لكل أمة شريعة ونظام، ينبعان من عقيدته وهويته..
وتترجم كل أمة عقيدتها وقيمها في قانونها الذي تختاره، فتختار مصدر القانون تبعا لمعتقدها وما يفرضه عليها، وتبعا لتصورها للحياة ووظيفتها في الوجود..
هناك أمة تتلقى قانونها من فرد حاكم، وقد تقدسه.. وأمم تضع قانونها من خلال تطور حياتها وما تفرضه مشكلاتها وما يراه من يوسمون بأنهم (حكماء)، وبحسب خبراتهم وتجاربهم وميولهم وأهوائهم ومدى التأثيرات عليهم من ميول أو نزعات أخلاقية أو عرقية أو غير ذلك.. فيستقلون بالتشريع ويتحكمون في المخلوق الإنساني عظيم المكانة، ويعتدون على حق الله تعالى في أن يأمر عبيده الذين خلقهم ﴿ألا له الخلق والأمر﴾ كما أنهم يفسدون الحياة بتعديهم وجهلهم وقصورهم..
موجِب حق التشريع
حق التشريع هو حق لمن يملك الخلق والوجود، وهو حق لمن له العلم المطلق والعدل المطلق والرحمة المطلقة البالغة الشاملة، وله الحكمة المطلقة التي لا تتخلف عن محل..
هي حق لمن له العلم بالوجود كله ووظيفة كل مخلوق فيه، ولمن له العلم بالأزل والأبد، ولمن له العلم بتراكيب هذا الكون ووظيفة الوجود الإنساني فيه..
لمن له العلم بالغيب كله، وبالقادم من غيب مستقبلي، ولمن يملك الجزاء الدقيق، ومن يملك الموت والحياة، ومن يملك نشأة هذا المخلوق وامتداده، ومن يملك الخلود والمصير بعد الموت.
[اضغط لمعرفة: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك]
موقف أمة محمد من قضية التشريع
وأما أمة محمد، صلى الله عليه وسلم، فهي أمة الإسلام، والتي تمثل الحلقة الأخيرة للدين الواحد الذي حملته قبلها أمم جاءتهم رسلهم برسالات سابقة..
توجُّه أمة محمد هو توجه عقدي؛ فموجِب قيامها هو الإسلام، وقطب رحاها وهويتها هو الإسلام، ونظامها وقانونها وقيمها وأخلاقها هو ترجمة عن الإسلام وتمثيل له وتحقيق له من خلال واقع اجتماعي واقتصادي وسياسي، وتوجيه أخلاقي، ونشاط فكري وفني، ومن خلال أنظمة وأنشطة.. تحقق قيمه وأحكامه وأخلاقه، بكل ما فيها من خير وعدل وإحسان وتوازن..
من هنا كان الإسلام شريعة تحكم الحياة، لا يتصور المسلم جريان الحياة بدون هيمنة هذا الدين إذ هو مشروعه الذي يحققه، وهو المنهج الذي يمثل عقيدة المسلم، ويمثله المسلم من خلال واقعه، حياة ومعايشة، ودعوة وبيانا..
الشريعة “القانون الإلهي”
لـغــة
الشريعة: من شرع بمعنى سن: ابتدأ، أظهر (بَيَّن ـ وأوضح).
والشريعة في كلام العرب:
1- مشروعة الماء وهي مورد الشاربة (مورد الماء) التي يشرعها الناس فيشربون منها ويسقون.
2- وهي الطريق الأعظم.
3- وهي الصراط المستقيم.
اصطلاحـًا
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
“الشريعة إنما هي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه السلف من العقائد والأحوال والعبادات والأعمال والسياسات والأحكام والولايات والعطيات”.(1)
قال تعالى:
﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئاً وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾ [الجاثية: 18- 19].
1- (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ):
يبين الله سبحانه وتعالى أن المرء لا مناص له من أن يتبع أحد أمرين:
- إما شريعة الله التي جعل الله سبحانه وتعالى عليها رسوله صلى الله عليه وسلم.
- وإما أهواء الذين لا يعلمون.
وقـد نهـى سبحانــه وتعـالى رسولــه صلى الله عليه وسلم عن اتبــاع أهـواء الذين لا يعلمون تشريعًـا للأمـة من بعـده.
فعلى المسلـم ألا ينحـرف عـن شيء مـن الشريعـة (القانـون الربـاني) إلى شيء من الأهـواء (القانـون الوضعـي ـ العـادات والتقاليـد المخالفـة لقانـون الله ـ أو غير ذلك من الأهواء).
قال تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة: 50].
يقول الحافظ بن كثير في تفسيره لهذه الآية:
ينكر تعالى على مَن خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر وعَدَل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله.
كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم.
كما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان الذي وضع لهم الياسق وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذه من مجرد نظره وهواه.
فصارت في بنيه شرعًا متبعًا يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يُحكِّم سواه في قليل أو كثير. أ هـ.(2)
وقد صرح ـ رحمه الله ـ بالإجماع على هذا المعنى فقال:
فمن ترك الشرع المنزل على محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر. فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمه عليه؟، من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين. أ هـ.(3)
ويؤكد هذا الإجماع شيخ الإسلام ابن تيمية فيقول:
والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه أو بدَّل الشرع المجمع عليه، كان كافرًا مرتدًا باتفاق الفقهاء.(4)
[للمزيد: أعظم نواقض الإسلام عشرة .. للإمام محمد بن عبد الوهاب]
2- ﴿إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئا﴾
فأصحاب هذه الأهواء أعجز من أن يغنوا عنه شيئًا من الله صاحب الشريعة الذي بيده ملكوت كل شيء.
3- ﴿وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ﴾
وإذا كان الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه وأن أعظم الظلم الشرك بالله: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [ لقمان: 13] ، كان وضع التشريع في غير من خلق ورزق شركًا وظلمًا وهو أشنع أنواع وضع الشيء في غير موضعه.
فهؤلاء المشركون الظالمون بعضهم ولي لبعض فهم يتساندون فيما بينهم ضد أصحاب الشريعة، كما أخبر الله تبارك وتعالى عنهم في غير موضع من كتابه الكريم:
﴿وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ﴾ [الأنفال: 73].
﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً﴾ [الأنعام: 129].
وأنبأنا سبحانه وتعالى أنهم حزب الشيطان وأنهم الخاسرون وأنهم يلهمون أولياءهم بزخرف من القول: ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [المجادلة: 19].
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً﴾ [الأنعام: 112].
4- ﴿وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾
فهو وليهم وهم أولياؤه يوالونه بالطاعة والإيمان وهو يواليهم بالنُصرة والهداية والرحمة والجزاء. كما قال ربنا تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ وَلِيِّـيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾ [الأعراف: 196].
وقال سبحانه:
﴿اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ﴾ [البقرة: 257].
وأخبر تعالى أنهم حزبه وأنهم المفلحون وأنهم المنتصرون:
﴿أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [المجادلة: 22].
﴿وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [المائدة: 56].
فأين ولاية من ولاية ؟! وأين حزب من حزب ؟!
أين ولاية ضعاف مهازيل لا يغنون عنك من الله شيئًا من ولاية جبار السموات والأرض ؟!
أيـن جهــال لا يعلمــون… مـن العليــم الخبير الذي وسـع كـل شيء علـمًا ؟! أيـن لأصحـاب أهـواء مشركون يتولى بعضهم بعضًا.. من أصحـاب شريعة يتولاهم الله عز وجل ؟!!
حقيقة مهمة
إن الذين يصدونكم عن شرع الله، ويفتنوكم عنه، ويحملونكم على غيره وينفرون منه ويُنّفرونكم وغيركم عنه: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [الأنعام: 26] ، ﴿كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ﴾ [المدثر: 50 – 51]، قد أخبرنا الله عنهم:
أنهم متصفون بأعظم الظلم (الشرك)، بظلم مَنْ عَدَل عن شرع الله إلى غيره.
وأخبر أنهم أهل جهل وهوى.
وأنهم ليسوا أولياء لله بل أولياء الشيطان.
والمؤمن إما أن يتبع شرع الله ولا يستجيب لصد هؤلاء عنه ـ حين قبل ولاية الله ونصرته وحفظه ـ وإما أن يستجيب لفتنتهم ويتابعهم رضا واستكانة لما هم عليه من إعراض عن شرع الله ورغبة عنه إلى غيره فيكون منهم ويخرج بذلك عن ولاية الله إلى ولايتهم وإلى ما هم عليه من الشرك والظلم والجهل والهوى والبعد عن الله عز وجل.
وهم لن يغنوا عنه من عذاب الله ولن ينال هو أو هم إلا الخزي والخذلان من الله عز وجل في الدنيا والآخرة…!
[اضغط للاطلاع على: الإيمان بالله وقضية الشريعة]
ليس إلا أحد الطريقين
فاستمسكوا ـ عباد الله ـ بشرع الله وولايته واحذروا هؤلاء الصادين عن شرع الله الداعين إلى غير شرعه فإنهم ـ والله ـ دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها.
وإن حملوكم على غير الشريعة فكونوا مع الشريعة حيث كانت، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول:
«خذوا العطاء مادام عطاءً، فإذا صار رشوة على الدين فلا تأخذوه ولستم بتاركيه، يمنعكم من ذلك الفقر والحاجة، ألا إن رحى الإسلام دائرة، فدوروا مع الكتاب حيث دار. ألا إن الكتاب والسلطان سيفترقان، فلا تفارقوا الكتاب، ألا إنه سيكون عليكم أمراء يقضون لأنفسهم ما لا يقضون عليكم، إن عصيتموهم قتلوكم وإن أطعتموهم أضلوكم» قالوا: يا رسول الله كيف نصنع؟ قال صلى الله عليه وسلم: «كما صنع أصحاب عيسى بن مريم عليه السلام نُشروا بالمناشير وحُملوا على الخشب، موت في طاعة الله خير من حياة في معصية الله».(5)
فادفعوا هؤلاء ما استطعتم فإن عجزتم عنهم وحملوكم على غير شرع الله.
فليعلم الله من قلوبكم أنكم كارهون كرهًا حقيقيًا لا استكانة فيه ولا استنامة ولا شرح صدر ولا خداعًا للنفس بالأماني وليس ـ والله ـ وراء ذلك من الإيمان حبة خردل.
ودلالة الكره الاعتزال وعدم المشايعة بالعمل ـ كما مر ذكره.
واحذروا يوم أن يقف الناس أمام الله عز وجل فيقول: ﴿الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْء﴾، فيجيبونهم: ﴿لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ﴾، ثم يصدقهم وليهم الكذوب ـ الشيطان ـ بقوله: ﴿إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾. [إبراهيم: 22] . صدق الله العظيم
الهوامش:
- [ابن تيمية، مجموع الفتاوى، جـ 17.ابن تيمية، مجموع الفتاوى، جـ 17]
- [تفسير القرآن العظيم جـ2، ص67]
- [البداية والنهاية، جـ13، ص119]
- [مجموع الفتاوى، جـ3، ص267]
- [أخرجه أبو نعيم في باب يزيد بن مرثد، جـ5، ص165، مجمع الزوائد جـ 5، ص 238]
المراجع:
- تفسير القرآن العظيم، لابن كثير.
- مجمع الزوائد.
- مجموع الفتاوى، لابن تيمية.
- البداية والنهاية، لابن كثير.
- الطريق الى الجنة، عبد المجيد الشاذلي.