إن مراعاة الجو المحيط بالحوار، والجو الحسي للحوار، ومراعاة الظرف النفسي والاجتماعي للطرف المحاور، من الأصول الواجب مراعاتها لإنجاح الحوار والوصول إلى الحق.
أصول الحوار
﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ ۖ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ [سبأ: 46].
تعتبر هذه الآية وما يتعلق بها منهجا قويما لمن أراد الوصول إلى الحق ، ولأن المقصود من الحوار الوصول إلى الحق ؛ فإن هذه الآية الكريمة ترسم لنا بمقوماتها الثلاثة أصول الحوار الصادق، وذلك فيما يلي:
الأصل الأول : الإخلاص لله عز وجل ، والتجرد الكامل قبل الحوار وأثنائه وبعده : ﴿أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ﴾ .
الأصل الثاني : العلم بحقيقة واقع القضية المطروحة من الناحية الشرعية والواقعية : ﴿ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾ .
الأصل الثالث : اعتبار مراعاة ظروف الحــوار والمحاورة : ﴿مَثْنَى وَفُرَادَى﴾ .
وفي مقالين سابقين تحدثنا عن الأصل الأول والثاني وفي هذا المقال نتحدث عن الأصل الثالث وهو ظروف الحوار والمتحاورين.
الأصل الثالث: ظروف الحوار والمتحاورين ﴿مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ﴾
وهذا هو الأصل الثالث الذي يراعى عند الحوار والمناظرة ، وقد أشارت الآية الكريمة إلى جانب من ذلك عند قوله تعالى: ﴿مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ﴾، وسنشير هنا – إن شاء الله تعالى – إلى بعض الجوانب التي تتعلق بظروف الحوار ؛ لأن إلغاءها يؤثر كثيرا على طبيعة الحوار ونتيجته ، ومن هذه الجوانب ما يلي:
– مراعاة الجو المحيط بالحوار
ويقصد بالجو هنا الجو النفسي ، والمؤثرات المحيطة بالحوار ، وذلك كما في الآية الكريمة ؛ حيث يوجه الله عز وجل طلاب الحق أن يبتعدوا عن الأجواء الجماعية والغوغائية ؛ لأن الحق قد يضيع في مثل هذه الأجواء ؛ حيث التقليد الأعمى ، والتبعية للأكثرية ، بينما لو قام الإنسان مع نفسه أو مع شخص آخر للتفكير حول قضية ما ، فإنه يكون أقرب إلى إصابة الحق منه في الاجتماعات الكبيرة ، وبقدر ما يقل المتحاورون أو السامعون في الحوار بقدر ما ينقاد إلى الحق عند ظهوره .
– مراعاة الجو الحسي للحوار
وذلك من حيث البرودة والحرارة والاتساع والضيق .. إلخ ؛ لأن وجود ما يؤذي في جو الحوار يؤثر على طبيعة النقاش ونتيجته ، وقد يبتر النقاش ، أو يختصر دون وصول إلى نتيجة ، وكذلك – مما يتعلق بهذا الجانب – اختيار المكان الهادئ ، وإتاحة الزمن الكافي للحوار، فلا تصلح أماكن الدراسة ، والعمل ، والأسواق للحوار ، وذلك لضيق الوقت ، ولوجود ما يشغل.
– مراعاة الظرف النفسي والاجتماعي للطرف المحاور أو المحاور
فلا يصلح أبدا أن يتم الحوار مع شخص يعاني من الإرهاق الجسدي لتعب ، أو حاجة لنوم ، أو بسبب جوع ، أو يعاني من إرهاق نفسي: کهم، أو غم ، أو حزن ؛ لأن هذه الظروف لابد أن تؤثر حتما على الحوار؛ إما ببتره قبل تمامه ، أو حدوث انفعالات ، وغضب ، وتوتر ، يؤدي بالحوار إلى الفشل الذريع.
– أهمية المحادثة الأولى والتعارف الذي يسبق الحوار
إن المحادثات الأولى والتعارف الأول على الطرف المحاور يساعد على سهولة البدء في المناظرة وسيرها فيما بعد بالشكل المناسب؛ إذ من الصعب أن يبتدأ مباشرة بالحوار مع أشخاص لم يتم أي تعارف معهم ولو كان يسيرا؛ لأن في جلسة التعارف هذه فائدة في التعرف على طبيعة الطرف الأخر، ولو بشكل مبدئي من خلال مظهره ، وحديثه ، ونبرات صوته ، وحصيلته العلمية ؛ مما يكون له الأثر في معرفة الظروف النفسية ، والميول الذهنية للشخص المحاور، وهذا بدوره يساعد في طريقة وأسلوب الحوار مع الناس، كل حسب ظروفه .
ويمكن أن تتم جلسة التعارف هذه على شكل دعوة غداء أو عشاء تتم فيها أحاديث غير رسمية عن: الصحة ، والعمل ، والأولاد، وعن رأيه في الكتاب الفلاني ، وفي الفكرة الفلانية ، وعن أي أمر عام ليس له علاقة بموضوع الحوار .
فهذه الطريقة على أي حال أفضل بكثير من أن يفاجأ المرء بأشخاص لم يضع في ذهنه أي تقدير لهم ، ولظروفهم ، فيؤدي ذلك إلى فشل الحوار ، وكذلك الاكتفاء بالتعريفات العابرة من الآخرين؛ كأن يخبر بأن الشخص لطيف ، وسهل التعامل ، وحليم ، ويفاجأ بالعكس تماما .
– أن يكون المتحاوران متقاربين ما أمكن في العلم والجاه
وأن يتجنب مناظرة ذي هيبة يخشى أو يستحي من مناظرته ؛ لأن ذلك يؤثر على قوة الحجة والجرأة على الإدلاء بها.
– ينبغي اجتماع أصحاب الحوار في مكان واحد ، وتقابلهما فيه
وأن ينظر بعضهم للآخر ؛ لأن رؤية الوجوه والملامح له أثر في قوة الحجة أو ضعفها ، وفي هذه الحالة لا تصلح المراسلات للحوار ، ولا يصلح كذلك الحوار بواسطة الهاتف إلا في أضيق الظروف .
– مراعاة الآداب الإسلامية (القولي منها والعملي)
والذي يكون له مردوده النفسي على أطراف الحوار ، وسلامة قلوبهم وصفائها ، والانقياد للحق عند ظهوره ، ومن هذه الآداب:
أ- احترام الطرف الآخر ، والتأدب معه ، وحفظ اللسان عما يسوءه من الألفاظ ، وعدم السخرية برأيه ، وأن يثني عليه بما فيه وما في فكرته، من الإيجابيات والخير الكثير .
ب – التلطف في العبارات أثناء الحوار ، فبعض العبارات قد تفتح مغاليق النفوس ، وهي يسيرة على من يسرها الله عليه ؛ من الكلمة الطيبة التي تقرب النفوس، وتزيل الجفوة ، وتهيئ النفوس لاستقبال الحق ، والأمثلة في ذلك كثيرة ؛ كمناداة الطرف الآخر بكنيته ، وإذا كان أكبر سنا أو علما ، يا أستاذي ويا شيخي …اسمح لي … عفوا .
ج- ابتسم في وجه محدثك وأطلق أسارير الوجه أثناء الحوار ؛ فهذا يضفي على الحوار جو الألفة والأنس .
د- اجتنب الغضب ما أمكن ، ولو عارضك الطرف الآخر ، أو أغلظ القول لك ، واستخدم الرفق واللين.
ه- تجنب اللوم المباشر عند وضوح خطأ الطرف الآخر ؛ فالنفس غالبا لا تتحمل قول: (أخطات) أو ( سأثبت لك أنك مخطىء) أو (أنا أخالفك في الرأي) ؛ فهذه الألفاظ قد تجرح عند بعض الناس كبرياءه وشخصيته .
لكن عندما يبدو الخطأ فيمكن معالجته بمثل قولك: لكن أرى رأيا آخر قد أكون مخطئا فيه ، أو لعلك تصلح لي خطئي. وإذا كان الخطأ يمكن إصلاحه ببعض الإضافات، فتقول: هل لك أن تفعل هذا؟ أو: ما رأيك في إضافة هذه العبارة ..؟، أو: ما المانع لو اتفقنا على هذا التعديل ؟… إلخ.
– التحدي والإفحام
وهذا الأسلوب يلجأ إليه مع المماحكين الذين همهم الجدال والاستهزاء وإثارة الشبه وتضليل الناس ؛ فمثل هؤلاء لا ينفع معهم اللين والرفق ، وإنما الذي ينبغي في حقهم إفحامهم ومناظرتهم على الملأ الذين قد ضللوا بسببهم؛ وذلك حتى تدحض حجتهم وتسقط هيبتهم من النفوس وتبين وهن فكرتهم واضطرابها . لكن ينبغي لمن أراد مناظرتهم أن يكون على مستوى من العلم، والذكاء ، والشجاعة ؛ بحيث لا يؤتى من قبل قلة علمه، أو سطحيته ، أو نحو ذلك .
– المحافظة على هدف الحوار والوصول إلى نتيجة
تحديد هدف الحوار – قبل الدخول فيه – أمر مهم ، والمحافظة على الهدف أثناء الحوار أيضا أمر مهم ؛ لأن ذلك يحافظ على التركيز ، وعدم الخروج عن موضوع الحوار بمناقشة جزئيات أو أمور جانبية بعيدة عن موضوع الحوار؛ مما يكون له الأثر في ضياع الوقت ، وعدم الوصول إلى نتيجة في آخر الأمر.
وبعد:
فهذه جملة من أصول الحوار وآدابه ، أعرضها على علاتها ونقصها، لعلها تفتح المجال لعلماء الأمة ودعاتها أن يفصلوا الأمر حول هذا الموضوع ويكملوا ما نقص منه ، فالمسلمون في حاجة ماسة إلى استقصائه وإتمامه .
أسأل الله عز وجل أن ينفع بهذا الحديث القلوب المخلصة التي أدمتها الخلافات وخيم اليأس على بعضها ، ولعل الأخوة الذين صاروا أعداء وهم أقرب الناس بعضهم إلى بعض، أن يقوموا لله عز وجل ويتفكروا مع أنفسهم أو مع بعضهم البعض ، وأن يحفظ كل واحد منهم حق أخيه ، ويعلم أن أخاه وإن كان مخطئا في شيء فقد أصاب في أشياء أخرى ؛ ما دام أنه من أهل السنة وأتباع السلف .
اقرأ أيضا
الناس خصمان شرعاً وواقعاً .. (2-2)