الإسلام بشموله وربانيته يحفظ “الإنسان” في أعلى مستوى من الإنسانية الكريمة والحفظ الأمين؛ فيحفظ له دينه ويحفظ له النفس العقل والعرض. ولن يجد الإنسان هذا الحفظ بهذا التوازن إلا فيما أنزله خالق الإنسان. ففي منهج الله كل تكريم..
المفهوم الشامل للأمن وأنواعه ومصادره
عندما يذكر الأمن ومتعلقاته عند كثير من الناس اليوم، فإنما يفهمون منه الأمن على النفوس، وعلى الأموال والأعراض من الاعتداء ويقصرونه على هذه الأمور فحسب، مع أن الأمن بمفهومه الشامل عندما يطلق فإنما يعني أمورا هي في مجموعها أشمل وأعم من هذا الفهم القاصر لمتعلقات الأمن.
إن حاجة العبد إلى الأمن في ضرورياته الأساسية لا تقل عن حاجته إلى الطعام والشراب، ولكن هذه الضروريات تتفاوت في أهميتها؛ فالأمن على الدين والعقيدة يحتل في الأهمية المرتبة الأولى ثم يليه الأمن على الأنفس والعقول والأعراض والأموال. ومع ذلك فإن غالب من يتكلم في الأمن لا يرد على باله، وفي كلامه، أو كتاباته الأمن على الدين والعقيدة، وأنها مقدمة على سائر الضروريات؛ بل ينحصر الكلام في الأمن على الأنفس والأموال فحسب كما أن هؤلاء أيضا يقصرون حديثهم عن الأمن في هذه الحياة الدنيا الزائلة الفانية، ولا يتطرقون للأمن الحقيقي السرمدي ألا وهو الأمن في القبور، والأمن يوم النشور يوم الأهوال والفزع الأكبر، والأمن التام الأبدي في جنات النعيم.
الأمن في الحياة الدنيا
الأمن في هذه الدنيا لا يتحقق إلا إذا أمن الناس فيها على الضروريات التالية:
1- الأمن على الدين في العقيدة والشريعة
2- الأمن على النفوس
3- الأمن على العقول
4- الأمن على الأعراض
5- الأمن على الأموال
وكل هذه الضروريات لا يتوفر الأمن فيها إلا بطاعة الله عز وجل، وتوحيده واجتناب معاصيه ومساخطه. وإن لم يكن ذلك فإن سنة الله عز وجل نافذة على عباده الذين عصوه بأنواع العقوبات التي تورث الخوف وانعدام الأمن على هذه الضروريات؛ فلا يأمن الناس إذا عصوا ربهم لا على أديانهم ولا أنفسهم ولا عقولهم ولا أعراضهم ولا أموالهم. والواقع والتاريخ يشهد بذلك ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلٰكِن كَانُوٓا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [النحل: 33]، وهذا ما حذر منه مؤمن آل فرعون قومه وذلك في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ ۚ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ﴾ [غافر:30-31] وهذا ما أخبر به ربنا عز وجل عن القرية الآمنة بقوله: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [النحل:112].
الأمن والسلام والسعادة في إقامة شريعة الإسلام
وبدون الأمن على هذه الضروريات الخمس لا يكون الفرد، ولا المجتمع، ولا الدولة، ولا البشرية في أمن ولا أمان. وأكبر شاهد لذلك ما يعيشه العالم اليوم سواء على مستوى الفرد أو الأسرة أو المجتمع، أو البشرية بأسرها من القلق والخوف والاعتداء الصارخ على هذه الضروريات الأساسية التي جاء الإسلام في الدنيا لحفظها وصيانتها لينعم الناس في ظله بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام.
وعندما غاب شرع الإسلام عن أكثر بقاع الأرض عقيدة وشريعة، وأعرض أكثر الناس عن طاعة الله تعالى، وتوحيده، وانتشر الكفر والشرك والفسوق والعصيان رأينا عقوبة الله عز وجل وسنته التي لا تتخلف في القوم الظالمين حيث انتشر الخوف والرعب والقلق والشقاء بين الناس، وتسلط بعضهم على بعض، وسادت شريعة الغاب، وأصبح الإنسان لا يأمن على دينه ولا نفسه ولا عقله ولا ماله ولا عرضه إلا من رحم الله عز وجل ووفقه لتوحيده وطاعته التي هي مصدر الأمن والسلام والسعادة.
الأمن النفسي على مستوى الفرد
الأمن النفسي على مستوى الفرد وهو شعور الإنسان بالأمن الداخلي في نفسه، وقلبه وتفكيره، وإحساسه بالطمأنينة والسكينة، وبعده عن أسباب الخوف والقلق والانزعاج. وهذا لا يتأتى إلا إذا أمن العبد على دينه فلم يفتن فيه، وأمن على نفسه من الظلم والاعتداء، وأمن على عرضه وعقله وماله. وكل هذا لا يطمح في الحصول عليه إلا في ظل الدين الذي أكمله الله عز وجل للأمة، ورضيه لها دينا ألا وهو دين الإسلام العظيم، الذي شرع الله عز وجل فيه من العقائد والأحكام ما إذا أخذ العبد بها، فإنه يحصل على الأمن والأمان، والسكينة والاطمئنان سواء ما يكون من أنسه بالله عز وجل الناشيء عن محبته سبحانه، وتوحيده، والتوكل عليه، والتعبد له بأسمائه وصفاته الحسنى، وإيمانه بقضاء الله وقدره، ويقينه باليوم الآخر اللذان يشعان في القلب الطمأنينة والأنس والسعادة. أو ما يكون في أحكامه عز وجل وتشريعاته التي تكفل فيها المحافظة والرعاية لمقاصد هذا الدين والأمن عليها في هذه الدنيا ألا وهي حفظه الضروريات الخمس وحمايتها من التلف أو الضيق والحرج.
حصول الأمن النفسي بتوحيد الله عز وجل ومعرفته
فأما ما يتعلق بحصول الأمن النفسي، والطمأنينة الداخلية الناجمة عن توحيد الله عز وجل ومعرفته بأسمائه وصفاته ومحبته واليقين بلقائه فقد كفانا الحديث عنها الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى حيث يقول: (فقر العبد إلى أن يعبد الله سبحانه وحده لا يشرك به شيئا ليس له نظير فيقاس به، لكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الغذاء والشراب والنفس، فيقاس بها، لكن بينهما فروق كثيرة، فإن حقيقة العبد قلبه وروحه، ولا صلاح له إلا بإلهه الحق الذي لا إله إلا هو، فلا يطمئن إلا بذكره، ولا يسكن إلا بمعرفته وحبه، وهو كادح إليه كدحا فملاقيه، ولا بد له من لقائه، ولا صلاح له إلا بتوحيد محبته وعبادته وخوفه ورجائه، ولو حصل له من اللذات والسرور بغيره ما حصل فلا يدوم له ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص، ويتنعم بهذا في حال وبهذا في حال، وكثيرا ما يكون ذلك الذي يتنعم به هو أعظم أسباب ألمه ومضرته.
وأما إله الحق فلا بد له منه في كل وقت وفي كل حال، وأينما كان فنفس الإيمان به ومحبته وعبادته وإجلاله وذكره هو غذاء الإنسان وقوته، وصلاحه وقوامه، كما عليه أهل الإيمان، ودلت عليه السنة والقرآن، وشهدت به الفطرة والجنان، لا كما يقوله من قل نصيبه من التحقيق والعرفان، وبخس حظه من الإحسان: إن عبادته وذكره وشكره تکلیف ومشقة، لمجرد الابتلاء والامتحان، أو لأجل مجرد التعويض بالثواب المتفضل کالمعاوضة بالأثمان، أو لمجرد رياضة النفس وتهذيبها ….. كما أخبر بعض الواجدين عن حاله بقوله: «إنه ليمر بالقلب أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا، إنهم لفي عيش طيب»..
وقال آخر: «إنه ليمر بالقلب أوقات يهتز فيها طربا بأنسه بالله وحبه له»، وقال آخر: «مساكين أهل الغفلة، خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها»، وقال آخر: «لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف».
ووجدان هذه الأمور وذوقها هو بحسب قوة المحبة وضعفها، وبحسب إدراك جمال المحبوب والقرب منه. وكلما كانت المحبة أكمل، وإدراك المحبوب أتم والقرب منه أوفر، كانت الحلاوة واللذة والسرور والنعيم أقوی.
فمن كان بالله سبحانه وأسمائه وصفاته أعرف، وفيه أرغب، وله أحب، وإليه أقرب؛ وجد من هذه الحلاوة في قلبه ما لا يمكن التعبير عنه. ولا يعرف إلا بالذوق والوجد، ومتى ذاق القلب ذلك لم يمكنه أن يقدم عليه حبا لغيره، ولا أنسا به، وكلما ازداد له حبا ازداد له عبودية وذلا، وخضوعا ورقا له، وحرية عن رق غيره.
فالقلب لا يفلح ولا يصلح ولا يتنعم ولا يبتهج ولا يلتذ ولا يطمئن ولا يسكن، إلا بعبادة ربه وحبه، والإنابة إليه)(1).
ويصف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى شعوره بالأمن النفسي والسعادة التي يعيشها وذلك في رسالة إلى أصحابه يخبرهم فيها عن هذه النعمة ومنشئها فيقول: (فإن اللذة والفرحة والسرور، وطيب الوقت، والنعيم الذي لا يمكن التعبير عنه إنما هو في معرفة الله سبحانه وتعالى، وتوحيده والإيمان به، وانفتاح الحقائق الإيمانية…
وليس للقلوب سرور ولا لذة تامة إلا في محبة الله والتقرب إليه بما يحبه، ولا تمكن محبته إلا بالإعراض عن كل محبوب سواه، وهذا حقيقة لا إله إلا الله، وهي ملة إبراهيم الخليل – عليه السلام- وسائر الأنبياء والمرسلين صلاة الله وسلامه عليهم أجمعين…
والعبد إذا أنعم الله عليه بالتوحيد فشهد أن لا إله إلا الله مخلصا من قلبه … حلاه الله بالأمن والسرور، والحبور، والرحمة للخلق، والجهاد في سبيل الله، فهو يجاهد ويرحم. له الصبر والرحمة، وكلما قوي التوحيد في قلب العبد قوي إيمانه وطمأنينته، وتوكله، ويقينه) (2) .
البشرية المنكودة ..حيرة واضطراب وشقاء وعناء
ويصف الأستاذ سيد قطب الخواء الروحي والقلق النفسي الذي يعيشه أفراد المجتمعات الكافرة بالله عز وجل فيقول: (إن العالم الذي نعيش فيه اليوم – في أنحاء الأرض- هو عالم القلق والاضطراب والخوف والأمراض العصبية والنفسية – باعتراف عقلاء أهله ومفكريه وعلمائه ودارسيه، وبمشاهدات المراقبين والزائرين العابرين لأقطار الحضارة الغربية.. وذلك على الرغم من كل ما بلغته الحضارة المادية، والإنتاج الصناعي في مجموعه من الضخامة في هذه الأقطار . وعلى الرغم من كل مظاهر الرخاء المادي التي تأخذ بالأبصار.. ثم هو عالم الحروب الشاملة والتهديد الدائم بالحروب المبيدة، وحرب الأعصاب، والاضطرابات التي لا تنقطع هنا وهناك!
إنها الشقوة البائسة المنكودة، التي لا تزيلها الحضارة المادية، ولا الرخاء المادي، ولا يسر الحياة المادية وخفضها ولينها في بقاع كثيرة. وما قيمة هذا كله إذا لم ينشئ في النفوس السعادة والرضى والاستقرار والطمأنينة؟
إنها حقيقة تواجه من يريد أن يرى؛ ولا يضع على عينيه غشاوة من صنع نفسه كي لا يرى! حقيقة أن الناس في أكثر بلاد الأرض رخاء عاما.. في أمريكا، وفي السويد ، وفي غيرهما من الأقطار التي تفيض رخاء مادية .. إن الناس ليسوا سعداء.. إنهم قلقون يطل القلق من عيونهم وهم أغنياء ! وأن الملل يأكل حياتهم وهم مستغرقون في الإنتاج! وأنهم يغرقون هذا الملل في العربدة والصخب تارة. وفي «التقاليع» الغربية الشاذة تارة. وفي الشذوذ الجنسي والنفسي تارة ثم يحسون بالحاجة إلى الهرب. الهرب من أنفسهم. ومن الخواء الذي يعشش فيها! ومن الشقاء الذي ليس له سبب ظاهر من مرافق الحياة وجريانها . فيهربون بالانتحار.
لماذا؟
السبب الرئيسي طبعا هو خواء هذه الأرواح البشرية الهائمة المعذبة الضالة المنكودة – على كل ما لديها من الرخاء المادي- من زاد الروح.. من الاطمئنان إلى الله… وخواؤها من الأهداف الإنسانية الكبيرة التي ينشئها ويرسمها الإيمان بالله، وخلافة الأرض وفق عهده وشرطه) (3) .
الهوامش
(1) إغاثة اللهفان،2/ 544-545.
(2) مجموع الفتاوی ، 8 / 30 -35 (باختصار).
(3) في ظلال القرآن 326/1.
اقرأ أيضا
الطريق إلى تحقيق الأمن على النفس والعقل والعرض
الأمن في الحياة الدنيا .. أمن البيت والأسرة
الأمن النفسي والتزام الأحكام الشرعية .. الأمن على الدين
الإسلام وأمن البشرية.. (1) رسالة وطريق
الإسلام وأمن البشرية .. (2) جدية وتضحيات