من طلب الأمان من غير الله لن يجده، ومن طلبه بغير الطريق الشرعي فقد ضل، ومن ضيّع دينه فلا أمان له؛ فهو أول المطالب وأعلاها.

مقدمة

حصول الأمن النفسي إنما يتحقق من التزام الأحكام الشرعية.

وحصول الأمن والسلامة للفرد من جهة الأحكام الشرعية التي شرعها الحكيم العليم البر الرحيم هو من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى عناء واستقصاء. بل مجرد استعراض بعض هذه الأحكام والتشريعات كافٍ لظهور الحكمة العظيمة، والمصالح العميمة التي ينعم بها العبد المسلم، ويستروح في ظلها ويشعر بالأمن والسلام وهو يسير في ضوئها.

وقبل أن أسوق بعض الأحكام، والآداب الشرعية التي شرعها الله عز وجل لتكفل للفرد أمنه النفسي، وتحفظ له ضرورياته الخمس وتحميها من العدوان والضيق والحرج. أنقل ما كتبه سيد قطب رحمه الله تعالى عن سلام الأفراد وأمْنهم، وأنه اللبِنة الأولى لسلام المجتمعات وسلام البشرية بأسرها حيث يقول:

“إن الإسلام يبدأ محاولة للسلام أولا في ضمير الفرد، ثم في محيط الأسرة، ثم في وسط الجماعة، وأخيرا يحاول في الميدان الدولي بين الأمم والشعوب.

إنه ينشد السلام في علاقة الفرد بربه، وفي علاقة الفرد بنفسه، وفي علاقة الفرد بالجماعة. ثم ينشُده في علاقة الطائفة بالطوائف، وعلاقة الأفراد بالحكومات. ثم ينشده في علاقة الدولة بالدول بعد تلك الخطوات.

وإنه ليَسيرُ في تحقيق هذه الغاية الأخيرة في طريق طويل، يعبُر فيه من سلام الضمير، إلى سلام البيت، إلى سلام المجتمع، إلى سلام العالم في نهاية المطاف.

لا سلام لعالمٍ ضمير الفرد فيه لا يستمتع بالسلام. تلك هي فطرة الإسلام؛ فإذا شاء أن يقيم السلام العالمي على أساس ركين، فهو يبدؤه هنالك في قرارة الضمير.

وللفرد في النظام الإسلامي قيمة أساسية، فهو اللبنة الأولى في بناء الجماعة، وفي ضميره تنبت الذرة الأولى للعقيدة، وفي سلوكه تستحيل العقيدة المكنونة حقيقة ظاهرة، بل يستحيل هو ذاته ترجمة حية لهذه العقيدة.

وفي ضمير الفرد يغرس الإسلام بذرة السلام. السلام الإيجابي الذي يرفع الحياة ويرقّيها، لا السلام السلبي الذي يرضى بكل شيء ويدَع المبادئ العليا تداس في سبيل العافية والسلامة.

السلام النابع من التناسق والتوافق، المؤلف من الطلاقة والنظام..! الناشيء من إطلاق القوی والطاقات الصالحة البانية، ومن تهذيب النزوات والنزعات، لا من الكبت والتنويم والخمود.

السلام الذي يعترف للفرد بوجوده وبنوازعه وبأشواقه، ويعترف في الوقت ذاته بالجماعة ومصالحها وأهدافها، وبالإنسانية وحاجاتها وأشواقها، وبالدين والخُلق والمُثل.. كلها في توافق واتساق”. (1السلام العالمي والإسلام ص 37-38)

الأحكام التي شُرعت للحفظ على أمن الضروريات الخمس

وأسوق فيما يلي بعض الأحكام الشرعية التي أنزلها الله عز وجل في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم والتي من شأنها أن يأمن الفرد في ظلالها على دينه وعلى نفسه وعقله وماله وعرضه.

ما ورد من الأحكام الشرعية بقصد الأمن على الدين ودرء الفساد الواقع أو المتوقع عليه:

مجانبة الخائضين في آيات الله

النهي عن الجلوس مع الخائضين في دين الله تعالى المثيرين للشبهات والشهوات. قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام: 68].

ومن ذلك تحذيره من جليس السوء الذي يجر جليسه إلى الضلال والانحراف في الاعتقاد والسلوك؛ قال صلى الله عليه وسلم: «مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبة. ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا خبيثة». (2البخاري (5534)).

وجليس السوء قد يكون من أهل الشبهات أو أهل الشهوات.

مجانبة طاعة الشياطين

التحذير من طاعة شياطين الإنس والجن؛ لكونهم يقودون مَن أطاعهم إلى الكفر والمعاصي، والوقوع في سخط الله عز وجل. قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ۖ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: 121]، وقال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا *  لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي ۗ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً﴾ [الفرقان: 27-29]. ومن ذلك نهي السلف رحمهم الله تعالى عن قراءة كتب أهل البدع وأهل الشهوات لما تجر من خلل في عقيدة المسلم وسلوكه وأخلاقه.

الحذر من الجدال والمراء في الدين

النهي عن الجدال في الدين، والمراء فيه؛ لأن ذلك يقود إلى التعصب والهوى، والتكبر على الحق؛ وبالتالي الانحراف عن الدين الصحيح. قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ۙ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ ۚ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [غافر: 56]. ومن ذلك ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه، وهم يختصمون في القدر، فكأنما يُفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب فقال: «بهذا أمرتم؟ أو لهذا خلقتم؟ تضربون القرآن بعضه ببعض؟ بهذا هلكت الأمم قبلكم» قال عبد الله بن عمرو: ما غبطت نفسي بمجلس تخلفت فيه عن رسول الله ما غبطت نفسي بذلك المجلس وتخلفي عنه». (3ابن ماجه في المقدمة ، باب القدر حدیث (85) وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (69)). وعندما رأى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم نسخة من التوراة مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه غضب وقال: «أمتهوّكون فيها يا ابن الخطاب. والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية… الحديث». (4مسند أحمد (14736). وقال الساعاتي في الفتح الرباني: قال في التنقيح رجال أحمد رجال الحسن ومعنى (متهوكون): أي متحيرون)

ومن ذلك نهي السلف عن مجالسة أهل البدع وقراءة كتبهم.

الهجرة إلى الله

الأمر بالهجرة من مكان الشرك إلى بلد الإسلام، ومن بلد البدعة إلى بلد السنة؛ حتى يأمن العبد على دينه ولا يفتن؛ قال الله تعالى: ﴿وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۚ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [النساء:100]، وقال تعالى معنفا على من تمَكَّن من الهجرة بدينه فلم يهاجر ففتن في دينه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: 97]. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القَطْر يفر بدينه من الفتن». (5البخاري في الإيمان، باب من الدين الفرار من الفتنة ، الحديث رقم (19))

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله تعالى

وذلك لما في الجهاد والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من درء الشر والفساد عن الدين من قِبَل المفسدين الصادين عن سبيل الله تعالى. ولولا ذلك لفسد على الناس دينهم؛ قال الله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 40]. وقال سبحانه: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ۚ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [الأنفال:38].

الوعيد للمضلين والصادّين

الوعيد الشديد لمن يضل الناس ويصد عن سبيل الله تعالى؛ قال الله عز وجل: ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۙ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾ [النحل:25]. وقال صلى الله عليه وسلم «من سَنَّ في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا تنقص من أوزارهم شيء». (6مسلم (1017))

تحريم الوسائل المفضية إلى الشرك

كتحريم الصور، والتبرك بالقبور وتشييدها، وبناء القبب عليها، أو التبرك بالصالحين وآثارهم، والغلوّ فيهم، وغير ذلك من الوسائل الشركية.

ومن هذا الباب: النهي عن سب آلهة المشركين حتى لا يسبوا الله عز وجل، أو يسبوا دین الإسلام. قال تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 108].

تحريم القول على الله تعالى بلا علم

لما في ذلك من نشر للشرك والبدع. ومن هذا الباب التحذير من الفتوى بلا علم أو الفتوى بهوى.

التحذير من الركون إلى الدنيا

التحذير الشديد والمتكرر في الكتاب والسنة من الركون إلى الدنيا، والغفلة عن الآخرة لأن ذلك يؤدي إلى الغفلة، ورِقة الدين، وترك الاستعداد للرحيل، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۖ وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ [فاطر: 5].

الحث على طلب العلم

الحث على طلب العلم، والتفقه في الدين، والتحذير من الجهل، والتقليد الأعمى، والهوى والكبر التي هي أصل الانحراف عن الدين والزيغ عن الحق وأهله؛ قال الله عز وجل: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ [الحج: 3-4].

خاتمة

من نجا بدينه فقد نجا، فكل فائت سواه يمكن تعويضه. ولكن من افتقده فقد خسر نفسه، ولمن يكسب العبد إذا إذا خسر نفسه..؟ ﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ (الزمر: 15). ولهذا يجب توافر الهمم اليه قبل كل مطلوب. وذلك من أجل الله سبحانه ومن أجل النجاة يوم لُقياه.

……………………..

الهوامش:

  1. السلام العالمي والإسلام ص 37-38.
  2. البخاري (5534).
  3. ابن ماجه في المقدمة ، باب القدر حدیث (85) وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (69).
  4. مسند أحمد (14736). وقال الساعاتي في الفتح الرباني: قال في التنقيح رجال أحمد رجال الحسن. ومعنى (متهوكون): أي متحيرون.
  5. البخاري في الإيمان، باب من الدين الفرار من الفتنة ، الحديث رقم (19).
  6. مسلم (1017).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة