كما أن شهر رمضان موسم للخير؛ فالعشر الأواخر منه قلبه وسويداؤه. وفيها من الخير أضعاف العمر، وبرهان الصدق في طلب الخير والاجتهاد فيها.

مقدمة

إذا كان قد ذهب من هذا الشهر أكثره، فقد بقي فيه أجلّه وأخْيَره، لقد بقي فيه العشر الأواخر التي هي زبدته وثمرته، وموضع الذؤابة منه.

ولقد كان صلى الله عليه وسلم يعظّم هذه العشر، ويجتهد فيها اجتهاداً حتى لا يكاد يقدر عليه، يفعل ذلك، صلى الله عليه وسلم، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخّر، فما أحرانا نحن المذنبين المفرّطين أن نقتدي به، صلى الله عليه وسلم؛ فنعرف لهذه الأيام فضلها، ونجتهد فيها، لعل الله أن يدركنا برحمته، ويدركنا بنفحة من نفحاته، تكون سبباً لسعادتنا في عاجل أمرنا وآجله.

أيها المسلمون إنكم في هذه الأيام تستقبلون عشرًا مباركة هي العشر الأواخر من شهر رمضان، جعلها موسمًا للإعتاق من النار، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخص هذه العشر بالاجتهاد في العمل أكثر من غيرها كما قالت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يجتهد في العشر الأواخر ما لم يجتهد في غيرها». (1صحيح مسلم)

و عنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم «إذا دخل العشر شد مئزره ، وأحيا ليله ، وأيقظ أهله». (2متفق عليه)

وهذا شامل للاجتهاد في القراءة والصلاة والذكر والصدقة وغير ذلك ، وأنه عليه الصلاة والسلام كان يتفرغ في هذه العشر لتلك الأعمال ـ فينبغي لك أيها المسلم الاقتداء بنبيك فتتفرغ من أعمال الدنيا أو تخفف منها لتوفر وقتًا للاشتغال بالطاعة في هذه العشر المباركة.

و”شدُ المئزر” كناية عن الاجتهاد في العبادة، يُقال للمجتهد في أمر: “شمَّر عن ساقيه”، كما يكنى به عن اعتزال النساء.

والمراد بقولها: «أحيا ليله» «عبرت عائشة عن القيام بالإحياء، دلالة على أن الأوقات التي لا تغتنم في طاعة الله تعالى أوقات ميتة”.

أي أحياه كله بالقيام والتعبد والطاعة وقد كان قبل ذلك يقوم بعضه، وينام بعضه، كما أمره الله في سورة “المزمل”.

ومعنى «أيقظ أهله»: أي زوجاته أمهات المؤمنين، ليشاركنه في اغتنام الخير والذكر والعبادة في هذه الأوقات المباركة.

وبهذا يعلمنا أن يتعهد المسلم أهله وأسرته بالتذكير بمواقع الخير، والأمر به، كما قال تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾ (طه: 132).

من صور الاجتهاد في العشر الأواخر

استحباب “الاعتكاف” فيها، و”الاعتكاف” هو: لزوم المسجد للتفرغ لطاعة الله عز وجل، وهو من السنة الثابتة بكتاب الله وسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم؛ قال الله تعالى: ﴿…وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ…﴾.

وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل، واعتكف أزواجه وأصحابه معه وبعده.

وعن أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، قالت: كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين يوماً. (3صحيح البخاري)

مقصود الاعتكاف

والمقصود بالاعتكاف كما ذكره الإمام ابن القيم:

“وشرَع لهم الاعتكاف الذي مقصود وروحه، عكوف القلب على الله تعالى وجمعيته عليه، والخلوة به، والإنقطاع عن الاشتغال بالخلق، والاشتغال به وحده سبحانه؛ بحيث يصير ذِكْره وحبُّهُ والإقبال عليه في محلِّ هموم القلب، وخطراته، فيستولى عليه بدلها، ويصير الهمُّ كلُّه به، والخطرات كلها بذكره، والتفكر في تحصيل مراضيه، وما يقرب منه.

فيصير أنسُهُ بالله بدلا عن أنسه بالخلق، فيعدُّه بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور، حين لا أنيس له، ولا ما يفرح به سواه، فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم.

ولما كان هذا المقصود إنما يتمُّ مع الصوم، شرع الاعتكاف في أفضل أيام الصوم، وهو العشر الأخير من رمضان، ولم ينقل عن النبيِّ أنه اعتكف مفطرا قطّ، بل قد قالت عائشة «لا اعتكاف إلاّ بصوم»، ولم يذكر الله سبحانه الاعتكاف إلاّ مع الصوم، ولا فعله رسول الله إلاّ مع الصوم.

فالقول الراجح في الدليل الذي عليه جمهور السلف أنّ الصوم شرط في الاعتكاف، وهو الذي يرجّحُهُ شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية”. (4زاد المعاد، فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف)

سر الاجتهاد في العشر الأواخر

وسر الاجتهاد والمبالغة في العشر الأواخر يكمن في أمرين:

الأول: أن هذه العشر، هي ختام الشهر المبارك، والأعمال بخواتيمها.

الثاني: أن ليلة القدر المباركة المفضلة أرجح ما تكون فيها، بل صحّت الأحاديث أنها تلتمس فيها.

فاللبيب الكيّس من اجتهد في هذه العشر، عسى أن يظفر فيها بهذه الليلة فيغفر له ما تقدم من ذنبه.

ليلة القدر

لقد نَوَّه القرآن، ونَوَّهَت السُّنَّة بفضل هذه الليلة العظيمة، وأنزل الله فيها سورة كاملة: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾.

عَظَّمَ القرآنُ شأنَ هذه الليلة، فأضافها إلى (القدْر) أي المقام والشرف، وأي مقام وشرف أكثر من أن تكون خيرًا وأفضل من ألف شهر. أي الطاعة والعبادة فيها خير من العبادة في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر.

و”ألف شهر” تساوي “ثلاثًا وثمانين سنة وأربعة أشهر”، أي أن هذه الليلة الواحدة أفضل من عمر طويل يعيشه إنسان عمره ما يقارب مائة سنة، إذا أضفنا إليه سنوات ما قبل البلوغ والتكليف.

وهي ليلة تتنزَّل فيها الملائكة برحمة الله وسلامه وبركاته، ويرفرف فيها السلام حتى مطلع الفجر.

وفي السنة جاءت أحاديث جمة في فضل ليلة القدر، والتماسها في العشر الأواخر ففي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه». (5رواه البخاري)

ويحذر النبي صلى الله عليه وسلم من الغفلة عن هذه الليلة وإهمال إحيائها، فيحرم المسلم من خيرها وثوابها، فيقول لأصحابه، وقد أظلهم شهر رمضان: «إن هذا الشهر قد حضركم، وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرِمَها فقد حُرِم الخيرَ كله، ولا يُحرم خيرها إلا محروم». (6رواه ابن ماجه من حديث أنس، وإسناده حسن)

وكيف لا يكون محرومًا من ضيع فرصة هي خير من ثلاثين ألف فرصة؟.

إن من ضيّع صفقة كان سيربح فيها (100%) يتحسر على فواتها أيّما تحسر، فكيف بمن ضيّع صفقة كان سيربح فيها “ثلاثة ملايين” في المائة؟!!.

وهي في الأوتار منها أحرى وأرجى، وفي مسلم أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: «الْتمِسوها في العَشرِ الأواخِرِ ـ يعْنِي: ليلَةَ القدْرِ ـ  فإنْ ضَعُفَ أحدُكم أوْ عَجَزَ، فلا يُغْلَبَنَّ علَى السَّبْعِ البواقِي». (7رواه مسلم (1165)) وقال صلى الله عليه وسلم: «الْتَمِسوها في السَّبع الأواخِرِ». (8رواه البخاريُّ (6991))

وقد ذهب كثير من العلماء إلى أنها لا تثبت في ليلة واحدة، بل تنتقل في هذه الليالي، فتكون مرة في ليلة سبع وعشرين ومرة في إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين أو تسع وعشرين.

وقد أخفى الله سبحانه علمها على العباد رحمة بهم، ليجتهدوا في جميع ليالي العشر، وتكثر أعمالهم الصالحة فتزداد حسناتهم، وترتفع عند الله درجاتهم ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾.

الحكمة من إخفاء ليلة القدْر

وأخفاها سبحانه حتى يتبين الجادّ في طلب الخير الحريص على إدراك هذا الفضل، من الكسلان المتهاون، فإن من حرص على شيء جدَّ في طلبه، وسهل عليه التعب في سبيل بلوغه والظفر به، فأروا الله من أنفسكم خيراً واجتهِدوا في هذه الليالي المباركات، وتعرّضوا فيها للرحمات والنفحات؛ فإن المحروم من حُرم خير رمضان، وإن الشقيّ من فاته فيه المغفرة والرضوان، يقول النبي، صلى الله عليه وسلم: «رغِمَ أنف من أدرك رمضان ثم خرج ولم يُغفر له». (9رواه ابن حبان والحاكم وصححه الألباني)

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أقول؟ قال: قولي: «اللهم إنك عفوُّ كريم تحبُّ العفو فاعف عني». (10رواه الإمام أحمد، والترمذي (3513)، وابن ماجة (3850)، وسنده صحيح)

خاتمة .. الدعاء للمستضعفين

وفي هذه الأيام المباركة والشهر الكريم، وفي ليلة القدْر نوصي المسلمين بأن يخصوا في دعائهم في هذه العشر إخوانهم المسلمين بالدعاء بتفريج الكروب، والنصر على الاعداء المتكالبين على الأمة في كل مكان، وخاصة سوريا واليمن ومصر وفلسطين وغيرها، وأن يبطل سبحانه كيد العدو من صليبي وصهيوني وعلماني ورافضي.

وأن ينصر الله تعالى المستضعفين من المسلمين والمسلمات في كل مكان، ما بين سجين وجريح ومشرد ومطارَد، ضاقت به الأرض واكفهرت في وجهه الوجوه.

ثمة أيدي ترتفع كل لحظة لربها أن يجعل تعالى لها فرجا ومخرجا. فلتكن يدك مع أيديهم في الدعاء إن عجزت أن تكون معهم في مواجهة العدو. والله تعالى الناصر والغالب.

………………………………………………………

هوامش:

  1. صحيح مسلم.
  2. متفق عليه.
  3. صحيح البخاري.
  4. زاد المعاد، فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف.
  5. رواه البخاري.
  6. رواه ابن ماجه من حديث أنس، وإسناده حسن.
  7. رواه مسلم (1165).
  8. رواه البخاريُّ (6991).
  9. رواه ابن حبان والحاكم وصححه الألباني.
  10. رواه الإمام أحمد، والترمذي (3513)، وابن ماجة (3850)، وسنده صحيح.

 اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة