إن الإسلام يوحد في داخل النفس وفي واقع الحياة بين أشياء كثيرة تفرق بينها انحرافات البشرية المعاصرة بغير وجه حق ، والأصل فيها هو الترابط وليس الانفصال.

الإسلام يوحد في داخل النفس وفي واقع الحياة بين أشياء كثيرة فرقتها الجاهلية

يوحد بين الروح والمادة ، وبين الجسد والروح .

ويوحد بين الدين والعلم وبين الدين وعمارة الأرض.

وبين الدين والحياة .

ويوحد أخيرا بين الدنيا والآخرة .

ولنتكلم كلمات قليلة عن كل لون من ألوان الوحدة هذه التي يقدمها الإسلام .

الإسلام يوحد الروح والجسم

فأما الروح والجسم، أو الروح والمادة فهما أصيلان في التكوين البشري: (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) [ص:71 – 72].

وهما مترابطان منذ مولد الإنسان بغير افتراق. وتاريخه كله مصداق هذه الحقيقة. ولكن جاهليات التاريخ تنحو دائما إلى التفريق بينهما بإعطاء كل منهما طريقا يفترق عن طريق الآخر، وبتضخيم جانب منهما على حساب الجانب الآخر.

بعض جاهليات التاريخ تضخم جانب الروح على أساس أنها الجوهر الحقيقي في الإنسان، وتحتقر الجسد وتترفع عليه، وتنظر إليه على أنه دنس غير خليق بالتكريم، إنما حقه الازدراء والتحقير والإرهاق والتعذيب ! كما تحتقر الجانب المادي من الحياة باعتباره هو الجانب اللاصق بالجسد، أي اللاصق بالطين !

وجاهليات أخرى تضخم جانب الجسد والمتاع الحسي وتعتبر أنه هو الأصل، وأن الروح خيال جميل لا واقع له ! أو أمر ثانوي في حياة الإنسان ! أو معوق عن الانطلاق ! ومن ثم تروح تهتم اهتماما بالغا بالانتاج المادي، والتعمير المادي، وتكاد تهمل الانتاج الروحي وعمارة الروح. وكلاهما يقيم وجوده على أساس باطل . هو افتراض وجود ذلك التناقض بين الجسد والروح الذي لا سبيل إلى التوفيق بين عنصريه إلا بكبت أحدهما لحساب الآخر، فإما أن يكبت الجسد لتنطلق الروح، وإما أن تكبت الروح ليتحقق الانطلاق المادي .

ولكن الذي يحدث في عالم الواقع أن الكبت ـ في كلتا الحالتين – لا يؤدي إلى الخير.

فكبت الجسد وقتل حيويته – فضلا عن مخالفته للفطرة – يؤدي إلى تعطيل الطاقات البشرية، والتأخر المادي والحضاري، والفقر والبؤس والكآبة والتشاؤم واليأس !

وكبت الروح وطمس شفافيتها يؤدي إلى القلق النفسي من ناحية، وإلى السعار الجسدي الذي لا يرتوي مهما أغرق في الشهوات، وإلى التكالب على المتاع الأرضي الذي يؤدي حتما إلى الصراع على نطاق الأفراد والجماعات والدول والشعوب !

وتلك كلها عوارض مرضية تدل على أن مخالفة للفطرة قد حدثت فنشأ عنها الاختلال.

والإسلام يعطي البديل المتوازن الذي يؤلف بين الروح والجسد ولا يقيم بينهما التناقض ولا الصراع !

إنه لا يقر أصلا بوجود ذلك التناقض الذي لا سبيل إلى التوفيق بين عنصريه.

نعم إن الجسد والروح عنصران مختلفان ولكنهما ـ في الإنسان – ممتزجان، والاضطراب لا يحدث من اجتماعهما في الكيان البشري الموحد، إنما يحدث من طغيان أحدهما على الآخر بما يفقد الإنسان توازنه الفطري الذي سواه به الله وعدله: (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك) [الانفطار:6-7].

فالاعتدال ـ أي التوازن – هو في أصل الخلقة، الربانية ، ولكن الإنسان بجهالته هو الذي يخل بهذا التوازن، وعندئذ يحدث الاختلال والاضطراب في كيان النفس وفي واقع الحياة، كما يقرر الواقع المشهود، وكما بين كاتب مثل ألكسيس كاريل في كتابه البديع “الإنسان ذلك المجهول” – وهو طبيب عالم، لا شاعر ولا فنان ! – حيث بين أن جهلنا الشديد بطبيعة الإنسان، وإهمالنا العنصر الروحي فيه، وإنشاءنا نظما اقتصادية واجتماعية وسياسية مبنية على هذا الجهل، هو الذي يجعلنا ننحدر إنسانيا كلما تقدمنا علميا وحضاريا !

والإسلام هو الذي يعيد للإنسان توازنه واعتداله الذي خلقه به الله، ذلك بإجراء واقعي بسيط ولكنه بعيد الأثر: هو إشراك الروح والجسد في كل أمر من أمور الحياة !

الصلاة ليست تسبيحة روحية فحسب، ولكنها إلى جانب ذلك حركات يقوم بها الجسد بالقيام والركوع والسجود، إلى جانب تدبر فكري واع يقوم به العقل في الآيات المستخدمة في الصلاة.

والطعام والشراب والجنس – على الجانب الآخر – ليست حركات جسدية خالصة، ولكنها إلى جانب ذلك توجه روحي، يقرأ عليها اسم الله لتزكيتها، ويلتزم فيها بالحلال والحرام، فتصبح موصولة بالله.

وأي عمل من أعمال الإنسان على الإطلاق لا بد أن يقع بين هذين الطرفين، ومن ثم يدخل في هذا النظام الشامل الذي يربط الروح بالجسد، ويربط الروح بالمادة ويربط الأرض بالسماء !

الإسلام يوحد بين الدين والعلم

إن في الإنسان نزعة فطرية إلى العبادة – أي إلى التدين – حتى ولو كانت العبادة فاسدة ومنحرفة عن الحق ! وفيه كذلك نزعة فطرية إلى التعرف على أسرار الكون المادي من حوله، وإخضاعها لسيطرة الإنسان. وهاتان النزعتان أصيلتان في الفطرة على درجة واحدة من الأصالة، ثم إنه لا يوجد بينهما تناقض ولا تنافر ولا صراع. ولكن انحرافات البشر هي التي يمكن أن تقيم الصراع والفرقة بين هاتين النزعتين الفطريتين. وقد حدث هذا الانحراف بالفعل في أوروبا في بدء النهضة عندما قام رجال الدين يحاربون العلم والعلماء، ويهددون علماء مثل كوبرنيكوس وجاليليو وجوردانو برونو بالحرق والتعذيب والقتل، لغير شيء سوى أنهم نادوا بأفكار علمية أثبتت الأيام صحتها فيما بعد.

وقد يكون خارجا عن موضوعنا أن نقول إن هذا الصراع كان منشؤه العصبية الدينية الحقيقة ، فإن رجال الدين هؤلاء قد حاربو هذا العلم لأنه – كما أثبت التاريخ – كان مأخوذا عن علماء المسلمين !

وأيا كان السبب في هذا الصراع، فلم يكن الدين السماوي المنزل هو السبب فيه، إنما كان ناشئا عن انحرافات بشرية بحتة، لا علاقة لها بالحق المنزل من عند الله. وكلما امتد خط الزمن زادت الفرقة وزاد الصراع، حتى أصبح ذكر اسم الله في البحث العلمي يعتبر في حس الرجل الأوروبي العادي إخلالا بروح البحث العلمي، وخلطا لا ينبغي أن يحدث بين عنصرين غير قابلين للامتزاج كما يقول دارون في أحد كتبه: “إن تفسير النشوء والارتقاء بتدخل الإرادة الإلهية يكون بمثابة إدخال عنصر خارق للطبيعة في وضع ميكانيكي بحت !

