للإسلام هدفه الذي يستهدف تحقيقه في حياة البشرية. وللإسلام طريقُه في تحقيق هدفه. وما من خير للبشرية إلا ويبدأ بتوحيد الله والتلقي منه بلا شريك.

مقدمة

لم ينزل الإسلام إلا لتحقيق الحالة المثالية للبشرية، فردا ومجتمعا. يهدف الإسلام الى تحقيق حالة الأمن النفسي وأمن الأرزاق وأمن المجتمعات، والتعامل الذي يضمن حماية العقيدة أولا ـ لما يترتب عليها من أمن أو ضياع الدنيا والآخرة ـ وأمن الدماء والأموال والنسل البشري.

قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107] وقال عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: 57 -58]. وقال سبحانه: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [إبراهيم: 1].

يتبين لنا من هذه الآيات، وما في معناها أن هذا الدين الذي أرسل به محمد صلى الله عليه وسلم، والوحي الذي أنزل إليه إنما هو رحمة وأمن، وسلام وخير للبشرية جمعاء؛ إن هي أخذت به، واستسلمت به. والمتأمل في هذا الدين، عقيدةً وأحكاما وآدابا وأخلاقا، يرى اليسر والرحمة والسلام والسعادة واضحة بجلاء. فالحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

انطلاق الصحابة بالرسالة

ولقد اختصر هذا المعنى ربعی بن عامر رضي الله عنه عندما سأله قائد الفرس عن سبب غزوهم لبلادهم فقال: «إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة».

وقبل ذلك أجاب جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه النجاشي ملك الحبشة عندما سأله عن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فقال: «أيها الملك. كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، نقطع الأرحام ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف؛ فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه، وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله وحده لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرَنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الأرحام، وحُسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرَنا أن نعبد الله عز وجل، ولا نشرك به شيئا وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام».

طريقة الإسلام في تحقيق السلام العالمي

ويعلق سید قطب رحمه الله تعالى على قوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ۚ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [المائدة: 15-16]؛ فيقول:

“لقد رضي الله الإسلام دينا، وهو يهدي من يتبع رضوانه هذا ويرتضيه لنفسه كما رضيه الله له يهديه «سبل السلام»..

وما أدق هذا التعبير وأَصْدَقَه؛ إنه «السلام» هو ما يسكبه هذا الدين في الحياة كلها، سلام الفرد. وسلام الجماعة. وسلام العالم، سلام الضمير، وسلام العقل، وسلام الجوارح، سلام البيت والأسرة، وسلام المجتمع والأمة، وسلام البشر والإنسانية، السلام مع الحياة، والسلام مع الكون، والسلام مع الله رب الكون والحياة. السلام الذي لا تجده البشرية ـ ولم تجده يوما ـ إلا في هذا الدين؛ وإلا في منهجه ونظامه وشريعته، ومجتمعه

الذي يقوم على عقيدته وشريعته.

حقا إن الله يهدي بهذا الدين الذي رضيه، من يتبع رضوان الله، «سُبُل السلام». سبل السلام كلها في هذه الجوانب جميعها. ولا يدرك عمق هذه الحقيقة كما يدركها من ذاق سبل الحرب في الجاهليات القديمة أو الحديثة. ولا يدرك عمق هذه الحقيقة كما يدركها كلُ من ذاق حرب القلق الناشيء من عقائد الجاهلية في أعماق الضمير، وحرب القلق الناشيء من شرائع الجاهلية وأنظمتها وتخبطها في أوضاع الحياة.

وقد كان المخاطَبون بهذه الكلمات أول مرة يعرفون من تجربتهم في الجاهلية معنى هذا السلام، إذ كانوا يذوقونه مذاقا شخصيا؛ ويلتذّون هذا المذاق المريح.

وما أحوجَنا نحن الآن أن ندرك هذه الحقيقة؛ والجاهلية من حولنا ومن بيننا تذيق البشرية الويلات، من كل ألوان الحرب في الضمائر والمجتمعات قرونا بعد قرون..!

ما أحوجَنا نحن الذين عشنا في هذا السلام فترة من تاريخنا؛ ثم خرجنا من السلام إلى الحرب التي تحطم أرواحنا وقلوبنا، وتحطم أخلاقنا وسلوكنا، وتحطم مجتمعاتنا وشعوبنا، بينما نملك الدخول في السلم الذي منحه الله لنا؛ حين نتبع رضوانه؛ ونرضى لأنفسنا ما رضيه الله لنا..!

إننا نعاني من ويلات الجاهلية والإسلام منا قريب، ونعاني من حرب الجاهلية وسلام الإسلام في متناول أيدينا لو نشاء؛ فأية صفقة خاسرة هذه التي نستبدل فيها الذي هو أدنى بالذي هو خير..؟ ونشتري فيها الضلالة بالهدى..؟ ونؤثر فيها الحرب على السلام..؟

إننا نمتلك إنقاذ البشرية من وَيلات الجاهلية وحربها المشبوبة في شتى الصور والألوان، ولكننا لا نملك إنقاذ البشرية، قبل أن ننقذ نحن أنفسنا، وقبل أن نفيء إلى ظلال السلام، حين نفيء إلى رضوان الله، ونتبع ما ارتضاه، فنكون من هؤلاء الذين يقول الله عنهم إنه يهديهم سبل السلام.

والجاهلية كلها ظلمات؛ ظلمة الشبهات والخرافات والأساطير والتصورات، وظلمة الشهوات والنزعات والاندفاعات في التيه، وظلمة الحيرة والقلق والانقطاع عن الهدى، والوَحشة من الجانب الآمن المأنوس. وظلمة اضطراب القيم وتخلخل الأحكام والقيم والموازين. والنور هو النور.. هو ذلك النور في الضمير وفي العقل وفي الكيان وفي الحياة وفي الأمور..

﴿وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ .. مستقیم مع فطرة النفس ونواميسها التي تحكمها. مستقیم مع فطرة الكون ونواميسه التي تصرفه. مستقيم إلى الله لا يلتوي ولا تلتبس فيه الحقائق والاتجاهات والغايات”. (1انظر: في ظلال القرآن 2/ 862-863)

معاناة كل جاهلية

ولا يتبين ما في هذا الدين من رحمة وأمن وسلام، وخير للبشرية إلا حينما نستعرض وضع البشرية المنكودة، وما عاشته من تیه ورکام قبل مجيء الإسلام، وكذلك حال الأمم الكافرة في واقعنا المعاصر، وما هي عليه من نكد وحيرة واضطراب وشقاء وعناء، وظلم وشريعة غاب يأكل فيها القوي الضعيف، ويعيش الناس فيها عيشة البهائم العجماوات.

ويذكر سيد قطب رحمه الله تعالى صورا من ركام الجاهلية ورجسها وعَنَتها في القديم والحديث فيقول:

“ومن أرجاسها؛ وأصل هذه الأرجاس جميعا الشرك والوثنية الهابطة الساذجة؛ كما يصورها في إجمال الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه:

(انغمست الأمة في الوثنية، وعبادة الأصنام بأبشع أشكالها. فكان لكل قبيلة أو ناحية أو مدينة، صنم خاص، بل كان لكل بيت صنم خصوصي. قال الكلبي: كان لأهل كل دار من مكة صنم في دارهم يعبدونه، فإذا أراد أحدهم السفر، كان آخر ما يصنع في منزله أن يتمسح به. وإذا قدم من سفره كان أول ما يصنع إذا دخل منزله أن يتمسح به أيضا. واشتهرت العرب في عبادة الأصنام، فمنهم من اتخذ بيتا، ومنهم من اتخذ صنما، ومن لم يقدر عليه ولا على بناء بيت نصب حجرا أمام الحرم، وأمام غيره مما استحسن، ثم طاف به كطوافه بالبيت، وسموها الأنصاب).

ويكفي أن يتصفح الإنسان هذه الصورة البدائية الغليظة من الوثنية، ليعرف أي رجس كانت تنشره في القلوب والتصورات وفي واقع الحياة..! ويدرك النقلة الضخمة التي نقلها الإسلام للقوم، والطهارة التي أسبغها على تصوراتهم وعلى حياتهم سواء.

ومن هذه الأرجاس تلك الأدواء الخلقية والاجتماعية، التي كانت في الوقت ذاته من مفاخرهم في أشعارهم..! ومن مفاخراتهم في أسواقهم..! من الخمر إلى القمار إلى الثارات القبلية الصغيرة، التي تشغل اهتماماتهم، فلا ترتفع على تلك التصورات المحلية المحدودة..

هانت عليهم الحرب، وإراقة الدماء حتى كانت تثيرها حادثة ليست بذات خطر. فقد وقعت الحرب بين بكر وتغلب ابني وائل، ومكثت أربعین سنة أريقت فيها دماء غزيرة، وما ذاك إلا أن كليبا رئیس معد، رمی ضرع ناقة “البسوس بنت منقذ” فاختلط دمها بلبنها، وقتل جساس بن مُرة كليبا، واشتبكت الحرب بين بكر وتغلب. وكان كما قال المهلهل أخو كليب: «قد فنيت الحياة، وثكلت الأمهات، ويُتّم الأولاد. دموع لا ترقأ، وأجساد لا تدفن…

وكذلك حرب داحس والغبراء. فما كان سببها إلا أن داحسا ـ فرس قیس بن زهير ـ كان سابقا في رهان بين “قيس بن زهير” و”حذيفة بن بدر”، فعارضه أسدي بإيعاز من حذيفة، فلطم وجهه وشغله، ففاتته الخيل. وتلا ذلك قتل، ثم أخذ بالثأر. ونصْر القبائل لأبنائها، وأسْر، ونزح للقبائل، وقُتل في ذلك ألوف من الناس.

وكان ذلك علامة فراغ الحياة من الاهتمامات الكبيرة التي تشغلهم عن تفريغ الطاقة في هذه الملابسات الصغيرة، إذ لم تكن لهم رسالة للحياة، ولا فكرة للبشرية، ولا دور للإنسانية، يشغلهم عن هذا السفساف. ولم تكن هناك عقيدة تطهرهم من هذه الأرجاس الاجتماعية الذميمة”. (2في ظلال القرآن1 / 508  -510 (مع تقديم وتأخير) واختصار)

خاتمة

أخيرا نختم بهذا التساؤل الذي أطلقه سيد قطب رحمه الله:

وماذا يكون الناس من غير عقيدة إلهية؟ ماذا تكون اهتماماتهم؟ وماذا تكون تصوراتهم؟ وماذا تكون أخلاقهم..؟”. (3المصدر السابق)

الهوامش:

  1. انظر: في ظلال القرآن 2/ 862-863.
  2. في ظلال القرآن1 / 508 -510 (مع تقديم وتأخير) واختصار.
  3. المصدر السابق.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة