يضيق الطواغيت بالأنبياء، وبورثتهم من أهل العلم؛ فيتآمرون على قتلهم أو سجنهم، لكن الله تعالى يجعل من محَنهم ذيوعا لصوتهم وإبلاغا لرسالتهم، معامَلةً للظالمين بنقيض مقصودهم.
ديدن الطواغيت
صار استهداف العلماء في زماننا هذا ديدنا للظلمة والطواغيت تارة بالقتل، وتارة بالنفي والمطاردة، وتارة بالحبس.
وتارة بيد غلاة موتورين وتارة بيد عملاء مأجورين.
واستهداف العلماء والحكماء ـ بل والأنبياء – سياسة اتبعها الطواغيت من قديم الزمان؛ قال تعالى مخاطبا النبي صلى الله علي وسلم، وحاكيا عن المشركين قولهم الأثيم: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ (الأنفال:30).
قال العلامة السعدي ـ مفسرا هذه الآية:
“أي : ﴿و﴾ اذكر أيها الرسول ما منَّ اللّه به عليك ﴿إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ حين تشاور المشركون في دار الندوة فيما يصنعون بالنبي صلى الله عليه وسلم، إما أن يثبتوه عندهم بالحبس ويوثقوه”.
وإما أن يقتلوه فيستريحوا – بزعمهم – من شره.
وإما أن يخرجوه ويجلوه من ديارهم”. (1)
الإخراج من الديار .. دأْب الكافرين من قبل
وهؤلاء قوم لوط يخُرجون آل لوط غضبا عليهم؛ لتَطهُّرهم وتنزُّههم عن قاذورات فواحشهم؛ قال الله تعالى: ﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَاتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * أَئِنَّكُمْ لَتَاتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ (النمل:54 – 56).
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
“﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُون﴾ أي : يتحرجون من فعل ما تفعلونه، ومن إقراركم على صنيعكم، فأخرِجوهم من بين أظهركم فإنهم لا يصلحون لمجاورتكم في بلادكم. فعزموا على ذلك؛ فدمّر الله عليهم، وللكافرين أمثالها”. (2)
وقال تعالى مقررا أن من أسباب الجهاد الإخراج من الديار بغير حق: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج:39 – 40).
وهذا الإخراج سبب من أسباب الهلاك كما استنبط أبو بكر الصديق رضي الله عنه؛ عن ابن عباس قال: «لَمَّا أُخْرِجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْرَجُوا نَبِيَّهُمْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ؛ لَيَهْلِكُنَّ..». (3)
ويقول الله تعالى ذامّا للكفار لإخراجهم الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه لإيمانهم: ﴿يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ ” (سورة الممتحنة: 1).
وقال الله تعالى ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ (الحشر:8).
وليس هذا الإخراج مختصا بالفقراء المهاجرين وحدهم؛ بل كل من كان متمسكا بدين الله عز وجل فإن الكفار وأعداء الرسل يخرجونهم من ديارهم، حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه.
عبرة من تاريخ الإيمان وأهله
وقد تلمّح ذلك ورقة بن نوفل رضي الله عنه بخبرته وواسع علمه، وذكره لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، كما ورد في حديث عائشة رضي الله عنها الطويل في وصف مبدأ الوحي؛ «قالت: … فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوَ مخرجي هم»، قال: نعم، لم يأْت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي». (4)
“لم يأت رجل قط بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلا عودي وأُخرج” .. كان كلام ورقة رضي الله عنه كالقراءاة لواقع الناس على مدار التاريخ ـ وإلى قيام الساعة ـ في معاداتهم الرسل وأتْباعهم وإخراج المؤمنين من ديارهم بغير حق..
وفي زماننا هذا يتم تغييب المصلحين وأهل العلم بأعداد يصعب حصرها، في كافة أنحاء الأرض، في دهاليز السجون وراء أسوارٍ ظاهرها العذاب وباطنها الرحمة، لا نحسبه إلا خيرا لهم؛ عن صهيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له». (5)
كيدُهم في نحورهم
وسيكون ـ يقينا إن شاء الله ـ المردود عكسيا على من أراد وأْد كلمة الحق والنصح الواجب للأمة ـ حكاما ومحكومين..
وذلك مثل ما كان من قصة غلام أصحاب الأخدود، وفيها:
«فقال ـ أي الغلام ـ للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به. قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ثم خُذ سهما من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل باسم الله رب الغلام ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني. فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع، ثم أخذ سهما من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: باسم الله رب الغلام. ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات.
فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام.
فأُتى الملِك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر؟! قد والله نزل بك حذرك؛ قد آمن الناس..». (6)
وهذا الاستهداف رفع ذِكر أقوام من العلماء والصالحين؛ بينما غاب من آذوهم فلا يكاد يذكرهم أحد، فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية الذي غُيّب في غياهب السجون، وكان فيها موته، رحمه الله تعالى، ارتفع ذِكره، واستفاد منه خلق لا يحصيهم إلا الله عز وجل، وأما من حبسوه فاندثروا فلا يعرفهم إلا أقل القليل من المشتغلين بالتاريخ.
وفي عصرنا القريب غيّبوا الكاتب الإسلامي العلَم “سيد قطب” لدعوته لإفراد الله عز جل بالحاكمية؛ فرفع الله عز وجل ذِكره في العالمين وأحَبه كل موحد عرفه، وانتشرت كتبه في أنحاء الأرض ينهل الناس من خيرها المبهر.
فخيبةً لمن آذي العلماء والصالحين؛ يضيعون أنفسهم ويضعونها موضع السؤال ولا نجاة لمن لم يعد للسؤال جوابا.
حمى الله عز وجل عباده المؤمنين ودفع عنهم كل بلاء وسوء.
………………………………………………………….
الهوامش:
- تيسير الكريم الرحمن (ص319).
- تفسير القرآن العظيم (6/ 200).
- رواه النسائي (3085) وأحمد (1865) وغيرهما ، وصححه الألباني.
- رواه البخاري (3) ومسلم (160).
- رواه مسلم (2999).
- رواه مسلم في صحيحه (3005) من حديث صهيب رضي الله عنه مرفوعا.