كثيرا ما تضغط الأسباب على العقل البشري فيلتفت اليها متوكلا أو لائما، أو منصرفا اليها بما يقدح في التوحيد، أو معرضا عنها زاعما تجريد التوحيد. وثمة حقيقة وقول جامع في العقيدة الإسلامية، يفتح باب التوحيد ويقيم الحياة على استقامة.
مقدمة
سئل الشيخ الإمام العلامة أبو العباس أحمد بن تيمية رضي الله عنه عن قول “عليّ” رضي الله عنه: «لا يرجون عبد إلا ربَّه، ولا يخافن إلا ذنبه»، ما معنى ذلك؟
فأجاب: الحمد لله، لا يرجون عبد إلا ربه.
فإن الراجي يطلب حصول الخير ودفع الشر، ولا يأتي بالحسنات إلا الله، ولا يذهب السيئات إلا الله ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ﴾ [يونس: 107]، ﴿مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [فاطر: 2].
والرجاء مقرون بالتوكل؛ فإن المتوكل يطلب ما رجاه من حصول المنفعة ودفع المضرة، والتوكل لا يجوز إلا على الله، كما قال تعالى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: 23]، وقال: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ [إبراهيم: 12]، وقال تعالى: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [آل عمران: 160] وقال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ﴾ [التوبة: 59]، وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ [ آل عمران: 173].
فهؤلاء قالوا: «حسبنا الله»، أي: “كافينا الله في دفع البلاء”، وأولئك أمروا أن يقولوا: “حسبنا في جلب النعماء”، فهو سبحانه كاف عبده في إزالة الشر وفي إنالة الخير؛ أليس الله بكاف عبده، ومن توكل على غير الله ورجاه، خُذل من جهته وحُرم، ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ﴾ [العنكبوت: 41]، ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً﴾ [مريم: 81- 82]، ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾ [الحج: 31]، ﴿لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً﴾ [الإسراء: 22]، وقال الخليل: ﴿فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [العنكبوت: 17].
فمن عمل لغير الله رجاء أن ينتفع بما عمل له، كانت صفقته خاسرة، قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [النور: 39]، وقال تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ﴾ [إبراهيم: 18]، وقال تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً﴾ [الفرقان: 23].
وقال تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ [القصص: 88] كما قيل في تفسيرها: كل عمل باطل إلا ما أريد به وجهه، فمن عمل لغير الله ورجاه بطل سعيه، والراجي يكون راجياً تارة بعمل يعمله لمن يرجوه، وتارة باعتماد قلبه عليه والتجائه إليه وسؤاله، فذاك نوع من العبادة له، وهذا نوع من الاستعانة به،، وقد قال تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5] وقال: ﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ [هود: 123]، وقال: ﴿قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ﴾ [الرعد: 30].
السبب مخلوق، وله مقداره في الاعتبار لأهمية العقيدة الإسلامية
“ومما يوضح ذلك في العقيدة الإسلامية” أن كل خير ونعمة تَنالُ العبدَ فإنما هي من الله، وكل شر ومصيبة تندفع عنه أو تكشف عنه، فإنما يمنعها الله، وإنما يكشفها الله، وإذا جرى ما جرى من أسبابها على يد خلقه.
فالله سبحانه هو خالق الأسباب كلها سواء كانت الأسباب حركة حي باختياره وقصده، كما يُحدثه تعالى بحركة الملائكة والجن والإنس والبهائم، أو حركة جماد بما جعل الله فيه من الطبع، أو بقاسر يقسره كحركة الرياح والمياه ونحو ذلك، فالله خالق ذلك كله، فإنه لا حول ولا قوة إلا به، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فـ “الرجاء” يجب أن يكون كله للرب، و”التوكل” عليه و”الدعاء” له، فإنه إن شاء ذلك ويسره كان وتيسر ولو لم يشأ الناس. وإن لم يشأه ولم ييسره لم يكن وإن شاءه الناس.
فكل “سبب” فله “شريك” وله “ضد”؛ فإن لم يعاونه شريكه ولم يُصرَف عنه ضده، لم يحصل سببه، فالمطر وحده لا ينبت النبات إلا بما ينضم إليه من الهواء والتراب وغير ذلك، ثم الزرع لا يتم حتى تصرف عنه الآفات المفسدة له. والطعام والشراب لا يغذي إلا بما جعل في البدن من الأعضاء والقوى، ومجموع ذلك لا يفيد إن لم تصرف المفسدات.
والمخلوق الذي يعطيك أو ينصرك، فهو ـ مع أن الله يخلق فيه الإرادة والقوة والفعل ـ فلا يتم ما يفعله إلا بأسباب كثيرة خارجة عن قدرته تُعاونه على مطلوبه، ولو كان ملِكاً مطاعاً، ولا بد أن يصرف عن الأسباب المعاونة ما يعارضها ويمانعها، فلا يتم المطلوب إلا بوجود المقتضِى وعدم المانع، وكل سبب مُعين فإنما هو جزء من المقتضى، فليس في الوجود شيء واحد هو مقتضياً، وإن سُمى “مقتضياً” وسمى سائر ما يعينه “شروطاً”؛ فهذا نزاع لفظي.
الأسباب واجتماعها مع الشروط والموانع في العقيدة الإسلامية
في العقيدة الإسلامية يجب فهم أنه لا بد من وجود المقتضى الشروط، وانتفاء الموانع، وأما أن يكون في المخلوقات “علة تامة” تستلزم معلولها، فهذا باطل.
ومن عرف هذا حق المعرفة، انفتح له باب “توحيد الله”، وعلم أنه لا يستحق لأن يُدعى غيرُه فضلاً عن أن يعبد غيره، ولا يتوكل على غيره، ولا يرجى غيره، وهذا مبرهَن بالشرع والعقل، ولا فرق في ذلك بين الأسباب العلوية والسفلية، وأفعال الملائكة والأنبياء والمؤمنين وشفاعتهم وغير ذلك من الأسباب؛ فإن من توكل في الشفاعة أو الدعاء على ملك أو نبي أو رجل صالح أو نحو ذلك قيل له: هذا أيضاً سبب من الأسباب فهذا الشافع والداعي لا يفعل ذلك إلا بمشيئة الله وقدرته، بل شفاعة أهل طاعته لا تكون إلا لمن يرضاه، كما قال تعالى: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ ارْتَضَى﴾ [الأنبياء: 28].
فليس أحد يشفع عنده إلا بإذنه الإذن القدري الكوني، فإن شفاعته من جهة أفعال العباد لا تكون إلا بمشيئته وقدرته، فليس كالمخلوق الذي يشفع إليه شافع تكون شفاعته بغير حول المشفوع إليه وقوته، بل هو سبحانه خالق شفاعة الشافع كسائر التحولات، ولا حول ولا قوة إلا به، والحول يتضمن التحول من حال إلى حال بحركة أو إرادة أو غير ذلك، فالشافع لا حول له في الشفاعة ولا غيرها إلا به، ثم أهل طاعته الذين تُقبل شفاعتهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى، فلا يطلبون منه ما لا يحب أن يُطلَب منه، بل الملائكة الذين هم ملائكته كما قال فيهم: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾ [الأنبياء: 26-28].
والصادر عنهم إما قول وإما عمل، فالقول لا يسبقونه به بل لا يقولون حتى يقول، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى، وعلينا أن نكون معه ومع رسله هكذا، فلا نقول في الدين حتى يقول، ولا نتقدم بين يدي الله ورسوله ولا نعبده إلا بما أمر، وأعلى من هذا ألا نعمل إلا بما أمر، فلا تكون أعمالنا إلا واجبة أو مستحبة.
وإذا كان هكذا في مثل هذه الأسباب فكيف بمن توكل أو رجا أسباباً غير هذه من الكواكب أو غيرها، أو من أفعال الآدميين من الملوك والرؤساء والأصحاب والأصدقاء والمماليك والأتباع وغير ذلك..؟!
ومما ينبغي أن يُعلَم: ما قاله طائفة من العلماء، قالوا:
“الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، وإنما التوكل والرجاء معنى يتألف من موجب التوحيد والعقل والشرع”.
خاتمة
“من أهمية دراسة العقيدة الإسلامية ومعرفتها أن تدرك” أن الالتفات إلى السبب هو اعتماد القلب عليه ورجاؤه والاستناد إليه، وليس في المخلوقات ما يستحق هذا، لأنه ليس مستقلا، ولا بد له من شركاء وأضداد. ومع هذا كله، فإن لم يسخّره مسبب الأسباب لم يُسخّر، وهذا مما يبين أن الله رب كل شيء ومليكه، وأن السموات والأرض وما بينهما والأفلاك وما حَوَتْه لها خالق مدبر غيرها، وذلك أن كل ما يصدر عن فلَك أو كوكب أو ملَك أو غير ذلك؛ فإنك تجده ليس مستقلا بإحداث شيء من الحوادث، بل لا بد من “مُشارك” و”معاون” وهو مع ذلك له معارضات وممانعات.
والرب الذي يُدعَي ويُسأَل ويُرجَى ويُتوكَل عليه لا بد أن يكون قيوماً يقيم العبد في جميع الأوقات والأحوال كما قال:﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ﴾ [الفرقان: 58]، وقال:﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [البقرة: 255، آل عمران: 2]، فهذا وغيره من أنواع النظر والاعتبار يوجب أن العبد لا يرجو إلا الله ولا يتوكل إلا عليه.
المصدر
- مجموع فتاوى ابن تيمية ، الجزء الثامن ، العقيدة ” كتاب القدر “مسألة معنى قول علي لا يرجون عبد إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه، (بتصرف يسير).