المقاطعة الاقتصادية فيها قطع للموارد عن صفوف المحاربين، وفيها ضغط حقيقيّ على كلّ من يدعمهم أو يعينهم من أجل إيقاف دعمهم وإعانتهم لهم، فالامتناع الاقتصاديّ عمّا ينفعهم أو يعود بالنفع عليهم هو جهاد منع، كما أنّ الإنفاق جهاد دعم…

المقاطعة: المقصود بها وأهم مجالاتها

تعدّ المقاطعة عمومًا في فحواها الاجتماعية فعلًا إنسانيًّا يقصد به: التأديب والضغط وفرض الإرادة على الآخر، ومن أهمّ مجالاتها: المقاطعة الاقتصادية، والتي تعدّ من أقوى أسلحة الضغط، فهي سلاح فعّال في مواجهة العدو الصهيوني وداعميه، وممّا يدلّ على أثر هذا السلاح أن رئيس وزراء الكيان الصهيوني أعاد ذكر اسم منظّمة “بي دي إس” (والتي تعني: مقاطعة، سحب استثمار، وعقوبات – وهي من التنظيمات الشعبيّة المنتشرة في العالم، والتي تعمل على المقاطعة الاقتصاديّة للكيان الصهيوني-) أكثر من 15 مرة في خطاب له في أمريكا.

النبي ﷺ يقاطع بني قينقاع ويأمر بإنشاء سوق المدينة

وقد استخدم النبي ﷺ سلاح الحرب الاقتصادية مع يهود بعد اعتداء اليهودي على المرأة المسلمة في سوق بني قينقاع حيث عاقبهم النبي -صلّى الله عليه وسلّم- بالمقاطعة الاقتصاديّة ثم الحصار والإجلاء، فقد كان سوق بني قينقاع أكبر سوق في المدينة ولم يكن للمسلمين أيّ سوق فيها، فقام النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- بإنشاء سوق إسلاميّة لأهل المدينة وجعلها في مكان مركزيّ بحيث تستقبل التجّار من خارج المدينة من الجهات كافّة في مكان واسع في طرف المدينة، فقد روي عن صالح بن كيسان قال: “ضرب رسول اللَّه ﷺ في موضع النبيط، فقال: هذا سوقكم، فأقبل كعب بن الأشرف، فدخلها، وقطع أطنابها1(1) الطُّنُبُ: طُنُبُ الْخِيَامِ، وَهِيَ حِبَالُهَا الَّتِي تُشَدُّ بِهَا. انظر مقاييس اللغة لابن فارس، 3/ 426.، فقال ﷺ لا جرم، لأنقلنها إلى موضع هو أغيظ له من هذا، فنقلها إلى موضع سوق المدينة، ثمّ قال: هذا سوقكم، لا يحجر، ولا يضرب عليه الخراج”2(2) انظر: المقريزي، أحمد بن علي، إمتاع الأسماع بما للنبيّ من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع، تحقيق: محمد عبد الحميد النميسي، الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة: الأولى، 1420 هـ – 1999 م، إمتاع ج9/ ص362.

ومن الملاحظ هنا ما قام به كعب بن الأشرف وهو من زعماء يهود بني النضير من قطع أطناب خيمة السوق، حيث أدرك أن هذا السوق سيكون له أثر بالغ على أسواق يهود في المدينة حيث كانت أسواقهم وبشكل خاصّ سوق قينقاع هي الأسواق الوحيدة في المدينة، فقام النبيّ ﷺ بنقلها إلى مكان أغيظ له من المكان الأوّل، ثمّ يلاحظ أيضًا أنّ سوق المدينة الإسلاميّ كان سوقاً مفتوحًا لا يحجر ولا تفرض فيه أيّ ضرائب على التجّار، بعكس أسواق يهود، ممّا أدّى إلى كساد تجارة اليهود في المدينة المنوّرة.

مقاطعة البضائع المصنّعة في ألمانيا

وجاء في تاريخ الأمم مثل هذه النوعيّة من المقاطعة، مثل ما جرى بعد الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945م) إذ امتنع كثير من الناس في أوروبا من شراء البضائع المصنّعة في ألمانيا، بسبب احتلالها لبلادهم، ومثل ما دعا له المهاتما غاندي بمقاطعة البضائع الأجنبيّة بإحراقها علنًا في بومباي ضمن سلسلة من أعمال الاحتجاج ضد الاستعمار البريطاني للهند.

بالأرقام..خسائر الشركات العالمية الداعمة لإسرائيل

وقد كان للمقاطعة الاقتصادية للشركات الصهيونية أو الداعمة للصهاينة التي ابتدأت منذ ما بعد السابع من أكتوبر من العام 2023م بسبب الحرب على غزة أثر بالغ، فعلى سبيل المثال أعلنت شركة “ماكدونالدز” فشلها في تحقيق مبيعاتها المستهدفة لأوّل مرّة منذ 4 سنوات، وقد خسرت نحو 7 مليارات دولار من قيمتها في يوم واحد بعد إعلان مديرها المالي (إيان بوردن) عن استمرار تأثير المقاطعة في المنطقة العربية والعالم الإسلامي على المبيعات خلال العام الحالي3(3) مقال بعنوان: ماكدونالدز تخسر 7 مليارات دولار متأثّرة بالمقاطعة لأجل غزة، منشور في: https://www.aljazeera.net/ebusiness، وتواصل شركة (ستاربكس) الأمريكية على سبيل المثال، خسائرها مع تزايد مخاوف المستثمرين بشأن تباطؤ المبيعات، بعد تكبدها خسائر بأكثر من 12 مليار دولار خلال 20 يومًا فقط4(4) مقال: تأثير حملات المقاطعة.. ستاربكس تخسر 12 مليار دولار خلال 20 يومًا، منشور في موقع: https://www.alaraby.com/news.

وبينت حملة (بي دي إس)، أنّ حملات المقاطعة وسحب الاستثمارات أدّت سابقًا إلى إقدام شركات كبرى مثل (فيوليا) (Veolia)، و(أورانج) (Orange)، و(سي آر إتش) (CRH)، على إنهاء تورّطها في المشاريع الصهيونية كلّيًّا، كما أدّت إلى سحب مجموعة واسعة من المستثمرين لاستثماراتهم من الشركات الصهيونية، وكذلك من الشركات العالمية المتواطئة5(5) المصدر السابق..

المقاطعة والخطر الداهم على الإقتصاد الصهيوني

ويتخوّف الاحتلال الصهيوني من توسّع حملات المقاطعة، حتى إنّ وزير الأمن العام والشؤون الاستراتيجيّة السابق (جلعاد أرادان) قال خلال كلمة ألقاها في مؤتمر لحزب اللكود عام 2017، إنّهم انتقلوا من “حالة الدفاع إلى الهجوم”6(6) مقال: حملات المقاطعة ضد إسرائيل.. كيف تمنع قتل طفل فلسطيني؟ منشور في موقع: https://www.alaraby.com/news. فهذا كلّه يدلّ بشكل قطعيّ على كون سلاح المقاطعة من الأسلحة الفعّالة التي لها أثر بالغ على الكيان المحتل وداعميه.

مجالات المقاطعة الاقتصادية

للمقاطعة الاقتصادية مجالات متعدّدة تتوسّع بحسب موارد العدوّ وما يعتمد عليه، وما يخشى منه، ومن هذه المجالات:

الامتناع عن الشراء منهم ومن الشركات الداعمة لهم ومن شركات الدول المؤيّدة لهم، والبيع لهم ولهذه الشركات.

الامتناع عن التعامل الاقتصاديّ معهم عن طريق أيّ نوع من أنواع العقود ومع الشركات الداعمة لهم.

التحذير من التعامل معهم ومع شركاتهم ومع الشركات الداعمة لهم وشركات الدول الداعمة لهم، وبيان حرمة ذلك شرعًا مع ضرورة المقاطعة عقلًا والمصالح المترتّبة عليها للبلدان الإسلاميّة.

الحرب الإعلامية، والتقليل من شأن التجارة معهم وبيان مفاسدها العامّة والخاصّة.

إيجاد الأسواق المقاطعة للعدو الصهيوني وشركاته ولسلع الشركات الداعمة له.

إيجاد التجارة المستقلة البديلة، في المنتجات والبضائع والسلع والمواد.

موقع المقاطعة الاقتصاديّة من الجهاد بالمال

إنّ الجهاد بالمال يسير في مَسلكين، المسلك الأوّل: داعم لصفّ الجهاد والمجاهدين، فكلّ ما يؤدّي إلى تقوية المجاهدين وتمكينهم من الناحية المادّيّة يدخل في هذا المسلك، والثاني: يتضمّن كلّ ما يؤدّي إلى إضعاف العدوّ ومحاصرته وتجفيف منابع تمويله، وذلك من خلال المقاطعة الاقتصاديّة للعدو المجرم ومنع دعمه ومقاطعة كلّ من يدعمه.

تجفيف مصادر تمويل العدوّ الصهيونيّ

فالجهاد بالمال فيه دعم للمجاهدين ولجهازهم الاجتماعي العضوي والإداري والإعلامي. والمقاطعة الاقتصادية فيها قطع للموارد عن صفوف المحاربين، وفيها ضغط حقيقيّ على كلّ من يدعمهم أو يعينهم من أجل إيقاف دعمهم وإعانتهم لهم، فالامتناع الاقتصاديّ عمّا ينفعهم أو يعود بالنفع عليهم هو جهاد منع، كما أنّ الإنفاق جهاد دعم، فالله عزّ وجلّ أمرنا بالإنفاق في سبيل الله لتأييد أهل الحقّ، ومفهوم المخالفة للأمر بالجهاد بالمال، جهاد الكفّار المحاربين بمنع وصول المال والمدد لهم عن طريق مقاطعتهم ومقاطعة كلّ من يدعمهم، فالمقاطعة ما هي إلّا قطع لدابر الكافرين، قال الحقّ جلّ وعلا: ﴿وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ﴾ [الأنفال: 7].

وكما يقوم العدوّ المجرم والدول الداعمة له باتّباع كلّ السبل لتجفيف مصادر تمويل المجاهدين فإنّ من أوجب الواجبات على المسلمين أن يتّبعوا كلّ الأسباب لتجفيف مصادر تمويل العدوّ الصهيونيّ الذي يقتِّل النساء والأطفال والشيوخ، ويدمّر كلّ صور الحياة في غزّة العزّة وعموم فلسطين، وفي المقاطعة تحقيق لجملة من مقاصد الجهاد في سبيل الله من إرهاب العدوّ وإيهان كيده وإذلاله.

من الجوانب الإيجابية للمقاطعة الاقتصادية: تربية أبناء الأمّة الإسلاميّة على التحرّر

وبناء على ما سبق، فإنّ المقاطعة ضرب من ضروب الجهاد، وهي نوع من أنواع الجهاد بالمال في سبيل الله.

وبالإضافة إلى كون المقاطعة من ضروب الجهاد بالمال ففيها تربية لأبناء الأمّة الإسلاميّة على التحرّر، وفيها استعادة للسيادة والسلطة لأمّة الإسلام،؛ لأنّه لا يقصد بالمقاطعة مجرّد الفعل السلبيّ بعدم التعامل بل لا بدّ أن يكون مع ذلك فعل إيجابيّ بإنشاء الأسواق الإسلاميّة والمنتجات الإسلاميّة البديلة، قال العلّامة الشيخ يوسف القرضاوي رحمه الله: على أنّ في المقاطعة معاني أخرى غير المعنى الاقتصادي: أنّها تربية للأمّة من جديد على التحرّر من العبوديّة لأدوات الآخرين … وهي إعلان عن أخوّة الإسلام، ووحدة أمّته، وأنّنا لن نخون إخواننا الذين يقدّمون الضحايا كلّ يوم، بالإسهام في إرباح أعدائهم. وهي لون من المقاومة السلبيّة، يضاف إلى رصيد المقاومة الإيجابيّة، التي يقوم بها الإخوة في أرض النبوّات، أرض الرباط والجهاد. وإذا كان كلّ يهوديّ يعتبر نفسه مجنّدًا لنصرة الكيان الصهيونيّ بكلّ ما يقدر عليه، فإنّ كلّ مسلم في أنحاء الأرض مجنّد لتحرير الأقصى، ومساعدة أهله بكلّ ما يمكنه من نفس ومال. وأدناه مقاطعة بضائع الأعداء. وقد قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ [الأنفال: 73]7(7) المصدر: https://www.al-qaradawi.net/node/3579.

الهوامش

(1) الطُّنُبُ: طُنُبُ الْخِيَامِ، وَهِيَ حِبَالُهَا الَّتِي تُشَدُّ بِهَا. انظر مقاييس اللغة لابن فارس، 3/ 426.

(2) انظر: المقريزي، أحمد بن علي، إمتاع الأسماع بما للنبيّ من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع، تحقيق: محمد عبد الحميد النميسي، الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة: الأولى، 1420 هـ – 1999 م، إمتاع ج9/ ص362.

(3) مقال بعنوان: ماكدونالدز تخسر 7 مليارات دولار متأثّرة بالمقاطعة لأجل غزة، منشور في: https://www.aljazeera.net/ebusiness

(4) مقال: تأثير حملات المقاطعة.. ستاربكس تخسر 12 مليار دولار خلال 20 يومًا، منشور في موقع: https://www.alaraby.com/news

(5) المصدر السابق.

(6) مقال: حملات المقاطعة ضد إسرائيل.. كيف تمنع قتل طفل فلسطيني؟ منشور في موقع: https://www.alaraby.com/news

(7) المصدر: https://www.al-qaradawi.net/node/3579

المصدر

موقع  هيئة علماء فلسطين، “أحكام المقاطعة الاقتصاديّة للكيان الصهيونيّ وداعميه”، د. محمّد همام ملحم – أ. أنس ممدوح الأنصاري.

اقرأ أيضا

مقاطعة فرنسا من الجهاد

حكم التطبيع مع اليهود

الجهاد في فلسطين واجب على المسلمين

طوفان الواجبات.. وواجبات الطوفان

متى سيعود الأقصى؟

التعليقات غير متاحة