هذا التصور الخاطئ للموضوع ـ حتى وإن كان أمرا واقعا في أوروبا ـ لا يمضي في طريقه دون إخلال بتوازن الإنسان وأمنه . إنه يحدث صراعا وتمزقا داخل النفس، بين عنصرين أصيلين فيها، كل منهما يحتاج إلى إشباع، فحين يشعر الفرد أن إشباعه لحاجته الروحية أمر خارج عن نطاق العلم، وإشباعه لحاجته العلمية أمر خارج عن نطاق الدين، ويشعر في الوقت ذاته أنهما طريقان مفترقان ولا يلتقيان يكون في الحقيقة عابداً لإلهين متنافرين، كل منهما يتطلب من عابده سلوكا ومنهجا وطريقة تصور مختلفة عن متطلبات الإله الآخر، في الوقت الذي لا غنى له عن عبادة الإلهين ! فيتمزق بينهما شعر أو لم يشعر، ويكون هذا عنصرا من عناصر القلق في كيانه النفسي .. إذا غلب على أمره في هذا الصراع فهو في الغالب يخضع لإله العلم، لأنه هو الذي يزوده بمطالب حياته اليومية، وينبذ إله الدين لأنه – في حسه ـ متعلق بعالم آخر ليس حاضرا في هذه اللحظة، هذا إن آمن بوجود هذا العالم الآخر على الإطلاق !

والإسلام – في بساطته الفطرية – يزيل ذلك التناقض بإجراء واقعي بسيط وبعيد الأثر في ذات الوقت .

إن الله الذي يتعبد إليه الإنسان في صلاته، هو ذاته الذي منح الإنسان المعرفة أول مرة، وهو الذي يدعوه إلى التعلم والمعرفة الآن: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا) [البقرة:۳۱] (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق:١ – ٥] ويدعوه إلى التدير في أسرار الكون: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [البقرة:١٦٤] ويحدثه بأن الله سخر له ما في السماوات والأرض جميعا (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ) [الجاثية:١٣] وما عليه إلا أن يتعلم السنن الكونية التي يجري بها الله أمور هذا الكون ليحقق هذا التسخير بجهده الجسمي والعقلي: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ) [الملك:١٥].

وبذلك يتوحد المتجه ويتوحد الإله !

ليست المعرفة البشرية مسروقة من الله قهرا عنه كما تصورها أسطورة بروميثيوس، إنما هي منحة ربانية وهبها للإنسان، ولا يحتاج الإنسان أن يعصي الله ليتعلم، لأن الله هو الذي يأمره بالمعرفة ! والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: “طلب العلم فريضة” ولا يشعر الإنسان بالإثم حين يسخر طاقات السماوات والأرض لمنفعته ولا أنه يصنع ذلك تمردا على إرادة ربانية تريد أن تكبته وتسحقه كما تصور الأساطير الإغريقية علاقة الإنسان بالألهة، لأن الله هو الذي سخر له طاقات هذا الكون وأمره بعمارة الأرض: (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) [هود:٦١] ولا يشعر أخيرا أنه يعبد إلهين متنافرين لكل منهما مطالب تختلف عن مطالب الآخر إنما هو إله واحد، طلباته واحدة في كل حالة. طلباته في الصلاة هي تقوى الله، وطلباته في العلم كذلك هي تقوى الله، فلا تستخدم ثمرات هذا العلم في الطغيان في الأرض بغير الحق، كما تستخدم الطاقة الذرية اليوم. ولا تستخدم في إفساد العقائد كما استخدمت إيحاءات الداروينية في تحطيم العقيدة. ولا تستخدم في إفساد الاخلاق كما تستخدم حبوب منع الحمل لتشجيع الفاحشة وكما تستخدم وسائل الإعلام في نشر الجريمة وإثارة الشهوات !

كذلك لا يشعر الإنسان أن الجهل والعجز فقط هما اللذان يخضعانه لله كما يقول جوليان هكسلي في كتابه “Man in the Modern World” وإنه حين يتعلم ويسيطر على البيئة يتمرد على الله ويصبح هو الله، إنما يزداد قربا من الله وتقوى كلما ازداد علما: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر:۲۸] ويطلب من ربه أن يزيده من العلم: (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) [طه:١١٤] وبذلك يظل قلبه مرتبطا بالله وهو يتعلم، و يسير في الأرض مطمئنا وهو يسخر ثمار العلم للخير كما يقف مطمئنا إلى الله في الصلاة.

الإسلام يوحد بين الدين والحياة

لقد خرجت الحياة عن نطاق الدين في أوروبا لظروف محلية ليست في أصل الدين. وتصور الغربي أن الدين علاقة بين العبد والرب محلها القلب، وأن الحياة جهد بشري خالص لا علاقة لله به هو تصور خاطئ جاء به الغربي من عند نفسه لا بأمر من وحي السماء، وإذا كان الغربي يحاول أن يسند تصوره بذلك بالقول المنسوب إلى المسيح عليه السلام: “دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله” فإنه لا يتصور أبدا أن يقول المسيح للناس إن الله هو رب السماء وقيصر رب الأرض يتصرف فيها كما يشاء ! فذلك مناقض لأصل الدين كله، الذي يقول إن لله ملك السماوات والأرض، وإن قيصر ومن في الأرض جميعا ينبغي أن يخضعوا لحكم الله.

إنما معنى العبارة – إن ثبتت نسبتها للسيد المسيح – هي أنه لا يأمر أتباعه – يومئذ – بإعلان الحرب على القيصر، ويوجههم أن يؤدوا له الضرائب التي يطلبها إلى حين قيام الدولة التي تحكم بما أنزل الله وتخضع القيصر ذاته لحكم الله، ومثل ذلك موجود في الإسلام فقد قال الله للمسلمين في مكة قبل قيام الدولة الإسلامية (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) [النساء: ۷۷] ولكن لم يفهم أحد من المسلمين من هذا التوجيه أن الدين علاقة خاصة بين العبد والرب محلها القلب، وأن واقع الحياة اليومية يحكمها القيصر أو غيره من المشركين كما يشاءون ! إنما كان هذا الأمر لفترة مرحلية، جاء بعدها إقامة المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية وإخضاع الحياة كلها لحكم الله، وصاحب ذلك إنزال تشريعات مفصلة تحكم كل واقع الحياة .

وقد كان من نتيجة التفسير البشري الخاطئ لنطاق الدين ومقتضياته أن ظلت الحياة الواقعية تزداد بعدا عن الدين على الدوام بمرور الزمن حتى خرجت عن نطاقه نهائيا في العصر الحديث، فسارت السياسة على النهج الميكيافيللي الذي يبرر الكذب والخديعة والنفاق والغش والقتل والاغتيال والنصب والاحتيال في عالم السياسة وكله حرام في دين الله.

وسار الاقتصاد على الربا وهو محرم في دين الله، وسارت العلاقات الاجتماعية على النفاق الاجتماعي مع العزلة الفردية الشعورية البغيضة التي يتحدث عنها الدوس هكسلي في كتابه: “”Texts and Pretexts فيقول إن كل إنسان أصبح كأنه جزيرة وحده لا يربطها شيء بالجزر الأخرى المتناثرة في محيط الحياة وذلك مخالف لأمر الدين، وسارت العلاقات الجنسية على إباحة الفاحشة وجعلها أصلا معترفا به وهي محرمة في دين الله.

ثم كان من نتائج ذلك كله ما كان في واقع الأرض من فساد وتحلل واضطراب.

إن مخالفة قوانين الفطرة كما يقول ألكسس كاريل في كتابه: L’Homme Cet Inconnu””

لا يمكن ان تمضي بغير عقاب صارم، لأنها حاسمة كقوانين الطبيعة ! وهذه الفوضى وهذه الاضطرابات التي تغمر وجه الأرض اليوم هي العقوبة الصارمة على مجافاة قوانين الفطرة التي خلقها الله .

والعليم بهذه الفطرة هو خالقها سبحانه وتعالى وليس الإنسان !

بل إن الإنسان أجهل ما يكون بنفسه كما يقرر ألكسيس كاريل بحق، إذ يقول: إن الإنسان قد تعلم أشياء كثيرة جدا عن الكون من حوله ولكن جهله بنفسه جهل أصيل لا سبيل إلى التغلب عليه، لأنه يرى نفسه من خلال شهواته وأهوائه.

والله العليم بهذه الفطرة وبما يصلح لها ويصلحها، هو الذي نزل هذا الدين ليحكم حياتها الواقعة كما يحكم صلاتها الخاصة بالله سواء بسواء، وبإجراء واحد مبسط وعميق الأثر يربط الإسلام بين الدين والحياة كما يربط بين الدنيا والآخرة في ذات الوقت .

فالدين عقيدة وشريعة: عقيدة تحكم صلات القلب بالله ، وشريعة تحكم واقع الحياة باسم الله، فيكون المتجه في الحالتين إلى الله، ويكون المعبود إلها واحدا، يعبد في المعبد في ساعة الصلاة، ويعبد هو ذاته بتنفيذ شريعته في بقية شئون الحياة.

وتكون السياسة بذلك سياسة إسلامية ، والاقتصاد اقتصادا إسلاميا وعلاقات المجتمع علاقات إسلامية، وعلاقات الجنسين علاقات إسلامية والفكر والفن إسلاميين، وكذلك بقية ألوان النشاط البشري.

وتتنزل الشريعة شاملة للسياسة والاقتصاد والاجتماع وعلاقات الأسرة وعلاقات الرجل والمرأة وعلاقات الفكر وعلاقات العلم وعلاقات الفن .

كما تشمل العلاقات الدولية في السلم والحرب سواء.

ويعلم الله منزل هذه الشريعة أن هناك أمورا ثابتة في حياة البشر وأمورا أخرى تنمو وتتغير، ولا يريد لها الله سبحانه وتعالى أن تجمد وتقف عن النمو، فينزل في شريعته للأمور الثابتة تفصيلات كاملة غير قابلة للتغيير، وللأمور المتغيرة أصولا ثابتة ولكنها تسمح بالنمو المستمر في داخل إطارها ويتم ذلك باجتهاد العقل المؤمن لاستنباط الأحكام المتغيرة من الشريعة الثابتة بما يواكب النمو السليم لركب الحياة .

وهو الجهد الضخم الذي قام به فقهاء الإسلام خلال التاريخ. وبذلك يتم الترابط الدائم بين الدين والحياة: لا تجمد الحياة على صورة واحدة ولا تخرج في نموها كذلك عن إطار الدين، كما قال الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: “يجد للناس من الأقضية بقدر ما يجد لهم القضايا”.

الإسلام يوحد أخيرا بين الدنيا والآخرة

وعن طريق هذا الترابط يتم كذلك توحيد طريق الدنيا والآخرة . فقد نشأ عن افتراق الدين والدنيا في انحرافات البشرية أن انفصلت الدنيا عن الآخرة في حس الناس، وأصبحت هناك أعمال مستقلة تعمل من أجل الدنيا وحدها، وأعمال أخرى تعمل من أجل الآخرة وحدها .. ولا يلتقيان !

والإسلام – على منهجه ـ يوحد طريق الدنيا والآخرة ويجعلهما طريقا واحدا لا طريقين ! طريق أوله في الدنيا وآخرة في الآخرة .

ولكنه هو ذاته بغير تغيير !

(وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) [القصص:۷۷].

(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [الأعراف:32].

لا يوجد في الإسلام عمل هو للدنيا وحدها أو للآخرة وحدها ولكنه دائما لهذه وتلك في ذات الوقت !

الصلاة التي يظن أنها للآخرة وحدها للدنيا كذلك في ذات الوقت لأن الله يقول: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ) [العنكبوت:45] والنهي عن الفحشاء والمنكر لا بد أن يكون هنا في الدنيا! أي أن للصلاة ثمرة مقصودة تتم هنا في الحياة الدنيا ويثاب عليها في الآخرة .

وعلاقات الجنس التي يظن أنها للدنيا وحدها مرتبطة في حس المسلم بالآخرة . يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : “وإن في بضع أحدكم لأجرا -أي في اتصاله بزوجته- قالوا: يا رسول الله ! إن أحدنا ليأتي زوجه شهوة منه ثم يكون له عليها أجر؟! قال: أرأيتم لو وضعها في حرام، أليس عليه فيها وزر؟ قالوا: بلى ! قال : فإذا وضعها في حلال فله عليها أجر !” وهكذا تتصل الدنيا بالآخرة في حس المسلم عن طريق التزامه في كل شأن من شئونه بما أنزل الله فيعمل العمل في الدنيا – من أجل الدنيا – وقلبه متطلع إلى ثواب الله في الآخرة ما دام يعمل بمقتضى أوامر الله.

المصدر

كتاب: “ماذا يعطي الإسلام للبشرية: محمد قطب رحمه الله، ص10-24.

اقرأ أيضا

النظام الخلقي في الإسلام (1) في ظل العقيدة

النظام الخلقي في الإسلام (2) خصائص متفردة

كُلُّ ديِن منهَج حَيَاة

الإسـلام شريعـة تحكـم حيـاة الأمـة

التعليقات غير متاحة