الأمة ومقومات بقائها ومواطن القوة فيها؛ ولا يقل واجب كشف عملاء الدوائر الاستعمارية أهمية عن واجب كشف دسائس المستشرقين والمبشرين؛ فكلهم يصْدُر عن مترع آسن واحد. والحق أن الغارة على العالم الإسلامي ما كان لها أن تحقق أغراضها لولا تضافر جهود أجنحة المكر الثلاثة: “المستشرقين والمبشرين والمستعمرين” مع جهود العملاء والخونة الداخليين.

فكل من قام بواجب بيان حقيقة الأعداء السياسيين وغير السياسيين، البارزين والمستترين، الداخليين والخارجيين، فهو قائم على ثغر عظيم من ثغور الإسلام وقائم بفريضة من أعظم الفرائض. فوجوب إشاعة العلم بواقع هؤلاء والتحذير منهم هو أوجب من إشاعة العلم بأخطار الأوبئة العامة.

كيفية البيان

وهذا الوجوب قد تقرر وتكرر في مصادر الشريعة بما لا مزيد عليه كما تقرر وتكرر وجوب إشاعة حكم الله تعالى فيهم لأن الفتوى تبنى على ركنين عظيمين لا يغني أحدهما دون الآخر:

الأول: معرفة واقع النازلة محل البحث وملابساتها.

والثاني: معرفة حكم الله فيها. ومن ثَم يصلح تنزيل الحكم الشرعي على الواقع المعين. والتقصير في أي من الركنين يوْقع في الورطات. والأمر كما ترى.

جريمة الحكام الوضعيين

وما فعله الحكام الوضعيون بشعوبهم بدءا من تولي الكفار وتعطيل الشريعة والاعتياض عنها باللادينية؛ وما انجر عن ذلك من انتشار الإباحية وذهاب ريح الأمة وتفرقها أيادي سبأ وضعفها اقتصاديا وسياسيا وانهيار حصنها الأخلاقي وتفكك نسيجها الاجتماعي، بل وظهور نزعات الكيانات العدوانية الشاذة فيها وغيرها من الآثار السيئة الكثيرة؛ لا يظهر إلى جنبه خطر التطبيع الرسمي مع الكيان الصهيوني لأن معاهدات التطبيع السرية لم تنقطع يوما من الدهر حتى يستأنف بل لم تزل سوقها عامرة، وكثيرا ما تعقد اجتماعات ودّية ولقاءات سياسية ومبادلات تجارية كثيرة بين بني علمان وبني صهيون على جهة التكتم والاستسرار.

ليت شعري.. هل يوجد فرق جوهري مؤثر بين التطبيع مع إسرائيل وإقامة علاقة تعاون مع فرنسا أو بريطانيا أو أمريكا أو غيرها من الدول الحليفة لإسرائيل. بل الأوْلى بقطع العلاقات وصرْم حبال الوصل هو من أنشأ دولة إسرائيل وزرعها في قلب العالم الإسلامي ومن يدعمها إلى الآن سياسيا وماليا وعسكريا وفكريا، في المحافل الدولية وفي الغرف المغلقة؛ بل بإيعاز منه وحماية وإمداد تتوسع وتتمدد وتسفك دماء الأمة وتنجّس مقدساتها وتنتهك حرماتها؛ وليس ذلك إلا الغرب الصليبي؛ وعلى رأسه بريطانيا والولايات المتحدة ومن يمدهما بمال الأمة العام وبالثروات الظاهرة والباطنة.

بل ليت شعري.. هل هناك فرق مؤثر بين احتلال الصهاينة لفلسطين واحتلال الصين لتركستان الشرقية أو احتلال إثيوبيا للصومال أو احتلال روسيا للشيشان..؟ هل يختلف الحكم الشرعي باختلاف الأرض الإسلامية المحتلة أم يكون حكما واحدا على اعتبار أن مناط الحكم هو كون الأرض إسلامية مسلوبة بقطع النظر عن شرف بعض بقاعها..؟ فشرف البقعة قد يكسب تأكيدا في الوجوب باعتبار ما، إلا أنه لا يُسقط وجوب الدفاع عن غيرها من بلاد الإسلام المحتلة لأن المقام لم تزدحم فيه المفاسد التي يجب درؤها حتى نلجأ إلى أصول الموازنات فندرأ الخطر الأعظم بما دونه من الأخطار.

فمن جهةٍ؛ هذا المناط يصير الحكم واحدا لأن حكم الشيء حكم مثله وحكم النظير حكم نظيره، وهو وجوب النفير العام عينا على كل مسلم إذا احتُل أي شبر من أرض الإسلام إذا توفرت القدرة على ذلك. وإذا كان أهل فلسطين عاجزين عن دفع العدو الصهيوني الصائل وجب على الأمة إعانتهم لتحصيل شرط القدرة ورفع حالة العجز، قال النووي:

“الجهاد اليوم فرض كفاية ،إلا أن ينزل الكفار ببلد المسلمين فيتعين عليهم الجهاد؛ فإن لم يكن في أهل ذلك البلد كفاية وجب على من يليهم تتميم الكفاية”. (1شرح النووي على مسلم، (13/ 9))

انقلاب الأوضاع على يد المبدِلين

ولكن الذي يحدث في عصرنا أن الدول العربية المجاورة لفلسطين صارت بمنزلة الردء والظهير للكيان الصهيوني تعينه على إبادة أهلنا هناك؛ فلا هي تنصر الأقصى، ولا هي تترك من يريد نصرته يتسلل إلى ميادين الغِلاب وساحات الشرف، ولا هي تسمح بإدخال المؤن والمساعدات لأهلنا؛ فالمعابر مغلقة والحدود محروسة والعدو مطلق اليد والتصرف يعيث فسادا في المقدسات والدماء والأعراض والأموال ما دام يوجد من يمكّنه من ذلك ويغريه به ويعينه عليه ويعترف بكيانه ويجرّم الدفاع الشرعي للمسلمين عن دينهم ومقدساتهم ودمائهم وأموالهم وأعراضهم.

فرجعنا ـ لزاما ـ إلى تقرير الفقهاء أن للردء حكم المباشر وأن المتمالئين مع المحتل هم محتلون مثله. لقد أعلنوا ثقتهم فيه ورضاهم بما يصنع. فهم بمنزلة الردء الذي يعين الصائلين على بيوت الناس ويوفر لهم أسباب العدوان من حراسة وإعداد وإمداد ويوطّئ لهم الوسائل ويمهد لهم السبل، فيعيث الصائلون فسادا داخل البيوت وهم على ثقة تامة أنه لا صريخ لأهلها ولا هم ينقَذون؛ فهم في مأمن من الملاحقة والمتابعة والمساءلة.

فليس الكيان الصهيوني وحده من يفسد في الأرض ويسفك الدماء ويهتك الأعراض ويستبيح الحرمات؛ بل كل من تمالأ معه على ذلك فهو مثله. فالإنصاف يتقاضاني توصيف هذه الحالة بوصف: (قتل الجماعة بالواحد). وقد فصَل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في نظيرتها حين تمالأ جماعة على قتل واحد بصنعاء فحكم بقتلهم جميعا وقال: «لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعا».

حقيقة “كامب ديفيد” وأبعادها

ومن هنا نعلم أن “كامب ديفيد” لم يكن مجرد صلح دائم ينسخ فريضة المقاومة فحسب؛ بل كان في حقيقته ومآلاته مناصرة عظيمة وموالاة صريحة للكيان الصهيوني وتولٍ عام له، لأنه في الأخير لم يكن سوى تجند اختياري في معسكره ولكن على الأكناف والحدود والمعابر حتى يسهل الإثخان في الشعب الأعزل.

بل عند فقد شرط القدرة إنما يسقط وجوب المقاومة لا استحبابها لقوله تعالى: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا﴾ [النساء: 84].

قال البيضاوي:

“﴿فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ إن تَثَبَّطوا وتركوك وحدك. ﴿لاَ تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ﴾ إلا فعل نفسك لا يضرك مخالفتهم وتقاعدهم، فتقدم إلى الجهاد وإن لم يساعدك أحد فإن الله ناصرك لا الجنود”. (2تفسير البيضاوي (2/ 87))

وقال الإمام الفحل أبو محمد بن حزم:

“هذا خطاب متوجِّه إلى كل مسلم، فكل أحد مأمور بالجهاد وإن لم يكن معه أحد”. (3المحلى بالآثار، (5/ 421))

فلا فرق من جهة هذا المناط بين أن تحتل فلسطين أو بورما أو تركستان أو الشيشان أو أي شبر من دار الإسلام .

ولكن كما قيل:

أذكرتنيهم الخطوب التوالي     ولقد تذكر الخطوب وتنسي

فلا ينبغي الحكم على الأحداث بمقاييس الظاهرية السياسية؛ فإن ذلك أقرب إلى الغوغائية منه إلى التحليل المنطقي والمنهج العلمي.

هذه إسبانيا تحتل أرض الإسلام “سبتة” و”مليلية”؛ ومع ذلك فإن كل الأنظمة تقيم علاقات دبلوماسية مع إسبانيا.

وهذه الصين تحتل تركستان الشرقية ..وهذه بورما… وهذه إثيوبيا… وهذه روسيا … وغيرها كثير.

بل لا تكاد تخلو بقعة من بقاع المسلمين من احتلال؛ ومع ذلك لم يكن موقف الأنظمة التي تحكم المسلمين مقصورا على إقامة علاقات دبلوماسية مع هذه الدول المحتلة بل تعدى الأمر إلى الدخول في تحالفات وتنظيمات دولية تعدُّ الدفاع من أجل تحرير الأوطان عملا إرهابيا. بل حتى الشعوب الإسلامية لم يكن موقفها موقفا واحدا من جميع المحتلين؛  وهذا مما يقضى منه العجب.

إن أخشى ما أخشاه أن تكون قضية فلسطين قد تحولت من قضية إسلامية ذات جذور إيمانية وأصول عقدية وتاريخ مقدس إلى قضية قومية ذات جذور عرقية وأصول قُطرية؛ فإن بناء المواقف على القوميات مع الإشاحة عن رابطة الإسلام وآصرة العقيدة يقلب الصراع جاهليا، تكون الغلبة فيه ـ بحسب السنن الكونية ـ للأقوى.

ولا ريب أن الكيان الصهيوني يقاتل بعقيدة دينية فاسدة فإذا قاتلناه بقومية وعرقية كنا مثله في بناء المواقف على غير العقيدة الصحيحة والدين القويم؛ فيصير القتال حينئذ بين جاهليتين جاهلية الدين المبدَّل وجاهلية القومية والعرقية.

فالأمر أعمق مما يتصوره الشارع العربي والإسلامي. إنه أعمق في حقائقه وأعمق في حلوله.

بل أكثر من كل هذا؛ فإن الميزان الدقيق للشريعة الحكيمة يقضي باعتبار أي نظام سياسي مفسد لدين الأمة مهلك لدنياها نظاما صائلا محتلا بسبب سعيه الحثيث في تغيير دينها وإفساد أخلاقها والتضييق على علمائها ودعاتها ومرشديها، وإصراره على إقحامها في أتون الإباحية، وإمعانه في إذلالها وامتهان كرامتها وتجويعها ونهب خيراتها، وجعْلها فاقدة لمقومات الأمة التي لا تخضع لإرادة المستعمرين ولا ترضى أن تكون فريسة للكفار الحربيين.

عندما يكون الحكام عدوا للأمة

ففرق كبير بين انحراف الحاكم في خاصة نفسه وبين انحراف نظام الحكم برمته إلى حد يصير فيه عدوا للأمة ناقضا لمقاصد وظيفتها الرسالية.

بل إن احتلاله أنكى وأعظم ضررا من احتلال العدو الخارجي لأنه بحكم انتمائه إلى الأمة الإسلامية أحدث تلبيسا عظيما في مفاهيم الولاء والبراء والحب والبغض والموالاة والمعاداة والتقديم والتأخير. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دُعَاة على أبواب جهنَّم، مَن أجابَهُم إليها قذَفُوه فيها»، قلتُ: يا رسول الله، صِفْهُم لنا؟ قال: «هُمْ مِن جِلدَتِنا، ويتكلَّمون بألسِنتِنا»؛ وإذا لم يكن “اللادينيون” وأحلاسهم الذين يدْعون إلى طاعتهم وبيعتهم دعاةً على أبواب جهنم فلا يوجد في الدنيا دعاة على أبوابها؛ وإنما وصفهم النبي بهذا الوصف حتى لا تنصرف أذهاننا إلى الظن بأنهم اليهود والنصارى؛ فهم ليسوا يهودا ولا نصارى، فلا مجال لتوظيف نظرية المؤامرة الخارجية بل هُم مِن جِلْدتِنا، أي: مِن أنفُسِنا وعَشيرتِنا مِنَ العربِ أو مِن أهلِ ملَّتِنا، ويَتكلَّمُون بألسنتِنا، أي: يتكلَّمُون بما قال اللهُ ورسولُه مِنَ المواعظِ والِحكمِ. فهم على حظ بعلم الكتاب والسنة.

وهؤلاء هم الذين خافهم النبي على أمته لأنهم يخرجون الناس من النور إلى الظلمات ويلبسون الحق بالباطل بتحريف الدلائل من الكتاب والسنة أو بردّها إلى الافتراءات أو المتشابهات كما قال تعالى في سلفهم: ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾. وقال فيهم المعصوم صلى الله عليه وسلم: «أخْوَفُ ما أخافُ على أُمَّتِي كلُّ مُنافِقٍ علِيمِ اللسانِ» فهم من قومنا ومن أهل لساننا وملتنا. قال القابسي:

“معناه أنهم في الظاهر على ملتنا وفي الباطن مخالفون، وجلدة الشيء ظاهره”.

ويزيد الحمأة امتدادا حين يعطيه كبار “العلماء العملاء” ذلك الحق المطلق الذي لا يُسأل فيه عما يفعل وهم يسألون ويستميتون في إقامة الدلائل بمحض الزور والبهتان لإثبات شرعية لا دينيه واحتلاله.

فبهذا يقع التلبيس على العامة. وهذا هو السر في تشريع الإسلام مغالبة الحكام إذا رأينا منهم الكفر البواح لأن حكم الأمة بغير شريعة الإسلام هو تعدٍّ عليها واحتلال لها؛ بل هو أعظم في الضرر من إبادة خضرائها. بل لقد غاص إمام دار الهجرة مالك بن أنس عليه رحمة الله تعالى في عمق المعنى ونظر في المناط نظر الريان من ميراث النبوة؛ فقال: “لا يحل لأحد أن يقيم بأرض يسب فيها السلف”.

وهذا هو الفقه نصا واستنباطا.

وعلى هذا الطريق المَهْيَع جرى عمل الراشدين المهديين في قتالهم لـ “مسيلمة الكذاب” و”العنسي” و”سجاح” وغيرهم من مدعي النبوة ومانعي الزكاة المرتدين، وقصدهم إلى ديارهم لأن حربهم على الإسلام وتمردهم على أحكامه جعلت منهم كيانات معادية محتلة لأوطانها؛ بل هذا هو السر في قصد المسلمين الكفار إلى ديارهم ووضعهم أمام المبدأ المبارك:

“الإسلام أو الجزية أو السيف”

لأنهم في حالة امتناعهم عن الإسلام والجزية يصيرون حربيين محتلين لأراضيهم، وذلك بصدهم شعوبهم عن الدخول في الإسلام لذلك يقال في الأدبيات العقدية:

“جاء الإسلام ليخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد”.

حَسْم الإسلام لمادة الفساد

بل أكثر من هذا وذاك؛ فإن الإسلام يوجب قتال الخارجين عن السنة والجماعة كالخوارج والروافض والجهمية نفاة المعبود؛ فيوجب قصدهم إلى ديارهم لتكون الطاعة كلها لله تعالى ولتكون كلمة الله تعالى ـ التي هي عقائده وأحكامه ـ هي العليا فتصدّق جميع أخباره وتلتزم جميع أحكامه؛ فإن إظهار الإلحاد والخروج عن السنة والجماعة يُلزم بإنزال العقوبات الشرعية على من تلبّس بموجِباتها، وقد قال المعصوم صلى الله عليه وسلم عن الخوارج كما في الصحيح: «يقتلون أهل الإسلام ويدَعون أهل الأوثان لئن أنا أدركتُهم لأقتلنهم قتل عاد» أي قتلا عاما مستأصلا. وفي الصحيح أيضا: «فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة» وعند أبي داود بسند صحيح: «هم شر الخلق والخليقة، طوبى لمن قتلهم وقتلوه» وفيه أيضا بسند صحيح: «لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قُضي لهم على لسان نبيهم صلى الله عليه وسلم لنكلوا عن العمل».

بل أكثر من كل هذا؛ فإن العبد لو ملَك ما شاء من الأعيان ثم حارب الإسلام زال ملكه عن كل ما يملك، بل تزول عصمة دمه وماله. ففي الصحيح: «أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله». فالعاصم للنفس والمال هو الإسلام أو عقد الذمة والعهد، وإعلان الحرابة على الإسلام والأمة لا يصير العبد محتلا مسلوب الحق في التمتع بالحقوق كما يتمتع بها أمثاله فحسب بل يرفع عنه عصمة النفس والمال. ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى: 40].

الحكم على الكيانات بأوطانها أم بولائها ومبادئها؟

فالعبرة في الحكم على الكيانات ليس هو مجرد انتمائها إلى أوطانها الإسلامية فإن هذا الانتماء لا تؤسَس عليه المواقف بمجرده، ولا يستلزم صدق الولاء؛ وإنما تعد الكيانات كيانات معادية إذا باشرت الحرابة في حق الأمة وارتكبت جرائم تضر الأمة وحققت أغراض العدو الخارجي وقوضت مقاصد الإسلام الكبرى؛ فربما حققت أغراضا عدوانية مضرة بالأمة لم يستطع العدو الخارجي تحقيقها، فلا يُسقِط عنها وصفَ العدوانية والاحتلال بطاقاتُ تعريفها وشهاداتُ إقامتها لَطالما أن ولاءها ونشاطها ونضالها هو لتحقيق أهداف العدو الخارجي.

ومن هنا صارت الجنسية الأصلية غير مستلزمة للولاء للأمة ولا كفيلة بتحصيل الحقوق وصيانتها بمجردها لذلك تلجأ الدول إلى سحبها ممن يحملها إعلانا منها للتبرؤ منه وتعبيرا منها عن انفصام رابطة الولاء بينه وبين الأمة. ولذلك أيضا تعد الجاسوسية خيانة عظمى لأن الجاسوس رغم جنسيته وقوميته صار ظهيرا للعدو فأعطي حكمه.

ومن أبرز البراهين على ما سلف ذكره “كمال أتاتورك” الذي ألغى الخلافة الإسلامية وحوَّل تركيا إلى دولة علمانية حربية في زمن قياسي بمظاهرة الغرب، وطاعة جنوده العمياء لأوامره الكفرية. فَعُدَّ بميزان الشريعة محتلا لتركيا محاربا لها رغم أنه من سكانها الأصليين.

بل هذه حكومات الاحتلال العميلة في العراق وغير العراق، مثل حكومة علاوي في عهد بريمر وحكومة المالكي وغيره، هي احتلال كأظهر ما يكون الاحتلال بل هي مظاهرة للكفار الحربيين كأصرح ما تكون المظاهرة؛ ومع ذلك أفتى عملاء الملوك بأنها حكومات شرعية يجب لها السمع والطاعة، ورئيسُها ولي أمر شرعي..! والحال أن القاصي والداني يعلم أنها حكومات عميلة انتعلها المحتل لتحقيق أغراضه؛ فأين تذهب عقول الأحلاس..؟

خاتمة

فلا شك أنه ينبغي إشاعة العلم بحقيقة المصطلحات المهمة لا سيما إذا كثر التلاعب بها بالزيادة والنقصان كما حدث لمصطلح “الاستعمار” و”الاحتلال”؛ فينبغي التأكيد على أن مصطلح “المستعمر” و”المحتل” ليس محصورا في العدو الخارجي بل قد يكون العدو الداخلي مستعمِرا محتلا عن جدارة واستحقاق.

والله أعلى وأعلم وهو حسبنا لا رب غيره ولا معبود بحق سواه.

…………………………..

الهوامش:

  1. شرح النووي على مسلم، (13/ 9).
  2. تفسير البيضاوي (2/ 87).
  3. المحلى بالآثار، (5/ 421).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة