هزائم اليوم لها أسباب ومثيلات، والخروج من الهزيمة له طريق سبقنا فيه خيرون. ومن الخير استحضار مواقف علماء الأمة وخيارها وخيارها لمعرفة واجب اليوم.

مقدمة

يتساءل الكثير اليوم عن الواقع المرير المتوالي بالهزائم والنكبات، واستطالةِ العدو وأمنِه، وإهانة المسلمين وخوفِهم، وطمعِ العدو في المزيد.

وقد أنزل الله تعالى كتابه شفاء للأمة، أولِها وآخرِها. وللاستشفاء بالقرآن طريق، وهو قياس أحوال آخر الأمة على أولها، ومعرفة مواقف الصدق ومواقف النفاق، ومعرفة الطريق المسلوك للخروج من هذا المأزق، ومواجهة العدو بمختلف فئاته.

وقد مرت الأمة زمن شيخ الإسلام “ابن تيمية” رحمه الله، بضربات شبيهة بما نحن فيه اليوم، وانقسم الناس على إثْرها انقسامات مشابهة لفرقها اليوم؛ بين ناصرٍ للدين ثابت على موقفه، وخاذلٍ له أحوج ما يكون المسلمون، ومرتدٍ عن الدين رأسا.

وقد نصح رحمه الله وأبلغ نصحه، واليوم ننظر في نصحه لعل القلوب تعي تلك الكلمات.

وصف الإيمان الواجب سبب للنصر

الإيمان الواجب يشمل القيام بما أمر الله تعالى به من أعمال القلوب والجوارح، وإعداد ما أمر، والقيام بواجب القوة والوحدة، وإقامة الدين، واتخاذ الأسباب، وتطهير الصفوف، وغير ذلك مما أمر الله به من الواجبات القولية والعملية، الباطنة والظاهرة، الفردية والجماعية.. ويوضح شيخ الإسلام قيمة القيام بهذا الإيمان.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

“فإن كان قد نصر المؤمنين لأنهم مؤمنون، كان هذا موجبًا لنصرهم حيث وُجِد هذا الوصف، بخلاف ما إذا عصوا ونقضوا إيمانهم كيوم أُحُد؛ فإن الذنب كان لهم، ولهذا قال تعالى: ﴿وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ [الأحزاب: 62] فعمّ كل سُنّة له…”. (1جامع الرسائل والمسائل، 1/54)

سار شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في ضوء هذه السنة الربانية وعمل بها في جهاد التتار لمّا احتلوا بلاد الشام، وكَتب للمسلمين يحرضهم على القتال وينبههم إلى هذه السنة الإلهية في نصر أوليائه، وهلاك أعدائه.

فكان مما كتب لهم قوله:

“إلى من يصل إليه من المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، ونسأله أن يصلي على صفوته من خليقته وخيرته من بريته محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا؛ أما بعد:

فقد صدق الله وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، ﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا ۚ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا﴾ [الأحزاب:25].

والله تعالى يحقق لنا التمام بقوله: ﴿وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَئُوهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا﴾ [الأحزاب:26-27].

فإن هذه الفتنة التي ابتُلي بها المسلمون مع هذا العدو المفسِد الخارج عن شريعة الإسلام قد جرى فيها شبيه بما جرى للمسلمين مع عدوهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المغازي التي أنزل الله فيها كتابه، وابتلى بها نبيه والمؤمنين؛ مما هو أسوة لمن كان يرجو الله اليوم الآخر وذكر الله كثيرًا، إلى يوم القيامة”. (2مجموع الفتاوى، 28/ 424-428)

عموم خطاب القرآن والسنة الى يوم القيامة

“فإن نصوص الكتاب والسنة، اللذين هما دعوة محمد صلى الله عليه وسلم ، يتناولان عموم الخلق بالعموم اللفظي والمعنوي، أو بالعموم المعنوي. وعهود الله في كتابه وسنة رسوله تنال آخر هذه الأمة كما نالت أولها.

وإنما قصّ الله علينا قصص من قبلنا من الأمم لتكون عبرة لنا، فنشبه حالنا بحالهم، ونقيس أواخر الأمم بأوائلها، فيكون للمؤمن من المتأخرين شبه بما كان للمؤمن من المتقدمين، ويكون للكافر والمنافق من المتأخرين شبه بما كان للكافر والمنافق من المتقدمين؛ كما قال تعالى لما قص قصة يوسف مفصلة، وأجمل قصص الأنبياء، ثم قال: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ﴾ [يوسف: 111] أي: هذه القصص المذكورة في الكتاب ليست بمنزلة ما يُفتَرى من القصص المكذوبة، كنحو ما يُذكر في الحروب من السير المكذوبة.

وقال تعالى لمّا ذكر قصة فرعون: ﴿فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَىٰ * إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ﴾ [النازعات:25-26].

وقال في سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مع أعدائه ببدر وغيرها: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا ۖ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ۚ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [آل عمران:13].

وقال تعالى في محاصرته لبني النضير: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ۚ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا ۖ وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ۚ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [الحشر:2]. فأمَرنا أن نعتبر بأحوال المتقدمين علينا من هذه الأمة، وممن قبلها من الأمم”. (3المصدر السابق)

اطّراد سنته تعالى

“وذكر في غير موضع أن سنته في ذلك سنة مطّردة، وعادته مستمرة؛ فقال تعالى: ﴿لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَّلْعُونِينَ ۖ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ [الأحزاب:60-62].

وقال تعالى: ﴿وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلً﴾ [الفتح:22-23].

وأخبر سبحانه أن دأب الكافرين من “المستأخرين” كدأب الكافرين من “المستقدمين”.

فينبغي للعقلاء أن يعتبروا بسنة الله وأيامه في عباده، ودأب الأمم وعاداتهم، لاسيما في مثل هذه الحادثة العظيمة التي طبق الخافقين خبرُها، واستطار في جميع ديار الإسلام شررها، وأطلع فيها النفاق ناصية رأسه، وكشر فيها الكفر عن أنيابه وأضراسه، وكاد فيها عمود الكتاب أن يُجتثَّ ويُختَرَم، وحبل الإيمان أن ينقطع ويُصْطَلَم، وعقر دار المؤمنين أن يحل بها البوار، وأن يزول هذا الدين باستيلاء الفجرة التتار.

وظن المنافقون والذين في قلوبهم مرض أن ما وعدهم الله ورسوله إلا غرورًا، وأن لن ينقلب حزب الله ورسولُه إلى أهليهم أبدًا، وزُين ذلك في قلوبهم، وظنوا ظن السوء وكانوا قومًا بورًا، ونزلت فتنة تركَت الحليم فيها حيران، وأنزلت الرجل الصاحي منزلة السكران، وتركت الرجل اللبيب لكثرة الوساوس ليس بالنائم ولا اليقظان، وتناكرت فيها قلوب المعارف والإخوان، حتى بقي للرجل بنفسه شغل عن أن يغيث اللهفان”. (4المصدر نفسه)

ظهور النفوس ، وظهور حقيقة الأعمال

“وميّز الله فيها أهل البصائر والإيقان من الذين في قلوبهم مرض، أو نفاق وضعف إيمان، ورفع بها أقوامًا إلى الدرجات العالية، كما خفض بها أقوامًا إلى المنازل الهاوية، وكفّر بها عن آخرين أعمالهم الخاطئة، وحدث من أنواع البلوى ما جعلها قيامة مختصرة من القيامة الكبرى؛ فإن الناس تفرّقوا فيها بين شقي وسعيد كما يتفرقون كذلك في اليوم الموعود، وفرّ الرجل فيها من أخيه وأمه وأبيه؛ إذ كان لكل امرئ منهم شأن يغنيه.

وكان من الناس مَن أقصى همّته النجاة بنفسه، لا يلوي على ماله ولا ولده ولا عُرسه، كما أن منهم من فيه قوة على تخليص الأهل والمال، وآخر فيه زيادة معونة لمن هو منه ببال، وآخر منزلته منزلة الشفيع المطاع، وهم درجات عند الله في المنفعة والدفاع، ولم تنفع المنفعة الخالصة من الشكوى إلا الإيمان والعمل الصالح، والبر والتقوى، وبليت فيها السرائر، وظهرت الخبايا التي كانت تكنها الضمائر.

وتبين أن البهرج من الأقوال والأعمال يخون صاحبه أحوج ما كان إليه في المآل.

وذم سادته وكبراءه من أطاعهم فأضلوه السبيلا، كما حمد ربه من صدق في إيمانه فاتخذ مع الرسول سبيلًا.

وبان صدق ما جاءت به الآثار النبوية من الأخبار بما يكون، وواطأتها قلوب الذين هم في هذه الأمة محدَّثون، كما تواطأت عليه المبشِرات التي أُريها المؤمنون، وتبين فيها الطائفة المنصورة الظاهرة على الدين، الذين لا يضرهم من خالفهم ولا مَن خذلهم إلى يوم القيامة؛ حيث تحزبت الناس ثلاثة أحزاب:

حزب مجتهد في نصر الدين. وآخر خاذل له، وآخر خارج عن شريعة الإسلام.

وانقسم الناس ما بين: مأجور، ومعذور، وآخر قد غره بالله الغرور.

وكان هذا الامتحان تمييزًا من الله وتقسيمًا؛ ﴿ليَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [الأحزاب:24]“.أهـ (5المصدر نفسه)

بشارة الله قائمة للمؤمنين

وقال أيضًا في هذه النازلة يبشر المؤمنين بالنصر وأن العاقبة للمتقين:

“واعلموا ـ أصلحكم الله ـ أن النصرة للمؤمنين والعاقبة للمتقين، وأن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وهؤلاء القوم مقهورون مقموعون، والله تعالى ناصرنا عليهم ومنتقم لنا منهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..

فأبشروا بنصر الله تعالى وبحسن العاقبة ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران:139]، وهذا أمر قد تيقنّاه وتحققناه، والحمد لله رب العالمين”. (6مجموع الفتاوى، 28/ 419-420)

خاتمة

لا بد من الخروج من المأزق.

وإن خطاب الإيمان والقرآن لا يزالا هما مناط النجاة وطوقها المأمون والمنشود. وكل “طنين” حول غيره هو أشبه بطنين ذباب حول عفَن القوميات ومزابل التعصبات الفارغة والعلمانيات المعادية للاسلام ونواتجها القذرة.

وقد أبلغ الله تعالى لنا القول؛ فهل مَن يعي..؟

…………………………………

الهوامش:

  1. جامع الرسائل والمسائل، 1/54.
  2. مجموع الفتاوى، 28/ 424-428.
  3. المصدر السابق.
  4. المصدر نفسه.
  5. المصدر نفسه.
  6. مجموع الفتاوى، 28/ 419-420.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة