ملىء قلب النبي صلى الله عليه وسلم بالبسالة؛ فلا تروعه الأحداث الجسام، ولا تُنهنهه المواقف الصعبة، بل تراه في كل أحايينه جبلاً شامخاً لا تمس ذُرَاه بِسُوءٍ.
شجاعة النبي ﷺ وقوته
كان النبي صلى الله عليه وسلم عنوان الشجاعة والإقدام، بل لقد كانت عيناه فقط تدرسان الشجاعة لأشاوس الصحابة، وأكابر المسلمين.
حتى إن صناديد الكفر كانوا يتحامون ويتحاشون أن تطول مدة مشاكسته؛ لأنهم يعلمون عن أي أسد سيسفر ذلك الاستفزاز، وعن أي عضب سينجلي غبار الموقف!
فهو صلى الله عليه وسلم شجاع الكلمة، شجاع الرأي، شجاع الموقف، وشجاع المعركة.. بل هو شجاع في حلمه، وفي تواضعه، وفي كل أخلاقه؛ يقول عنه خالقه سبحانه: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).
فمن أي باب تدلفُ إلى سيرته عليه الصلاة والسلام، ستلقى شجاعته وكأنها السمة البارزة، والتوقيع النهائي على مواقفه التي صنعت سيرته العظمى، وأيامه الملأى بالذكريات.
ويُدخلك النار
ملىء قلب النبي صلى الله عليه وسلم بالبسالة؛ فلا تروعه الأحداث الجسام، ولا تُنهنهه المواقف الصعبة، بل تراه في كل أحايينه جبلاً شامخاً لا تمس ذُرَاه بِسُوءٍ.
كان يوما يسير في مكة، فتلقاه أبي بن خلف، وهو أحد فراعنة الكفر، وممن يُهاب جانبهم كثيرًا.
مشكلة إن كان خَصْمُك رجلًا هو أحد مقترحات الكفر، ثم نفّذته الدناءة بشكل عشوائي!
تلقاه هذا الرجل ذو الأخلاق الشرسة بعظم حائل، ففته بين يديه، ثم سأله بكبر وغطرسة: أترى ربَّكَ يُحْيِي هَذا بعدما قد أرَم؟ شخصت الأبصارُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم تنتظر كيف يجيب هذا الشيخ المطاع أبي بن خلف، فإذا به يقول، وبلا اهتمام لمكانته في قومه: «نعم! ويبعثك، ويُدخِلك النار!».
لقد داس النبي صلى الله عليه وسلم بكلمته تلك عِرْنينَ الكفر، ومرغه في الطين كما يجب، دون أن يضرب حسابًا لهذا المتكبر الذي لا يؤمن بيوم الحساب.
يتحدَّثُ أهل السير: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل ذات يوم يطوف بالبيت، فابتدره المستهزئون؛ هذا يَغمِز، وذاك يُقهقه، والنبي صلى الله عليه وسلم كعادته يحلم بهم، ويتغاضى، وكأنه ما رأى وما سمع، ولكن يبدو أن الأمر تجاوز حده، وبات التأخر في الرد يعطي انطباعًا بالخوف أكثر منه بالحلم، فتوقف النبي صلى الله عليه وسلم عند جمعهم، فصمتوا لوقوفه قبل أن يتكلم، ثم قال ثلاث كلمات طاشت معها قهقهاتهم، قال: «لقد جئتكم بالذبح !»1(1) ابن حبان في صحيحه..
فقط هذه الكلمات جعلتهم يقومون ويتوسلون إليه أن يتجاوز عنهم، فما عهدوه إلا الحليم الرشيد.
لقد علموا جيدا أنه لا يقول إلا الحق، وأنه إن قال: «لقد جئتكم بالذبح»، فإن الذبح هو مصيرهم، وهو ما حدث بالفعل يوم بدر !
يعلمنا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أن الشجاعة ليست كلاما طائشا تُلقيه على عواهنه، وتهديدًا أجوف لا طائل وراءه… إن الشجاعة هي أن تملك نفسك ما استطعت، ثم إن أبى خَصْمُك إلا استئصال باطله، وجاء وقت الكلام فلا تتحدث إلا بحديث يعلم صاحبك أنك تعني كل حرف منه، وأنَّك لا تهدد بقدر كونك تسلّمُهُ خطّتك لاستئصال شأفته، وتعطيه فكرة واضحة عما ستفعله معه في الغد.
لم تراعوا..
لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يختبئ خلف الجموع، ويقف من وراء الفرسان، بل كان المتقدم دائما…
يحدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه: أن صوتاً غريباً جاء من إحدى جهات المدينة، وقد كانت المدينة نقطة النور في بحر من القبائل المشركة وجموع من الأعراب الغلاظ، وكانت التهديدات تأتيها من مكة، ومن الطائف، ومن الرُّوم، ومن الفُرْسِ… وقد كانت حياة المدينة حياة تعبئة وجاهزية لأي مداهمة قد تغزو أطرافها.
فلعل الناس والحال كما ذكرنا ظنُّوا ذلك الصوت صوت بعض فرسان العدو المقبلين على المدينة غزاة معتدين، ففَزِعَ من فزع، وأخذ الفرسان يهتف بعضهم ببعض، ويستحث بعضهم بعضًا.. وقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم ما سمع الناس، فلم ينتظر كما انتظر الناس، بل هرع إلى فَرَسٍ عُرْي بلا سَرْجِ لأبي طلحة، وانطلق كالعاصفة جهة الصوت وحده، يستكشفُ ويبحث عن أولئك المتسللين ببسالة الفارس، وشجاعة القلب الذي لا ينبض بالخوف.
لقد كان قلبا شجاعًا، ونفسا تعصف، وشرَرًا يَتَّقِد…
وفي هذه الأثناء، تجمع عدد لا بأس به من فرسان المدينة، وانطلقوا جهة الصوت، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يُقبل عليهم بوجهه الوضاح، وثَغره المتبسم، وقد أنهى مهمة الاستكشاف وهو يقول: «لم تُراعُوا.. لم تُراعُوا!»2(2) رواه البخاري ومسلم..
لا خوف على المدينة ومحمد صلى الله عليه وسلم فيها، حتى فرسان المدينة الأشاوس يحتاجون إليه عليه الصلاة والسلام ليكون في مقدمتهم في أمور الهلع والرعب.
إن خُصلات شعره المتناثرة وهو على فرس أبي طلحة لتوحي للناظر من بعيد أن البطولة بدأ موسمها، وأن شيئًا من التفوق البشري الذي لا تطيقه إلا نفس صنعها الله له، واصطفاها لتبليغ رسالته: قد ظهر على الكوكب، وأخذ يشعُ بإشعاع لم يفهمه الكوكب بعد!
احمرار البأس
كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه مِن أعظم من عُرِفَ بالشجاعة والإقدام، وكان أحد فرسان يوم بدر الثلاثة، الذين لاقوا فرسان قريش الأقوياء، ففلَقَ هامة صاحبه، وأرداه قتيلا، وهو بعد شاب طرير، وفتى يخوض في فتوته.
يقول هذا السيفُ الصَّلْتُ: «كنا إذا احمر الباسُ، ولقي القومُ القومَ: اتَّقَيْنا برسول الله صلى الله عليه وسلم»3(3) رواه أحمد، وصححه شاكر..
أتخيلت البأس كيف يحمر؟
وما هو الذي يجعله أحمر اللون؟
إنها الدماء التي تتطاير من الأعناق، والأشلاء التي تتبعثر في الأجواء..
عند تلك اللحظات الحاسمة، تغدو شجاعة علي بن أبي طالب، وطلحة، والزبير، وحمزة، وأبي دُجَانَةَ: شيئًا متواضعا عند شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم..
يقول: اتَّقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ أي جعلناه بيننا وبين الموت..بيننا وبين صليل السيوف!
لقد كان عليه الصلاة والسلام الشجاعة في وقت كانت الشجاعةُ صنما يكاد يُعبد من دون الله؛ فنكس رأس الشجاعة لله، وجعلها راهبًا متبتلا في محراب التواضع للخالق العظيم.
الآنَ حَمِيَ الوَطِيسُ
ولا تتجلى الشجاعة إلا في مواقف الخوف العظمى، وأشَدُّها بأسًا لما تشتجرُ الرماح، وتنهلُ السيوف من الدم، عندها تظهر معادن القلوب، وأصناف البسالة، ولا يصمد في مثل هذه المواطن إلا من ختمته الشجاعةُ بخاتمها ذي النقش الدموي المهول!
في غزوة حُنَين التي ذكرها الله في القرآن الكريم، فقال تعالى: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ) [التوبة:25] ، كان عدد جيش النبي صلى الله عليه وسلم اثني عشر ألفا.. وهو عدد لم يجتمع للجيش الإسلامي قبل ذلك، مما حدا ببعض المسلمين أن يقولوا: لن نُهزم اليوم من قلة!4(4) قصة غزوة حنين بتفاصيلها في مسلم، وغيره..
وما إن التحمت الصفوف، حتى ظهرت سيوفُ هوازن، ورماح ثقيف بالموت الزؤام؛ فطاشت الصفوف، وغصَّتِ الأودية بالهاربين!
حتى شجعان الصحابة، وأولو الحماسة منهم والحفظية، انشمروا وولَّوْا كما وصَفَهم الله تعالى: (مُّدْبِرِينَ) ، ولله – في تقدير ذلك الهلع المفاجئ على قلوب كالحديد بأسا – حكمةٌ بالغة!
فأين كان النبي صلى الله عليه وسلم في هذا السياق المخيف؟
يقول أصحاب السير: كان يصرخُ وهو في حومة الموت ووسط بُحَيحة المعركة: هلموا إليَّ أيها الناسُ، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله !
لم يعطِ الموتَ ظَهْرَهُ عليه الصلاة والسلام، بل أقبل إليه بصدره الممتلئ ثقة بما عند الله، وماذا يعني الموتُ عند رجل إحدى أمانيه الموت؟!
«والذي نفسي بيده، وددتُ أني أقاتِلُ في سبيل الله فأقتل، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل»5(5) رواه البخاري ومسلم..
فصرخ العباس رضي الله عنه: “أين أصحاب الشجرة؟ أين الأنصار؟ أين بنو الحارث بن الخزرج ….”، فانتفضت الحماسة في قلوبهم من جديد، وعادوا إلى قلب المعركة والجنة تتراءى لهم، يقول العباس: “والله لكأنَّ عَطْفتَهم لما سمعوا صوتي عَطفةُ البقر على أولادها»، وأخذوا يهتفون: يا لبيك.. يا لبيك! فلا ثقيف ولا هوازن ولا الموت يستطيع أن يتغلب على الأشياء التي يشعر بها أصحاب محمد بجوار محمد.
فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم المعركة احتدمت، والنَّقْعَ يعيد تشكيل صورة الموقف، قال: «الآنَ حَمِي الوَطِيسُ»، وابتدأ بقتال ليس كالقتال، وباستبسال ليس كالاستبسال، وبضَرْبٍ يَفْلِقُ الهام، وأخذت تنداح أرتال أصحاب بيعة الرضوان لتنهي أسطورة الشرك، وسقطت أكذوبة الجيش الذي لا يُقهر … وهرب الأنذال إلى نخلة، والطائف، وأوطاس، فتتبعهم النبي بسراياه، وأجهز على تلك الوجوه التي عليها غَبَرَة، تَرهَقها قترة !
إنه محمد، إنه الرجُلُ الأشجع؛ فلا تتحدث عن الشجاعة وأنت لا تنوي أن تذكره.. ولا تخض في البسالة وفي نيتك أن تُغفل مغازيه: بدر وأحد والخندق وفتح مكة وحنين….
الهوامش
(1) ابن حبان في صحيحه.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) رواه أحمد، وصححه شاكر.
(4) قصة غزوة حنين بتفاصيلها في مسلم، وغيره.
(5) رواه البخاري ومسلم.
المصدر
كتاب: “الرجل النبيل”، علي بن جابر الفيفي، ص55-64.
اقرأ أيضا
جهود العلماء في تدوين السيرة النبوية (1-2) محورية شخصية الرسول، وطبقات رواة السيرة
الأسوة الحسنة في رسول الله ﷺ أصلها في الجهاد
كيف أخرج رسول الله للناس خير أمة؟ (1) تحديد الهوية ومنع الالتباس