التوكل آلة للعبد في كل عمل، ونعْم من يتوكل عليه العبد. وللصلاة مساحة وقيمة، في القلوب وفي العمران كذلك، والأمة حاضرة في دعوة الأنبياء فلم يكونوا فُرداى فحسب، وصدقهم عظّم تأثيرهم، وفي يوم عرفة نطلب النجاة.. تلك المعاني ننظر اليها
لا تقف بنفسك بل بربك
وقف إبراهيم مواقف عظيمة، أثّرت فيمن جاء بعده؛ لكنه في كل هذا لم يكن يقف بنفسه بل كان يقف بربه؛ إذ كان متوكلا..
ففي اليقين والرؤية والعلم توكل ﴿لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ﴾ (الأنعام:77) قالها على وجه الافتقار إلى الله تعالى أن يهديه، وأعلن أنه لو لم يهده ربه إليه لضلّ، وأنه لا طريق للهداية إلا أن يهديه الله، معلّما قومه أنه لا بد من التوكل للوصول إلى العلم واليقين.
وفي المواجهة حينما ألقوه في النار وقف أيضا بربه فقال: «حسبي الله ونعم الوكيل»، تحسبا بالله واكتفاء به وتوكلا عليه في مواجهة الموقف، والثبات فيه، والنجاة منه..
ففي العلم وصل إلى اليقين والاطمئنان، وفي المواجهة صار إماما رضي الله إمامته وأمرَنا باتباع ملّته، وهي ملة الأنبياء قبله وبعده؛ لكن لم يُبعث بعده نبي إلا من ذريته..
أنت ضعيف، والأحمال ثقيلة والأنواء كثيرة والعدو متربص، ولو وقفْت بنفسك ضعفت وهلكت ولم تقْوَ على المسير، فاستيقن أنه لا حيلة لاستكمال الطريق وصدّ العدو وغلبته إلا أن يكون الله عضدك ونصيرك.
إنه التوكل على الله والتحسب به والاكتفاء به، واليقين فيه وحسن الظن وصدق الالتجاء؛ فكيف يخيب رجل يقوم بهذا؟ فكن على درب إبراهيم وآل إبراهيم.
الصلاة عند إبراهيم وآل إبرهيم
لم تكن الصلاة عند إبراهيم وآل إبراهيم أمرا هامشيا في حياتهم؛ بل كانت بحيث تقوم لها مدن وتنشأ لها قرى وتُبنى لها ممالك وبلدان ﴿رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ (إبراهيم:37).
فمن أجل هذه الشعيرة وضع أهله وولده آملا أن تهوِي إليهم أفئدة، وما قام بهذا إلا من أجل إقامة شعائر هذا الدين..
هذا محل الشعائر عند إبراهيم وآله؛ فانظر كيف منزلتها في القلوب وكيف مكانتها في النفوس وكيف مساحتها في الحياة..
ومعنى إقامتها يشمل الأداء فرديا، والاجتماع من أجلها، ويشمل التعظيم، ويشمل فرضيتها ومنع انتهاك حرمتها بمنع الجهر بتركها، يعني تنظيم الأوقات من أجلها وتنظيم الأعمال والتجارات والوظائف والدراسة وأعمال الحكومات على وفقها وعلى احترامها، ومنع المستهتر بتركها من استهتاره، ورصد الأموال والمؤذنين والأئمة والجند من أجلها..
لقد نشأت مكة مع إبراهيم من أجل هذا المعنى العظيم ﴿رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾.
والمدينة في الإسلام لا يكون مركزها صالات الرقص وأندية الترفيه؛ بل ما يقيم “الشعيرة” وهو “المسجد الجامع” فهو قلب المدينة، وما يقيم “أحكام الله” من إدارات حاكمة من حاكم ومحافظ ليكونوا مسؤولين عن إقامة الدين وإصلاح الحياة معا، للخلق جميعا..
إنه درب إبراهيم وآل إبراهيم.. فصلى الله عليه وعلى نبينا محمد، وعلى الكليم موسى والمسيح عيسى، وعلى جميع المرسلين.. الذين وصفهم الله بقوله ﴿والمقيمين الصلاة﴾.
الأمة التي شغلت إبراهيم
كان معنى (الأمة) حاضرا عند إبراهيم؛ فلم يكن يتعبد بصيغة فردية فقط، في عصر لم تكن الأعداد ضخمة ولا الدول متماسكة ومتسلطة مثل الوضع المعاصر، ولم تكن الدول تشكل وحدات سياسية متراصة ومتشابكة مثل اليوم، ولم يكن للدولة دور متغول على تربية النشء وقيم الناس واقتصادهم ولقمة عيشهم مثلما نرى الدولة الحديثة ذات المؤسسات المتغولة والطاغية..
ومع هذا لم يكتف إبراهيم بنجاته الفردية ولا الاستسلام الفردي بل كان يسعى نحو (الأمة) ويطلب من ربه ويدعوه من أجل (الأمة) القادمة! وكان يدعو أن توجد أمة مسلمة، ثم سأل لهذه الأمة ما يهديها ويحفظ لها دينها.. ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ (البقرة:128).
أمة تحمل الإسلام كعقيدة، وتحمل الإسلام كنظام وقانون، وتحمل الإسلام كهوية وولاء، وتحمل الإسلام كقيم وأخلاق، وتحمل الإسلام كصبغة ومشرب حضاري.
لم يكن الإسلام دينا فرديا عند إبراهيم وآل إبراهيم، ولم يتركوا الحياة ليفسدها الطغاة، بل واجهوا الطغاة وأنشأوا أمة، ودعوا لوجود ما تحتاجه تلك الأمة، وقرروا الحق وواجهوا به، وورّثوه فيمن بعدهم وتركوه حيا نابضا يرجع الناس إليه دائما.. ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (الزخرف:28).
لعلهم يرجعون كلما نسوا، ولعلهم يفيئون كلما ابتعدوا.. وما زلنا نقول:
“لعلهم يرجعون إلى الإسلام كنظام وقانون، وكهوية وولاء، وكقِيم وأخلاق، وكصبغة ومشرب حضاري..”
لعلهم يرجعون..
تأثر هاجر وإسماعيل بإبراهيم
كانت لقاءات إبراهيم بإسماعيل بعد ما كبر وتخطى مرحلة الرضاع محدودة، بل ومعدودة؛ عدّها أهل السير وعلماء التاريخ.
لكن كانت انطباعات إسماعيل بأبيه عميقة جدا، وأثّر في تربيته وتكوينه عميقا جدا..
عاشت هاجر مع إبراهيم فترة معينة لكنها ليست طويلة بل انتقلت مع ابنها إلى مكة المكرمة ونشأ من ذريتها (أبناء إسماعيل) العرب بعد ذلك.. لكن في فترة حياتها مع إبراهيم كان تأثرها به عميقا؛ فبعد فترة وثنيتها في مصر، أصبحت زوجة لنبي، وصلح حالها لأن أصبحت تربي نبيّا رسولا..!
كيف تأثرت هاجر وكيف انطبعت بإبراهيم وكيف كان تأثيره ـ عليه السلام ـ في قلبها وقلب ولده؟
كم عاش يوسف مع يعقوب؟ ومتى تركه؟ تركه غلاما ذا سنين معدودة..لكن بقيت تلك التربية حتى قال وهو في السجن: ﴿وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ۚ ذَٰلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ (يوسف:38).
كيف انطبع يوسف في سنه الصغيرة واستمر هذا التأثر والانطباع عميقا وجادا في نفسه؟ وكيف استمر نفس الانطباع في نفس إسماعيل عميقا وجادا؟ وكيف نشأ كل منهما نبيين رسولين ينموان محتفظين بتلك التركة ويرعيان تلك البذرة، وتثمر فيهما تلك التربية وتدوم تلك الانطباعات ويتجذر ذلك التأثر؟
نعم إنهما نبيان كريمان، رباهما الله تعالى تحت عينه، ولكن الله تعالى سبّب لهما ذلك التإثير، كل في بيته، وجعل تعالى لهذا التأثير دواما وجذورا في قلبيهما.. بسبب الصدق العميق لإبراهيم ويعقوب، حتى كان لتلك الفترة البسيطة من الاحتكاك بإبنيهما ذلك الأثر الممتد بلا انقطاع..
يجب أن نبحث عن نفوسنا وديننا، يجب أن ننظر في تأثر أبنائنا بنا وأن نرى فيهم حقيقتنا وصورتنا الواضحة.
أما مجرد الإحالة السهلة بأننا جيدون وأن أبناءنا سيئون ولا تنجع فيهم التربية؛ فهذا تبسيط وتسطيح وإهمال لجانب مهم يجب مراجعته قبل أن نقرر أن العيب ليس فينا بل في أبنائنا.
في يوم عرفة.. نبحث عن حياة
إننا نبحث عن يوم يكون لنا خير يوم منذ الولادة، ولن يكون ذلك اليوم إلا اليوم الذي تضع فيه عن نفسك الأثقال والأحمال التي حملْتها من الذنوب، وتتطهر فيه من نجاسات الذنوب التي علقت بقلبك؛ فيغسلك الله منها ويطهرك، ويباعد بينك وبينها، ويزيل عنك أثرها بالماء والثلج والبرَد.
كان بعضهم يقول: «اللهم أذقني برْد عفوك وحلاوة مغفرتك»، فالذنوب نار تحرق القلب تحتاج إلى برْد ليسكن ذلك القلب المحترق والضعيف.
عندما تمر على مزابل الدنيا فيفوح نتنها؛ فتمهل فإن ما نحمله من الذنوب أشد نتنا وقبحا بكثير، ولو كان للذنوب رائحة لما تعاشر الناس.
لما قال تعالى: ﴿وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ﴾ (طه:121) فكان التعقيب بالفاء لتوالي الأحداث، لكن عند التوبة قال: ﴿ثُمَّ﴾ ﴿اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى﴾ (طه:122) فعقب بـ ﴿ثُمَّ﴾ وذلك لأن التوبة ليست ادعاء باللسان بل هي حالة من الندم الذي يخلف كل موضع شهوة من القلب، فتبقى حسرة الفوات وندم الوقوع في المخالفة في كل محل كانت فيه شهوة محرمة؛ فتنتفي عن القلب معصيته، ويبقى الندم يخلف محل المعصية ويحل محل لذة الشهوة المحرمة؛ فيستعيد المرء قلبه ويلمّ شعثه ويجمع شتاته ويصلح خلله ويداوي جرحه ويلتئم عليه..
وعندما يطهر ويخلُص لربه تعالى ويسعى إليه بقلب سليم يصلُح حينها لمجاورة القدُس والولوج على الله والفوز بالقُرب.
لمّا ذكر تعالى خلق الإنسان وبدايته، وحمله للأمانة ذكر ظلمه وجهالته ﴿وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا﴾ (الأحزاب:72) ولكنه تعالى ذكر عقبها غاية العبد من وراء ذلك وآخر مسعاه فذكر التوبة ﴿وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ (الأحزاب:73).
كم من خير فاتك بسبب معصية التفتّ إليها أو لم تلتفت، وكم من الهم أو الحزن أصابك بسبب معصية قد لا تلقي لها بالا، وكم من علم نُسي أو وحشة في القلب حدثت أو قسوة حالت أو مصاب أصابك أو وهن في قوتك أو ضعف في بصيرتك أو لذة عبادة فقدتها أو عمر فاتك في غير منفعة.. كل هذا بسبب ذنب حدث أو معصية اقتحمتها..
في يوم عرفة يطلب الناس النجاة؛ هم القتلى والقتلة، هم الضحايا والجناة ، إنهم يطلبون الحياة فاطلبها معهم لعلك تلحق بالقوم وإن باعدت بيننا وبينهم خطى..