لقد وافق الإمام النووي الأشاعرة في تأويل بعض الصفات مع سلامة أصله في الجملة في هذا الباب، لكنه خالف الأشاعرة في منهج النظر والاستدلال، وفي أول واجب على المكلف، وفي الإيمان، وفي القرآن والكلام، وغير ذلك، فليس من الإنصاف قول من قال أن الإمام النووي أشعري، نعم وافق الأشاعرة في أشياء، أو أشعري في باب الصفات -على تقدير أنه لم يتراجع عن ذلك-، لكن في جملة أبواب العقيدة هو موافق للسلف أهل السنة والجماعة إجمالًا.

أخلاق الإمام النووي وصفاته

هو: النواوي الإمام الحافظ الأوحد القدوة شيخ الإسلام علم الأولياء، محيي الدين أبو زكريا ‌يحيى ‌بن ‌شرف بن مري الحزامي الحوراني الشافعي، صاحب التصانيف النافعة1(1) [تذكرة الحفاظ (4/174) للذهبي]..

قال ابن العطار: ذكر لي شيخنا -يعني النووي- أنه كان لا يضيع له وقتًا لا في ليل ولا في نهار إلا في اشتغال حتى في الطرق، وأنه دام على هذا ست سنين، ثم أخذ في التصنيف والإفادة والنصيحة وقول الحق.

قلت -القائل الذهبي-: مع ما هو عليه من المجاهدة بنفسه والعمل بدقائق الورع والمراقبة وتصفية النفس من الشوائب ومحقها من أغراضها، كان حافظًا للحديث وفنونه ورجاله وصحيحه وعليله رأسًا في معرفة المذهب2(2) [المرجع السابق (4/175)]..

وكان يواجه الملوك والظلمة بالإنكار ويكتب إليهم ويخوفهم بالله تعالى3(3) [المرجع السابق (4/174)]..

قال ابن كثير: ‌وقد ‌كان ‌من ‌الزهادة ‌والعبادة والورع والتحري والانجماح عن الناس على جانب كبير، لا يقدر عليه أحد من الفقهاء غيره، وكان يصوم الدهر ولا يجمع بين إدامين، وكان غالب قوته مما يحمله إليه أبوه من نوى.. وكان لا يضيع شيئًا من أوقاته4(4) [البداية والنهاية (17/540-541)]..

اشتغال النووي بعلم الحديث والفقه

لم يصنف الإمام النووي مصنفًا في العقيدة يُذكر، ولا كان من المتخصصين فيها وأرباب تحريرها، بل كان منشغلًا بالحديث والفقه واللغة، على قصر عمره -عاش 45 عامًا-، والأخطاء التي وقع فيها في العقيدة جلها في باب الصفات، حيث وافق الأشاعرة -في شرحه لمسلم- في مسلك التفويض أحيانًا وفي مسلك التأويل أحيانًا كثيرة، وأحيانًا يوافق السلف، وليس للنووي إلا مجرد الكلام على الأحاديث التي وردت في صحيح مسلم في كتاب الإيمان وغيره، وله كلام قليل مفرق في بعض كتبه، وكان معتمدًا في شرحه لمسلم على كلام القاضي عياض وكلام أبي عبد الله المازري، فأما القاضي عياض فقد تأثر بالأشعرية، وأما المازري فهو أشعري صرف، كما أن العصر الذي نشأ فيه النووي عصر انتشرت فيه العقيدة الأشعرية واعتقدها حكام ذلك الوقت وعلماؤه، كالرازي (ت606هـ) وهو إمام الأشاعرة المتأخرين الذي ضبط مذهبهم وقعَّد أصولهم، وخلفه الآمدي (ت631هـ) والآرموي (ت682هـ) وانتشرت العقيدة الأشعرية في الشام ومصر، والنووي لم يحرر هذه المسائل العقدية، ومع ذلك لم يكن النووي أشعريًّا خالصًا في عقيدته؛ فاعتناؤه بالكتاب والسنة مع تجرده وشدة ورعه عصمه من كثير من زلات الأشاعرة والمتكلمين كما سيظهر ذلك من نقل كلامه المتفق مع السلف أهل السنة والجماعة..

فهو على منهج السلف وأهل السنة والجماعة إجمالًا، وقد دافع الإمام النووي عن عقيدة السلف في مسائل كثيرة في الاعتقاد.. بل إن النووي رجع إلى معتقد السلف في الصفات وغيرها في آخر تصانيفه كما سيأتي.

العقيدة الأشعرية اتسمت بالتطور والاضطراب في آن واحد

وقبل أن ننقل من كلامه ما يدل على ذلك نذكِّر بأن العقيدة الأشعرية اتسمت بالتطور والاضطراب في آن واحد، ولم تكن ثابتة منذ مؤسسها أبو الحسن الأشعري، مرورًا بالرازي وانتهاء بالإيجي (ت756هـ) الذي يمثل كتابه “المواقف” الصياغة النهائية لمذهب الأشاعرة -تقريبًا-، فمن الأمور المسلَّمة لدى الأشاعرة وغيرهم أن أقوال الأشاعرة تعددت واختلفت في مسائل عديدة من مسائل العقيدة، وكل عَلَم من أعلامهم حَوَت مؤلفاته ورسائله آراء توصل إليها إما باجتهاده أو تقليدًا لأحد أعلام عصره أو مدرسته ممن تلقى على يديه العلوم والمعارف، فأصبح ذا منهج مستقل، ثم قد يرجع عن بعض أقواله في مؤلف أو مؤلفات أخرى فتكثر الأقوال وتتعدد المناهج.

ويعتبر الأشاعرة مثل هذا الاختلاف أو التعدد في الأقوال اجتهادًا داخل المذهب لا يؤثر عليه، ويجدون التفسير المناسب لمثل ذلك، فيقولون مثلًا في بعض الصفات الخبرية: قال قدماء أصحابنا أو شيوخنا بإثباتها مع التفويض ونفي التشبيه، ثم يذكرون القول الثاني بالتأويل تنزيها لله عن مشابهة المخلوقات، والقولان -عندهم- صحيحان ولا تعارض بينهما، والعجيب أن يتلقى الأشاعرة بعضهم عن بعض مثل هذا، لا يتوقفون عنده، ولا يثيرهم ما فيه من تناقض.

أبرز مظاهر التطور في المذهب الأشعري

والحق أن التطور في المذهب الأشعري لم يكن في مسألة من المسائل بحيث لا يؤبه له، ولا يلفت النظر، بل كان تطورًا في الأصول والمناهج، ويتعدى ذلك إلى مسائل عديدة في العقيدة، وقد كان أبرز مظاهر التطور في المذهب الأشعري ما يلي:

أ – القرب من أهل الكلام والاعتزال.

ب – الدخول في التصوف، والتصاق المذهب الأشعري به.

ج – الدخول في الفلسفة، وجعلها جزءًا من المذهب5(5) [انظر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة (2/511) لعبد الرحمن بن صالح المحمود]..

موافقة النووي للسلف في جملة أبواب العقيدة

وبعد هذه المقدمة ننقل من كلام الإمام النووي ما وقفنا عليه مما قرر فيه عقيدة السلف أهل السنة والجماعة مخالفًا فيه الأشاعرة:

أولا: منهجه في النظر والاستدلال

قال النووي: وأما أصل واجب الإسلام وما يتعلق بالعقائد فيكفي فيه التصديق بكل ما جاء به رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم واعتقاده اعتقادًا جازمًا سليمًا من كل شك، ولا يتعين على من حصل له هذا تعلم أدلة المتكلمين، هذا هو الصحيح الذي أطبق عليه السلف والفقهاء والمحققون من المتكلمين من أصحابنا وغيرهم؛ فإن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لم يطالب أحدًا بشيء سوى ما ذكرناه، وكذلك الخلفاء الراشدون ومن سواهم من الصحابة فمن بعدهم من الصدر الأول، بل الصواب للعوام وجماهير المتفقهين والفقهاء الكف عن الخوض في دقائق الكلام؛ مخافة من اختلال يتطرق إلى عقائدهم يصعب عليهم إخراجه، بل الصواب لهم الاقتصار على ما ذكرناه من الاكتفاء بالتصديق الجازم، وقد نص على هذه الجملة جماعات من حذاق أصحابنا وغيرهم، وقد بالغ إمامنا الشافعي رحمه الله تعالى في تحريم الاشتغال بعلم الكلام أشد مبالغة وأطنب في تحريمه وتغليظ العقوبة لمتعاطيه وتقبيح فعله وتعظيم الإثم فيه6(6) [المجموع شرح المهذب (1/24-25)، وانظر: شرحه على مسلم (1/149)، (1/210)، (5/25-26)]..

وقال: ‌فالذي ‌عليه ‌جماهير ‌المسلمين من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من المحدثين والفقهاء وأصحاب الأصول أن خبر الواحد الثقة حجة من حجج الشرع يلزم العمل بها ويفيد الظن ولا يفيد العلم وأن وجوب العمل به عرفناه بالشرع لا بالعقل7(7) [شرح النووي على مسلم (1/131)]..

ثانيا: أول واجب على المكلف

قال النووي: قوله صلَّى الله عليه وسلَّم ‌في ‌الرواية ‌الأخرى: «‌أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به» فيه بيان ما اختصر في الروايات الأخر من الاقتصار على قول لا إله إلا الله، وقد تقدم بيان هذا، وفيه دلالة ظاهرة لمذهب المحققين والجماهير من السلف والخلف أن الإنسان إذا اعتقد دين الإسلام اعتقادًا جازمًا لا تردد فيه كفاه ذلك، وهو مؤمن من الموحدين، ولا يجب عليه تعلم أدلة المتكلمين ومعرفة الله تعالى بها، خلافًا لمن أوجب ذلك وجعله شرطًا في كونه من أهل القبلة، وزعم أنه لا يكون له حكم المسلمين إلا به، وهذا المذهب هو قول كثير من المعتزلة وبعض أصحابنا المتكلمين، وهو خطأ ظاهر8(8) [شرح النووي على مسلم (1/210-211)]..

فيرى النووي أن أول واجب هو الإقرار بالشهادتين، وليس النظر أو القصد إلى النظر، أو الشك كما يراه المتكلمون والأشاعرة.

وقال أيضًا: قوله: ‌قال: ‌فمن ‌خلق ‌السماء؟ قال: «الله»، قال: فمن خلق الأرض؟ قال: «الله»، قال: فمن نصب هذه الجبال، وجعل فيها ما جعل؟ قال: «الله»، قال: فبالذي خلق السماء، وخلق الأرض، ونصب هذه الجبال، آلله أرسلك؟ قال: «نعم»، قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا، وليلتنا، قال: «صدق»، قال: فبالذي أرسلك، آلله أمرك بهذا؟ قال: «نعم». هذه جملة تدل على أنواع من العلم، قال صاحب التحرير: هذا من حسن سؤال هذا الرجل وملاحة سياقته وترتيبه؛ فإنه سأل أولًا عن صانع المخلوقات من هو، ثم أقسم عليه به أن يصدقه في كونه رسولًا للصانع، ثم لما وقف على رسالته وعلمها أقسم عليه بحق مرسله، وهذا ترتيب يفتقر إلى عقل رصين، ثم إن هذه الأيمان جرت للتأكيد وتقرير الأمر لا لافتقاره إليها، كما أقسم الله تعالى على أشياء كثيرة. هذا كلام صاحب التحرير. قال القاضي عياض: والظاهر أن هذا الرجل لم يأت إلا بعد إسلامه، وإنما جاء مستثبتًا ومشافهًا للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم، والله أعلم.

وفي هذا الحديث جمل من العلم غير ما تقدم، منها: أن الصلوات الخمس متكررة في كل يوم وليلة، وهو معنى قوله: في يومنا وليلتنا. وأن صوم شهر رمضان يجب في كل سنة، قال الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح رحمه الله: وفيه دلالة لصحة ما ذهب إليه أئمة العلماء من أن العوام المقلدين مؤمنون، وأنه يكتفى منهم بمجرد اعتقاد الحق جزمًا من غير شك وتزلزل، خلافًا لمن أنكر ذلك من المعتزلة؛ وذلك أنه صلَّى الله عليه وسلَّم قرر ضمامًا على ما اعتمد عليه في تعرف رسالته وصدقه ومجرد إخباره إياه بذلك، ولم ينكر عليه ذلك، ولا قال يجب عليك معرفة ذلك بالنظر في معجزاتي والاستدلال بالأدلة القطعية. هذا كلام الشيخ. وفي هذا الحديث: العمل بخبر الواحد، وفيه غير ذلك، والله أعلم9(9) [شرح النووي على مسلم (1/170-171)]..

أدلته على التوحيد

بينما يعتمد الأشاعرة على دليل الحدوث (الجوهر والعرض) كأشهر دليل في إثبات وجود الله، يعتمد الإمام النووي على دليل الخلق والإتقان كما تقدم في النص السابق، ويعتمد أيضًا على دليل الفطرة، وفي كل هذا هو موافق للسلف:

قال النووي: قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «على الفطرة» أي: على الإسلام. وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «خرجت من النار» ‌أي: ‌بالتوحيد10(10) [شرح النووي على مسلم (4/84)]..

وقال أيضًا: والأصح أن معناه ‌أن ‌كل ‌مولود ‌يولد ‌متهيئًا للإسلام، فمن كان أبواه أو أحدهما مسلما استمر على الإسلام في أحكام الآخرة والدنيا، وإن كان أبواه كافرين جرى عليه حكمهما في أحكام الدنيا، وهذا معنى «يهودانه وينصرانه ويمجسانه» أي: يحكم له بحكمهما في الدنيا، فإن بلغ استمر عليه حكم الكفر ودينهما، فإن كانت سبقت له سعادة أسلم وإلا مات على كفره، وإن مات قبل بلوغه فهل هو من أهل الجنة أم النار أم يتوقف فيه؟ ففيه المذاهب الثلاثة السابقة قريبًا11(11) [شرح النووي على مسلم (16/208)]...

ثالثا: الإيمان

يرى الإمام النووي أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان، وأن التصديق يزيد وينقص.

قال النووي: فالمعنى الذي يستحق به العبد المدح والولاية من المؤمنين هو إتيانه بهذه الأمور الثلاثة: التصديق بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالجوارح؛ وذلك أنه لا خلاف بين الجميع أنه لو أقر وعمل على غير علم منه ومعرفة بربه لا يستحق اسم مؤمن، ولو عرفه وعمل وجحد بلسانه وكذب ما عرف من التوحيد لا يستحق اسم مؤمن، وكذلك إذا أقر بالله تعالى وبرسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ولم يعمل بالفرائض لا يسمى مؤمنًا بالإطلاق، وإن كان في كلام العرب يسمى مؤمنًا بالتصديق فذلك غير مستحق في كلام الله تعالى؛ لقوله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ ‌الْمُؤْمِنُونَ ‌حَقًّا﴾ فأخبرنا سبحانه وتعالى أن المؤمن من كانت هذه صفته12(12) [شرح النووي على مسلم (1/147)]..

وقال أيضًا: قال القاضي عياض رحمه الله: ‌وقد ‌تقدم ‌أن ‌أصل ‌الإيمان في اللغة: التصديق، وفي الشرع: تصديق القلب واللسان، وظواهر الشرع تطلقه على الأعمال كما وقع هنا: أفضلها لا إله إلا الله وآخرها إماطة الأذى عن الطريق، وقد قدمنا أن كمال الإيمان بالأعمال وتمامه بالطاعات، وأن التزام الطاعات وضم هذه الشعب من جملة التصديق ودلائل عليه، وأنها خلق أهل التصديق، فليست خارجة عن اسم الإيمان الشرعي ولا اللغوي13(13) [شرح النووي على مسلم (2/4)]..

وقول القاضي والنووي: إن كمال الإيمان بالأعمال.. فيه نظر، وهو أيضًا من أخطاء الحافظ في شرحه لكتاب الإيمان من صحيح البخاري، والصواب أن العمل من حيث هو جنس ركن في الإيمان لا يصح الإيمان إلا به، أما آحاد العمل ففيها تفصيل؛ فمنها ما هو ركن في الإيمان كالصلاة وإفراد الله بالدعاء، ومنها ما هو من واجبات الإيمان كبر الوالدين واجتناب الزنا، ومنها ما هو من مستحبات الإيمان كالسواك وإماطة الأذى عن الطريق.

لكن تأمل قول النووي رحمه الله: “فليست خارجة عن اسم الإيمان الشرعي ولا اللغوي”. فإن هذا موافق لما يقرره أهل السنة والجماعة.

وقال النووي: وهذا الذي قاله هؤلاء وإن كان ظاهرًا حسنًا، فالأظهر -والله أعلم- أن نفس التصديق يزيد وينقص بكثرة النظر، وتظاهر الأدلة، ولهذا يكون إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا تعتريهم الشبه، ولا يتزلزل إيمانهم بعارض، بل لا تزال قلوبهم منشرحة نيرة وإن اختلفت عليهم الأحوال، وأما غيرهم من المؤلفة، ومن قاربهم ونحوهم فليسوا كذلك. فهذا مما لا يمكن إنكاره، ولا يتشكك عاقل في أن نفس تصديق أبي بكر رضي الله عنـه لا يساويه تصديق آحاد الناس، ولهذا قال البخاري في صحيحه: قال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلَّى الله عليه وسلَّم كلهم يخاف النفاق على نفسه ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل14(14) [شرح صحيح مسلم (1/149)]..

فأنت ترى أن النووي في الإيمان أقرب إلى أهل السنة منه إلى الأشاعرة القائلين بأن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، وأنه لا يزيد ولا ينقص.

وقال النووي: أراد البخاري في صحيحه بالأبواب الآتية بعد هذا، كقوله:

باب: أمور الإيمان

باب: الصلاة من الإيمان

باب: الزكاة من الإيمان

باب: الجهاد من الإيمان

وسائر أبوابه.

وأراد الرد على المرجئة في قولهم الفاسد: أن الإيمان قول بلا عمل. وبين غلطهم وسوء اعتقادهم، ومخالفتهم الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة15(15) [التلخيص شرح الجامع الصحيح صـ(454)، وهو شرح للنووي على صحيح البخاري، وتوفي النووي رحمه الله قبل أن يكمله]..

رابعا: القرآن والكلام

قال النووي: قوله صلَّى الله عليه وسلَّم في موسى صلَّى الله عليه وسلَّم: «الذي كلمه الله تكليمًا» ‌هذا ‌بإجماع أهل السنة على ظاهره، وأن الله تعالى كلم موسى حقيقة كلامًا سمعه بغير واسطة، ولهذا أكد بالمصدر، والكلام صفة ثابتة لله تعالى لا يشبه كلام غيره16(16) [شرح النووي على مسلم (3/57)، وانظر: (2/116)، (3/6)، (16/218)]..

وهذا النص للنووي من شرح مسلم يدل على أن هذا المعتقد الموافق للسلف قديم عند النووي، وللنووي جزء فيه ذكر اعتقاد السلف في الحروف والأصوات، سيأتي الحديث عنه، ومما جاء فيه:

فصل: في إثبات الحرف لله تعالى

دليله آيات من الكتاب العزيز: الأول: ﴿‌فَتَلَقَّى ‌آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ﴾… والكلمات هي الحروف المتآلفة المفيدة، وقال تعالى: ﴿‌وَكَلَّمَ ‌اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾.

قال الأصمعي والفراء وأبو عبيد القاسم بن سلام وغيرهم من أهل اللغة: التأكيد بالمصدر يدل على ارتفاع الواسطة.

فثبت أنه يقال: كلم موسى بكلام سمعه بحاسة أذنه، ولذلك امتن الله عليه في قوله: ﴿إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي ‌وَبِكَلَامِي﴾، فلولا أنه سمع كلامه وإلا لم يكن للتخصيص فائدة..

‌‌فصل: في اثبات الصوت لله تعالى

ينطق الكتاب العزيز بذلك في مواضع:

منها في سورة القصص ﴿‌فَلَمَّا ‌أَتَاهَا ‌نُودِيَ﴾… والنداء لا يكون إلا بصوت عند جميع أهل اللغة. وكذلك قوله تعالى: ﴿‌فَاسْتَمِعْ ‌لِمَا يُوحَى﴾.

والاستماع لا يكون إلا لصوت مسموع.

وروى البخاري في صحيحه عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، أنه قال: «إذا تكلم الله بالوحي، سمع صوته أهل السماء السابعة، فيخرون سجدًا» إلى آخره.

ولا يقال إضافة النداء إلى الله بطريق المجاز إذ هو الآمر كما يقال: نادى السلطان والمراد غيره، لأنا نقول: لا يجوز ذلك؛ لأن غير الله لا يمكنه أن يقول: “أنا الله، أنا الملك، أنا الديان”، فيسقط هذا الخيال.

وروي أن الإمام أحمد بن حنبل سُئل عن رجل قال: إن الله لا يتكلم بصوت ولم يكلم موسى بصوت.

فقال: هذا جهمي كافر عدو الله وعدو الإسلام، أما سمع ما قال ابن مسعود: “إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء”. وهذا لا يقوله ابن مسعود بالاجتهاد من تلقاء نفسه…

‌‌فصل: في أن كلام الله مسموع

دليله آيات من الكتاب العزيز. منها قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ ‌تَفِيضُ ‌مِنَ ‌الدَّمْعِ﴾… فعلم بهذه الآيات أن كلام الله مسموع، والمسموع ليس إلا هذه الحروف والأصوات، فتكون هي كلام الله حقيقة، وإذا كانت هي كلام الله حقيقة لا يكون غيرها كلام الله ضرورة؛ لأن كلام الله أحد شيئين، وليس هو ذلك الذي هو غيره، فينبغي المصير إلى هذا.

خامسا: الصفات

ينطلق النووي في تأصيل هذا الأصل من منطلق صحيح من حيث المبدأ، إلا أنه أخطأ في تأويل كثير من الصفات في شرحه لمسلم، فقال نقلًا عن القاضي عياض ومقرًّا له: ونحن نؤمن بالله تعالى وصفاته ولا نشبه شيئًا به ‌ولا ‌نشبهه ‌بشيء ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وما قاله رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وثبت عنه فهو حق وصدق، فما أدركنا علمه فبفضل الله تعالى، وما خفي علينا آمنا به ووكلنا علمه إليه سبحانه وتعالى، وحملنا لفظه على ما احتمل في لسان العرب الذي خوطبنا به، ولم نقطع على أحد معْنَيَيْه، بعد تنزيهه سبحانه عن ظاهره الذي لا يليق به سبحانه وتعالى17(17) [شرح النووي على مسلم (17/133)]..

ولاحظ قوله: “ولا نقطع على أحد معنَيَيْه”، ففيه دلالة أن النووي لا يجزم بمذهب التأويل.

والإمام النووي وإن أوَّل كثيرًا من الصفات في شرحه لمسلم موافقًا للأشاعرة إلا أنه في بعضها جرى على طريقة السلف في تقريرها، فمن أمثلة ذلك:

القيومية (القيام): قال النووي: قال العلماء من صفاته ‌القيام ‌والقيم كما صرح به هذا الحديث، والقيوم بنص القرآن، وقائم ومنه قوله تعالى: ﴿‌أَفَمَنْ ‌هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ﴾ قال الهروي: ويقال قوام، قال ابن عباس: القيوم الذي لا يزول، وقال غيره: هو القائم على كل شيء، ومعناه مدبر أمر خلقه، وهما سائغان في تفسير الآية والحديث18(18) [شرح النووي على مسلم (6/54-55)]..

وتقدم تقريره عن كلام الله وموافقته فيه للسلف أهل السنة والجماعة.

ومما تقدم نلاحظ أن الإمام النووي إنما وافق الأشاعرة في تأويل الصفات مع سلامة أصله في الجملة في هذا الباب، لكنه خالف الأشاعرة في منهج النظر والاستدلال، وفي أول واجب على المكلف، وفي الإيمان، وفي القرآن والكلام، وغير ذلك، فليس من الإنصاف قول من قال أن الإمام النووي أشعري، نعم وافق الأشاعرة في أشياء، أو أشعري في باب الصفات -على تقدير أنه لم يتراجع عن ذلك-، لكن في جملة أبواب العقيدة هو موافق للسلف أهل السنة والجماعة إجمالًا.

رجوع الإمام النووي في آخر عمره إلى مذهب السلف أهل السنة والجماعة في الصفات وغيرها

قال ابن تيمية: ولما اجتمعنا بدمشق وأحضر فيما أحضر كتب أبي الحسن الأشعري: مثل “المقالات” و”الإبانة” وأئمة أصحابه كالقاضي أبي بكر وابن فورك والبيهقي وغيرهم. وأحضر كتاب “الإبانة” وما ذكر ابن عساكر في كتاب “تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشعري” وقد نقله بخطه أبو زكريا النووي. وقال فيه: فإن قال قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة: فعرفونا قولكم الذي به تقولون. قيل له: قولنا: التمسك بكتاب الله وسنة رسوله وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث. ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول أحمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون، ولما خالف قوله مجانبون؛ لأنه الإمام الفاضل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين..

ثم قال: باب ذكر الاستواء.

فإن قال قائل: ما تقولون في الاستواء: قيل بأن الله مستو على عرشه. كما قال سبحانه: ﴿الرَّحْمَنُ ‌عَلَى ‌الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾، وقال: ﴿‌إِلَيْهِ ‌يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ وقال سبحانه: ﴿‌بَلْ ‌رَفَعَهُ ‌اللَّهُ إِلَيْهِ﴾..19(19) [مجموع الفتاوى (3/223-225)]..

وقال النووي: لو قال: لا إله إلا الله الملك الذي في السماء، أو إلا ‌ملك ‌السماء، كان مؤمنًا، قال الله تعالى: ﴿أَأَمِنْتُمْ ‌مَنْ ‌فِي ‌السَّمَاءِ﴾. ولو قال: لا إله إلا ساكن السماء، لم يكن مؤمنًا، وكذا لو قال: لا إله إلا الله ساكن السماء; لأن السكون محال على الله تعالى20(20) [روضة الطالبين وعمدة المفتين (10/85)]. [وانظر: تهذيب النووي لـ”طبقات فقهاء الشافعية” لابن الصلاح (1/470)، حيث نقل النووي في تهذيبه كلام الخطابي في علو الله على عرشه مقرًّا له ولم يعترض عليه]..

وقال النووي لتلميذه الإربدي -وقد سأله الإربدي عن كتاب يتعلم منه أصول الفقه-: كتاب المنتخب محفوظي، ووجدت بيتي قد أظلم علي، فلما أخرجت منه المنتخب.. أضاء علي، اقرأ المختصر.

… قال الشهاب الإربدي: وقلت للشيخ: يا سيدي؛ مختصر ابن الحاجب في أوله منطق، فقال: لا تقرأه، واقرأ ما بعده21(21) [المنهل العذب الروي في ترجمة قطب الأولياء النووي صـ(124-125) للسخاوي]..

وقد صنف النووي جزءًا فيه ذكر اعتقاد السلف في الحروف والأصوات قبل وفاته بأشهر؛ حيث كان الفراغ منه يوم الخميس 3 ربيع الأول 676هـ، ولا يُعلم كتاب للنووي ألفه بعد هذا التاريخ، وهذا الجزء يُثبت أن النووي رجع إلى عقيدة السلف أهل السنة والجماعة في الصفات والإيمان وغير ذلك، وقد حققه أحمد بن علي الدمياطي.

ومما جاء فيه:

قال النووي: ونحن من ديننا: التمسك بكتاب الله عزَّ وجلَّ وسنة نبينا صلَّى الله عليه وسلَّم وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث المشهورين، ونؤمن بجميع أحاديث الصفات، لا نزيد على ذلك شيئًا، ولا ننقص منه شيئًا، كحديث قصة الدجال وقوله فيه: «وإن ربكم ليس بأعور»، وكحديث النزول إلى السماء الدنيا، وكحديث الاستواء على العرش، وإن القلوب بين إصبعين من أصابعه، وإنه يضع السموات على أصبع والأرضين على أصبع، ونقول بتصديق حديث المعراج وبصحيح ما فيه من الروايات، وندين أن الله مقلب القلوب، وما أشبه هذه الأحاديث جميعها كما جاءت بها الرواية من غير كشف عن تأويلها، وأن نمرها كما جاءت.

وأن الإيمان قول وعمل يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ونقول: إن الله يجيء يوم القيامة كما قال تعالى: ﴿‌وَجَاءَ ‌رَبُّكَ ‌وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾، وإن الله يقرب من عباده كيف يشاء لقوله تعالى: ﴿‌وَنَحْنُ ‌أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ وقوله: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ ‌قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ وأشباه ذلك من آيات الصفات، ولا نتأولها ولا نكشف عنها، بل نكف عن ذلك كما كف عنه السلف الصالح.

ونؤمن بأن الله على عرشه كما أخبر في كتابه العزيز، ولا نقول هو في كل مكان، بل هو في السماء، وعلمه في كل مكان؛ لا يخلو منه مكان، كما قال: ﴿أَأَمِنْتُمْ ‌مَنْ ‌فِي ‌السَّمَاءِ﴾، وكما قال: ﴿إِلَيْهِ ‌يَصْعَدُ ‌الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾.

وكما جاء في حديث الإسراء إلى السماء السابعة: «ثم دنا من ربه».

وكما في حديث سوداء أريدت أن تعتق، فقال لها النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: «أين ربك؟» فقالت: في السماء. فقال: «اعتقها فإنها مؤمنة».

وأمثال ذلك كثير في الكتاب والسنة، نؤمن بذلك ولا نجحد شيئًا من ذلك، وقد روت الثقات عن مالك بن أنس أن سائلًا سأله عن قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ ‌عَلَى ‌الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة22(22) [صـ(67-69)]..

وقال أيضًا: والعجب أن كتب الأشاعرة مشحونة بأن كلام الله منزل على نبيه، ومكتوب في المصاحف، ومتلو بالألسنة على الحقيقة، ثم يقولون: المنزل هو عبارة، والمكتوب غير الكتابة، والمتلو غير التلاوة، ويشرعون في مناقضات ظاهرة وتعقبات باردة ركيكة. ويكفي في دحض هذا المعتقد كونهم لا يستطيعون على التصريح به، بل هم فيه ‌على ‌نحو ‌من ‌المراء23(23) [انظر صـ(39)]..

وقال أيضًا: ولعمري لقد اندفع بهذا التقرير كثير من كلام الأشاعرة وتلبياتهم عند العارف بمعاني الكلام ودقائقه24(24) [صـ(53)]..

وقال أيضًا: وقد نقل عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى، أنه قال: لعن الله المشبهة والمعطلة. فقيل له: من المشبهة؟ قال: الذين يقولون يد كيدي وبصر كبصري.

ونقل عنه أنه قال: من شبه الله بخلقه فهو كافر بالله العظيم.

وروي عنه أنه قال: مذهبنا بين مذهبين وهدى بين ضلالتين، إثبات الأسماء والصفات، مع نفي التشبيه والأدوات، لا نغالي في الصفات فنجعلها أجسامًا فنشبه الله بخلقه تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا، ولا نقصر فنمحوا عنه ما أثبته لنفسه، بل نقول كما سمعنا، ونشهد بما علمنا25(25) [صـ(62)]..

وقال أيضًا: فنحن نصف ولا نشبه، ونثبت ولا نجسم، ونعرف ولا نكيف، مذهبنا بين باطلين، وهدي بين ضلالتين، وسنة بين بدعتين، وقد تفرد الله سبحانه وتعالى بحقائق صفاته ومعانيها عن العالم، فنحن بها مؤمنون، وبحقائقها موقنون، وبمعرفة كيفيتها جاهلون26(26) [المرجع السابق صـ(63)]..

فهذه النقول -وخصوصًا ما جاء في جزء ذكر اعتقاد السلف- تدل على رجوع الإمام النووي في آخر عمره إلى معتقد السلف أهل السنة والجماعة في باب الصفات والإيمان وغيرهما من أبواب العقيدة.

تفريق الشرع بين الحكم المطلق على القول والفعل وبين الحكم المعيَّن على الشخص

وهنا ملحظ مهم عند الحكم على الشخص المعيَّن تكفيرًا أو تبديعًا أو تفسيقًا أو لعنًا أو غير ذلك، فيجب التفريق بين الحكم المطلق على القول والفعل وبين الحكم المعيَّن على الشخص؛ لأن الشرع الحكيم فرق بينهما، والأصل في ذلك أدلة كثيرة منها: أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لعن في الخمر عشرة، منهم شاربها.. ومع ذلك لما جيء له برجل كثيرًا ما كان يشرب الخمر وأمر بجلده لعنه بعض الحاضرين، فقال له النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا تلعنوه فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله»27(27) [رواه البخاري (6780)]..

فهذا في جانب السلوك وهو يدل على أنه ليس كل من شرب الخمر يُحكم عليه باللعن..

ومنها: ما أخبر به صلَّى الله عليه وسلَّم عن رجل ممن سلف: «كان رجل يسرف على نفسه، فلما حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا ‌مت ‌فأحرقوني ثم اطحنوني ثم ذروني في الريح، فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا. فلما مات فعل به ذلك، فأمر الله الأرض فقال: اجمعي ما فيك منه، ففعلت، فإذا هو قائم، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رب خشيتك، فغفر له»28(28) [رواه البخاري (3481) ومسلم (2756)]..

فهذا رجل قد شك في عموم قدرة الله، وأن الله يبعثه وقد تفرق جسده بهذه الصفة ومع ذلك غفر الله له، فهذا الحديث في جانب الاعتقاد، ومع أن هذا الاعتقاد مكفر إلا أن هذا الرجل لم يكفر، ويدل على أنه ليس كل من وقع في الكفر كافر وليس كل من وقع في البدعة مبتدع، فإن الحكم على الشخص المعين لا بد فيه من توفر الشروط وانتفاء الموانع، فالصواب أن كل من اجتهد في أخذ الحق من جهة الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم وتعظيم النص الشرعي فإنه يُحكم له بالإسلام والسنة وإن أخطأ في أصل أو في جزئيات فإن خطأه هذا لا يخرجه عن السنة، بل يقال: فيه أشعرية أو اعتزال أو نحو ذلك، كما قال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لأبي ذر: «إنك امرؤ فيك جاهلية»، ولم يقل له إنك جاهلي، وكما اعتبر العلماء ما وقع فيه قتادة من اعتقاده أن الله لم يُقدِّر المعاصي خطأ وزلة، قال الشاطبي: ‌أن ‌يصح ‌كونه ‌مجتهدًا، فالابتداع منه لا يقع إلا فلتة وبالعرض لا بالذات، وإنما تسمى غلطة أو زلة; لأن صاحبها لم يقصد اتباع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويل الكتاب; أي: لم يتبع هواه، ولا جعله عمدة، والدليل عليه أنه إذا ظهر له الحق; أذعن له وأقر به29(29) [الاعتصام للشاطبي (1/193-194)]..

ويوجد لآحاد السلف والأئمة زلات مثل هذه، وهي وإن كانت بدعًا ومخالفة للإجماع إلا أن صاحبها لا يُعَدُّ مبتدعًا؛ لصحة أصوله ومنطلقه.

وهذا المنهج سار عليه ابن تيمية مع مخالفيه، فهو يسلك معهم أمرين:

أحدهما: أن القاعدة عنده التي يطبقها على الأشاعرة وغيرهم هي التفريق بين العقيدة المسطرة في الكتب وبين أصحابها، فهو يحكم على ما هو مدون أو منقول من عقائد هؤلاء وأدلتهم ومناقشاتهم، ويبين ما في ذلك من خطأ أو صواب، فإذا ما وصل في الحديث إلى الشخص نفسه صاحب العقيدة فإنه ينظر إليه نظرة أخرى مبنية على:

أ – أنه قد يكون صادقًا في خدمته للإسلام، ولا يحمل غشًّا لأهله، ولذلك فهو لا يتعمد الكذب والافتراء.

ب – أنه مجتهد، وأن هذا الذي قاله هو مبلغ علمه، أو أنه كان مقلدًا لغيره في هذه المسائل.

جـ – ما مات عليه هذا العَلَم، فقد يكون ممن رجع وتاب، وصرح بذلك أو أنه في آخر عمره رضي مسلك أهل الحديث.

والثاني: أن لهؤلاء الأعلام -على أخطائهم- جهودًا لا تُنكر في الجهاد في سبيل الله، والدفاع عن العقيدة، والرد على أعدائها من الملاحدة والمتفلسفة والرافضة وغيرهم، وهي جهود تكون في موازينهم يوم القيامة ولا يُحرمون أجرها عند الله تعالى30(30) [موقف ابن تيمية من الأشاعرة (2/710)]..

ولذلك قال في الرازي -مع أنه صاحب طوام عظيمة-: بعض أو كثير من الناس يطعن في قصده، ‌والذي ‌أراه ‌أنه ‌ينصر ‌ما ‌يراه الحق31(31) [شرح نظم عقيدة السفاريني (8/2) لعبد الكريم الخضر]..

موقف علماء الأمة من النووي وابن حجر وغيرهما

ونختم هذا المقال ببعض النقول من العلماء المتقدمين والمتأخرين:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ‌وقَلَّ ‌طائفة ‌من ‌المتأخرين إلا وقع في كلامها نوع غلط؛ لكثرة ما وقع من شبه أهل البدع، ولهذا يوجد في كثير من المصنفات في أصول الفقه وأصول الدين والفقه والزهد والتفسير والحديث من يذكر في الأصل العظيم عدة أقوال ويحكي من مقالات الناس ألوانًا والقول الذي بعث الله به رسوله لا يذكره؛ لعدم علمه به لا لكراهته لما عليه الرسول32(32) [مجموع الفتاوى (5/484)]..

وقال رحمه الله -بعد ذكر جماعة من الأشاعرة كأبي بكر الباقلاني، وأبي المعالي الجويني، ومن تبعهما-: ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساع مشكورة وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف.

لكن لما التبس عليهم هذا الأصل المأخوذ ابتداء عن المعتزلة وهم فضلاء عقلاء احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه؛ فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم والدين، وصار الناس بسبب ذلك منهم من يعظمهم لما لهم من المحاسن والفضائل، ومنهم من يذمهم لما وقع في كلامهم من البدع والباطل. وخيار الأمور أوسطها.

وهذا ليس مخصوصًا بهؤلاء، بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين، والله تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات، ويتجاوز لهم عن السيئات، ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ ‌سَبَقُونَا ‌بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾.

ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم وأخطأ في بعض ذلك فالله يغفر له خطأه، تحقيقًا للدعاء الذي استجابه الله لنبيه وللمؤمنين حيث قالوا: ﴿رَبَّنَا ‌لَا ‌تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ اهـ33(33) [درء تعارض العقل والنقل (2/102)]. .

وقال الإمام الذهبي رحمه الله: ولو ‌أن ‌كل ‌من ‌أخطأ في اجتهاده -مع صحة إيمانه، وتوخيه لاتباع الحق- أهدرناه، وبدَّعناه، لقل من يسلم من الأئمة معنا، رحم الله الجميع بمنِّه وكرمه34(34) [سير أعلام النبلاء (14/376)، وانظر: (14/40)]..

وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة: موقفنا من أبي بكر الباقلاني، والبيهقي، وأبي الفرج ابن الجوزي، وأبي زكريا النووي، وابن حجر، وأمثالهم ممن تأول بعض صفات الله تعالى، أو فوَّضوا في أصل معناها: أنهم في نظرنا من كبار علماء المسلمين الذين نفع الله الأمة بعلمهم، فرحمهم الله رحمة واسعة، وجزاهم عنا خير الجزاء، وأنهم من أهل السنة فيما وافقوا فيه الصحابة رضي الله عنهـم وأئمة السلف في القرون الثلاثة التي شهد لها النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بالخير، وأنهم أخطأوا فيما تأولوه من نصوص الصفات وخالفوا فيه سلف الأمة وأئمة السنة رحمهم الله، سواء تأولوا الصفات الذاتية، وصفات الأفعال، أم بعض ذلك. وبالله التوفيق، وصلَّى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلَّم35(35) [فتاوى اللجنة الدائمة (3/241)، الشيخ عبد العزيز بن باز، الشيخ عبد الرزاق عفيفي، الشيخ عبد الله بن قعود]..

وقال الشيخ محمد بن ناصر الدين الألباني رحمه الله: مثل النووي، وابن حجر العسقلاني، وأمثالهم، من الظلم أن يقال عنهم: إنهم من أهل البدع، أنا أعرف أنهما من الأشاعرة، لكنهما ما قصدوا مخالفة الكتاب والسنَّة، وإنما وهِموا، وظنُّوا أنما ورثوه من العقيدة الأشعرية: ظنوا شيئين اثنين:

أولًا: أن الإمام الأشعري يقول ذلك، وهو لا يقول ذلك إلَّا قديمًا؛ لأنه رجع عنه.

وثانيًا: توهموه صوابًا، وليس بصواب36(36) [من شريط (666)، “من هو الكافر ومن هو المبتدع”]..

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: وإلا ‌فنحن ‌نؤمن ‌بأن ‌كل ‌بدعة ضلالة، ثم هذه الضلالات تنقسم إلى: بدع مكفرة، وبدع مفسقة، وبدع يعذر فيها صاحبها، ولكن الذي يعذر صاحبها فيها لا تخرج عن كونها ضلالة، ولكن يعذر الإنسان إذا صدرت منه هذه البدعة عن تأويل وحسن قصد.

وأضرب مثلًا بحافظين معتمدين موثوقين بين المسلمين وهما: النووي وابن حجر رحمهما الله تعالى.

فالنووي: لا نشك أن الرجل ناصح، وأن له قدم صدق في الإسلام، ويدل لذلك قبول مؤلفاته حتى إنك لا تجد مسجدًا من مساجد المسلمين إلا ويقرأ فيه كتاب “رياض الصالحين”، وهذا يدل على القبول، ولا شك أنه ناصح، ولكنه -رحمه الله- أخطأ في تأويل آيات الصفات حيث سلك فيها مسلك المؤولة، فهل نقول: إن الرجل مبتدع؟

نقول: قوله بدعة لكن هو غير مبتدع؛ لأنه في الحقيقة متأول، والمتأول إذا أخطأ مع اجتهاده فله أجر، فكيف نصفه بأنه مبتدع وننفر الناس منه؟! والقول غير القائل، فقد يقول الإنسان كلمة الكفر ولا يكفر…

أقول هذا لأنه نبتت نابتة قبل سنتين أو ثلاث تهاجم هذين الرجلين هجومًا عنيفًا، وتقول: يجب إحراق فتح الباري وإحراق شرح صحيح مسلم، -أعوذ بالله- كيف يجرؤ إنسان على هذا الكلام؟ لكنه الغرور والإعجاب بالنفس واحتقار الآخرين…

فعلينا أن نتئد وأن لا نتسرع، وأن لا نقول لشخص أتى ببدعة واحدة من آلاف السنن إنه رجل مبتدع.

وهل يصح أن ننسب هذين الرجلين وأمثالهما إلى الأشاعرة، ونقول: هما من الأشاعرة؟

الجواب: لا؛ لأن الأشاعرة لهم مذهب مستقل له كيان في الأسماء والصفات والإيمان وأحوال الآخرة.

وما أحسن ما كتبه أخونا سفر الحوالي عما علم من مذهبهم، لأن أكثر الناس لا يفهم عنهم إلا أنهم مخالفون للسلف في باب الأسماء والصفات، ولكن لهم خلافات كثيرة.

فإذا قال قائل بمسألة من مسائل الصفات بما يوافق مذهبهم فلا نقول: إنه أشعري.

أرأيتم لو أن إنسانًا من الحنابلة اختار قولًا للشافعية فهل نقول إنه شافعي؟

الجواب: لا نقول إنه شافعي.

فانتبهوا لهذه المسائل الدقيقة، ولا تتسرعوا، ولا تتهاونوا باغتياب العلماء السابقين واللاحقين؛ لأن غيبة العالم ليست قدحًا في شخصه فقط، بل في شخصه وما يحمله من الشريعة؛ لأنه إذا ساء ظن الناس فيه فإنهم لن يقبلوا ما يقول من شريعة الله، وتكون المصيبة على الشريعة أكثر37(37) [شرح الأربعين النووية للعثيمين صـ(290)]..

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الهوامش

(1) [تذكرة الحفاظ (4/174) للذهبي].

(2) [المرجع السابق (4/175)].

(3) [المرجع السابق (4/174)].

(4) [البداية والنهاية (17/540-541)].

(5) [انظر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة (2/511) لعبد الرحمن بن صالح المحمود].

(6) [المجموع شرح المهذب (1/24-25)، وانظر: شرحه على مسلم (1/149)، (1/210)، (5/25-26)].

(7) [شرح النووي على مسلم (1/131)].

(8) [شرح النووي على مسلم (1/210-211)].

(9) [شرح النووي على مسلم (1/170-171)].

(10) [شرح النووي على مسلم (4/84)].

(11) [شرح النووي على مسلم (16/208)].

(12) [شرح النووي على مسلم (1/147)].

(13) [شرح النووي على مسلم (2/4)].

(14) [شرح صحيح مسلم (1/149)].

(15) [التلخيص شرح الجامع الصحيح صـ(454)، وهو شرح للنووي على صحيح البخاري، وتوفي النووي رحمه الله قبل أن يكمله].

(16) [شرح النووي على مسلم (3/57)، وانظر: (2/116)، (3/6)، (16/218)].

(17) [شرح النووي على مسلم (17/133)].

(18) [شرح النووي على مسلم (6/54-55)].

(19) [مجموع الفتاوى (3/223-225)].

(20) [روضة الطالبين وعمدة المفتين (10/85)]. [وانظر: تهذيب النووي لـ”طبقات فقهاء الشافعية” لابن الصلاح (1/470)، حيث نقل النووي في تهذيبه كلام الخطابي في علو الله على عرشه مقرًّا له ولم يعترض عليه].

(21) [المنهل العذب الروي في ترجمة قطب الأولياء النووي صـ(124-125) للسخاوي].

(22) [صـ(67-69)].

(23) [انظر صـ(39)].

(24) [صـ(53)].

(25) [صـ(62)].

(26) [المرجع السابق صـ(63)].

(27) [رواه البخاري (6780)].

(28) [رواه البخاري (3481) ومسلم (2756)].

(29) [الاعتصام للشاطبي (1/193-194)].

(30) [موقف ابن تيمية من الأشاعرة (2/710)].

(31) [شرح نظم عقيدة السفاريني (8/2) لعبد الكريم الخضر].

(32) [مجموع الفتاوى (5/484)].

(33) [درء تعارض العقل والنقل (2/102)].

(34) [سير أعلام النبلاء (14/376)، وانظر: (14/40)].

(35) [فتاوى اللجنة الدائمة (3/241)، الشيخ عبد العزيز بن باز، الشيخ عبد الرزاق عفيفي، الشيخ عبد الله بن قعود].

(36) [من شريط (666)، “من هو الكافر ومن هو المبتدع”].

(37) [شرح الأربعين النووية للعثيمين صـ(290)].

اقرأ أيضا

الإمام العالم العابد عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما

الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب

شيخ الأزهر الجزائري الأصل، والتونسي المولد، والمصري الجنسية الإمام محمد الخضر حسين

التعليقات غير متاحة