بين إقامة الشخصية العظيمة، والوفاء بالتكاليف فالإمامة في الخير، وبين الأثر الباقي، ومعنى الحضارة وكيفية البحث عن الأمان، وبين التسليم الخاص والانقياد بلا تردد؛ تبقى شخصية إبراهيم عليه السلام تعلّم الأجيال هذا الخير..

دروس آل إبراهيم

مع موسم الحج يتذكر المسلمون إبراهيم وآل إبراهيم، ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم، فهو أفضل آل إبراهيم..

وفي إبراهيم عليه السلام دروس باقية الى يوم القيامة وقد أثنى الله عليه وأمرنا بالاتّساء به واقتفاء أثره..

وهذه وقفات مع هذه الشخصية العظيمة والتجربة الفذة في الاستسلام لله والدعوة اليه والمواجهة بدينه، وتحطيم الباطل، وبناء قواعد للخير بقيت الى يوم القيامة، في الجغرافيا بين الشام والجزيرة، وفي القلوب حيث تعرفهم قلوب المؤمنين والموحدين الى يوم يلقون الله تعالى..

كن شخصية عظيمة

لم يكن إبراهيم شخصية سطحية أو إمعية، وإلا لما كان إبراهيم..

لم يقتنع بما عليه الجموع بل كانت له رؤيته ويقينه، وبحثه عن هذا اليقين الفطري البدهي بأدلة قاطعة.

بل وناظر على هذا اليقين وهذه العقيدة.

لم يكن إبراهيم صاحب رؤية يكتفي بها وحسب، بل كان صاحب إرادة وصاحب موقف ومواجهة.

لقد واجه أباه وقومه بحقيقة ما هم عليه فلم يسمّ معبوداتهم آلهة، بل سماها بحقيقتها (أصناما، وتماثيل) ثم قال كيف تتخذ هذه الحقيقة الباطلة المرذولة آلهة ﴿أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً﴾ (الأنعام:74) ثم يقرر بلا تلعثم ﴿إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ (الأنعام:74)، وكذا يواجه قومه ﴿مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ﴾ (الأنبياء:52) ثم يقرر أيضا بلا تلعثم ﴿لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾(الأنبياء:54).

إنه يراهم ، ويرى أوضاعهم، ويرى معبوداتهم، على حقيقتهم عرايا عن الحق موغلين في الضلال..

ثم إنه لا يكتفي أنه علم الحق؛ بل سعى الى المواجهة والتغيير والصدع بالحق وتكسير الأصنام وهدم التماثيل برمزيتها وبما فوقها من أوضاع اجتماعية وسياسية واقتصادية، وإنزال الهزيمة بهم حتى وصل بهم الى الحالة التي أقروا فيها بسفاهتهم ﴿فَرَجَعُوا إِلَىٰ أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (الأنبياء:64)..

ولا عليه أن تمادوا أو عاندوا بعدها؛ فقد عرّاهم وكشف زيفهم وأبقى إقرارهم حجة عليهم الى يوم القيامة.. نقرؤه نحن الى هذه اللحظة!

أما أنا وأنت بعد إبراهيم؛ فاعلم أنك لن تصنع شيئا لو كنت شخصية مائعة أو تافهة أو سطحية تسير بين الجموع باحثا عن دفء العدد ولو على الباطل بدون تفكير.. لن تصنع شيئا لنفسك، ولا لأمتك، ولا لآخرتك إن سمعت الكذب فصدقته وخوطبت بالباطل فاستجبت له.

لا نجاة يوم القيامة إلا بالإحساس العميق بالمسؤولية، مسؤولية العقيدة والموقف.

ولن تقدم لأمتك شيئا ما دمت مترددا تعيش على هوامش الأحداث وترضى بالخطاب الكاذب وتخدع نفسك.

إن مجرد وجودنا في الحياة يفرض مسؤولية ضخمة، إن لنا في الوجود دورا، واليوم العظيم قادم؛ ولا بد من تقرير المصير وحمل الزاد وامتلاك الرؤية واتخاذ القرار وشحذ الإرادة.. على طريق إبراهيم وآل إبراهيم.

كن وفيّا تكن إماما

تقدم إبراهيم بالامتثال والوفاء بالتكاليف، فجوزي أن صار إماما.. ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾ (البقرة:124)..

فالإمامة تالية للامتحان، وهي جزاء للامتثال والقيام بالأمر وحفظ الحد وتعظيم الحرمة.

لقد أصبح إبراهيم إماما لمن بعده، وإبراهيم أسوة؛ وباب الإمامة مفتوح للناس ولم يغلَق دونهم؛ والإمامة مطلب للمتقين ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ (الفرقان:74).

والناس تحتاج الى أئمة في الدين، يشاهدونهم ويحتكّون بهم ويرون الدين ممثلا فيهم وفي أعمالهم ومواقفهم، كما في أقوالهم ودلالتهم على الله وعلى طريقه تعالى.. فتشرئبّ إليهم الأعناق وتلحظهم العيون.. إنها طبيعة البشر.

وأئمة الدين للمجتمعات كالجبال للأرض؛ فإذا ذهبت الجبال مادت الأرض، وإذا ذهب أئمة الدين ماد الناس واضطربوا، واضطربت مجمتعاتهم..

قد تكون الإمامة عامة كإمامة إبراهيم والنبي محمد صلى الله عليه وسلم من بعده.. وقد تكون لجيل من الناس أو لمجتمع أو بلد، أو لطائفة من المسلمين يهتدون به، أو أقل من ذلك.. وأقله أن يكون المسلم إماما لأسرته وأهله ينظرون اليه فيقتفون أثره ليدلهم على الطريق.. وأقل من ذلك ضياع وهلكة.

كن كما قال ابن مسعود «مصابيح الدجى»، وسِرْ على درب إبراهيم، وآل إبراهيم.

أنت مؤثر شئت أم أبيت

الإنسان مؤثر بطبيعته شاء أم أبى.. يؤثر في ظهر الأرض بوطئه وحركته، ويؤثر في نفوس الناس قولا وفعلا، حُسْنا وسوءا.. ولهذا قرر تعالى أنه يَكتب للعبد العملَ وأثرَه ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ﴾ (يس:12) وهي تشمل كتابة الأثر المادي كوقْع الخطوات، ويشمل أثرَه في النفوس ودوامَ تأثيره بعده.

إنك تترك انطباعا في كل من رآك أو سمعك أو تعامل معك، تترك أثرا في والديك وإخوتك، وزوجك وولدك، وجيرانك وزملائك..

فإذا كنت مدعيا “للالتزام” نظرت إليك العيون نظرة أخرى؛ فراقَب الناس أحوالك للدلالة على أن هناك من التزم أمر الله فيشجعهم أو يعلّمهم أو يكون حجة عليهم..

أنت لا تدري الى ما ينتهي الأثر ولا متى ينتهي الأثر.. ولن تحصر النفوس التي تتأثر بك، ولا تحدد كيف تتأثر بك.

وإذا عمل الإنسان سرا فقد جاء في الحديث أن الله تعالى يُخرج عمله للناس كائنا ما كان سره، وجاء عن بعض الصحابة أن الله تعالى يُلبس الرجل جلباب عمله ولو كان سرا، وأن عمله يبدو على صفحات وجهه وفلتات لسانه.

قد يموت رجل سوء ويبقى أثره السيء في النفوس فبرغم موته لا يُغلق كتاب سيئاته..! ولهذا قال السلف «طوبى لمن مات وماتت معه ذنوبه».

وقد يرحل رجل خير فيبقى كتاب حسناته ـ من قول وعمل وأثر وصلة ـ لا يُغلق رغم موته.

تذكر أنه قد امتثلَت يوما مؤمنةٌ لأمر ربها، ووثقت فيه وتوكلت عليه وأحسنت به الظن، وسعَت بقدر طاقتها؛ فأبقى الله تعالى خطواتها نُسُكا الى يوم القيامة تطأ ملايين وملايين الأقدام أثَر خطواتها، ساعين حذو سعيها، راجين عتق نفوسهم والنجاة بها..

وصار نُسك إبراهيم وفداؤه نسكا الى يوم القيامة..

لم تكن هذه المؤمنة تعرف أثر سعيها يوما في صحراء خالية فنقل الله سعيها الى العالمين..

لن تجد مثل الإخلاص والامتثال يبقيان لك ويُبقي الله تعالى لك الأثر كما شاء، وبحسب الإخلاص، وبحسب حكمة الله الحميد المجيد.. على خطى إبراهيم وآل إبراهيم

الحضارة والدين عند إبراهيم وآل إبراهيم

يفرق الإسلام تماما بين جانب الإبداع المادي والحضاري؛ فيفتح هذا الباب للناس بوسعه، ليولجوا فيه على سعة قدراتهم، لكنه يضع لهم ضوابط أخلاقية، وغايةً نظيفة، وإطارا اجتماعيا وفوائد عملية يستهدفونها.

ويضع للناس أيضا جانبا تعبديا لله تعالى يستسلمون فيه لأمره ويخضعون فيه لحكمه ويلهجون فيه بذِكْره.

والإنسان يبحث عن هذا الجانب؛ فالمخترِع الياباني يخرج من جيبه تمثالا يسجد له! والطائرة الروسية (يباركها!) قساوستهم لتقتل أطفالا ونساءا !! والأمريكي يبعث في جنوده وشعبه الحماس بأن يجعلوا حروبهم صليبية فيما يعتقدون بالصَّلب والفداء وموت الرب! وبعثه!

هكذا الإنسان؛ لأن فيه جانبا يتوق أن يتجه لقوة جبارة وعظيمة يخضع لها في جانب بينما هو يخترع ويعمل بيديه ويُعمل عقله في جانب آخر ليكون مطمئنا.. فإن لم يقض هذه الجوعة لله وحده قضاها بالشرك وسفاهته..!

إنها جوعة دائمة في “الإنسان” من حيث هو “إنسان”.. والسبب أن الله تعالى فاطر الإنسان وخالقه جعل فيه جوعة التوجه إليه تعالى من وراء الغيب، ولهذا ما زالت تبحث روح الإنسان عن الغيب؛ فإن اهتدت بالوحي اتجهت الى الله الوجهة الصحيحة  ﴿لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ﴾ (المائدة:94)، وإن تركَت الوحي زلّت وضلَت وأتت بالهزء والأعاجيب فسجد للصنم وعبد الوثن وركع للصَّليب.

ولهذا فالاستسلام لله بالتعبد له في الزمان الذي أمر، والمكان الذي أمر، وعدد مرات الطواف، والسعي، ورمي الحصى وحلق الرؤوس لله وذبح الهدي، وترك المحظورات.. المبيت في منى ثم مزدلفة والوقوف على جبل الرحمة، ورفع اليدين والابتهال العميق، والدعاء والإلحاح، وسكب العبرات والنشيج لرب العالمين؛ هو جوعة فطرية وحاجة ملحّة وفقر إنساني لله لا يُسدُّ إلا بعبادته تعالى.. وهو مأخذ إبراهيم وآل إبراهيم.

الأمان فيما أمر

لم يمهّد إبراهيم لزوجه وابنه أنه سيتركهم في الصحراء، ولم يأمرهم بالأسباب الفلانية والفلانية، بل تركهم حيث أمر الله مطمئنا لربه؛ فاستجاب للهجرة بالزوجة والإبن، وتركهما في الصحراء حيث أُمر ثم مضى.. لولا أنْ سألته زوجته «آلله أمرك بهذا»؟ فأومأ برأسه أن «نعم» فقالت: «إذن لن يضيعنا».

ورضيت امرأته واطمأنت أنها لن تضيع عندما استوثقت أنه أمر الله..

وذهب ليذبح ابنه كما أُمر مطمئنا أن الخير كله فيما أمر الله..

كذّب نفسك إن لامتْك على القيام بأمرٍ أو ترْك محرمٍ فقد أقسم الله أن الإنسان في خُسر عدا من قام بما أمر الله من إيمان وعمل صالح وتواصي بالحق وتواصي بالصبر.. ولو بدا لأحد للحظة أنه قد فاته خير أو أصابه شر بسبب أمر الله؛ فهذا غير صحيح بل كذب.

إن الاستسلام في اطمئنان، والثقة في الخير فيما أمر الله، وتحقق كل الخير فعلا لأجيال مديدة في بركة القيام بأمر الله تعالى هو درب إبراهيم وآل إبراهيم.

التسليم

صفة التسليم التي تميز بها إبراهيم صلى الله عليه وسلم وإخوانه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (البقرة:131) وقد ظهر هذا التسليم واضحا في شعائر الحج كتسليمه لربه في ذبح ابنه، وكتسليمه في ترك ذريته بواد غير ذي زرع، توكلا على الله عز وجل.

“هذا إبراهيم الشيخ. المقطوع من الأهل والقرابة. المهاجر من الأرض والوطن. ها هو ذا يرزق في كبرته وهرمه بغلام. طالما تطلع إليه. فلما جاءه جاء غلاماً ممتازاً يشهد له ربه بأنه حليم. وها هو ذا ما يكاد يأنس به، وصباه يتفتح، ويبلغ معه السعي، ويرافقه في الحياة.. ها هو ذا ما يكاد يأنس ويستروح بهذا الغلام الوحيد، حتى يرى في منامه أنه يذبحه. ويدرك أنها إشارة من ربه بالتضحية. فماذا؟

إنه لا يتردد، ولا يخالجه إلا شعور الطاعة، ولا يخطر له إلا خاطر التسليم.. نعم إنها إشارة. مجرد إشارة. وليست وحياً صريحاً، ولا أمراً مباشراً. ولكنها إشارة من ربه.. وهذا يكفي.. هذا يكفي ليلبي ويستجيب. ودون أن يعترض. ودون أن يسأل ربه.. لماذا يا ربي أذبح ابني الوحيد؟!

ولكنه لا يلبي في انزعاج ، ولا يستسلم في جزع ، ولا يطيع في اضطراب.. كلا إنما هو القبول والرضى والطمأنينة والهدوء. يبدو ذلك في كلماته لابنه وهو يعرض عليه الأمر الهائل في هدوء وفي اطمئنان عجيب:

﴿قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ﴾.(الصافات:102)

فهي كلمات المالك لأعصابه، المطمئن للأمر الذي يواجهه، الواثق بأنه يؤدي واجبه. وهي في الوقت ذاته كلمات المؤمن، الذي لا يهوله الأمر فيؤديه، في اندفاع وعجلة ليخلص منه وينتهي، ويستريح من ثقله على أعصابه!”

“لقد أسلما.. فهذا هو الإسلام. هذا هو الإسلام في حقيقته. ثقة وطاعة وطمأنينة ورضى وتسليم.. وتنفيذ.. وكلاهما لا يجد في نفسه إلا هذه المشاعر التي لا يصنعها غير الإيمان العظيم”.(1)

ومن نماذج التسليم في حياة إبراهيم عليه السلام وما أكثرها.. ما رواه البخاري في صحيحه عن مجيء إبراهيم بابنه إسماعيل وأمه هاجر الى مكة، وفيه:

«جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه، حتى وضعهما عند البيت عند دوحة، فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جرابا فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقا، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي، الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال نعم، قالت: إذن لا يضيعنا، ثم رجعت»(2)(3).

الهوامش:

  1. “ظلال القرآن:5\2994-2996”.
  2. البخاري 3364.
  3. راجع كتاب (قال اسلمت لرب العالمين) الشيخ عبد العزيز الناصر، ص: 45-55.

اقرأ أيضا:

 

التعليقات غير متاحة