تسمع الناس يتحدثون عن الأزمات والمشكلات، يتحدثون عن أزمات اقتصادية، وأزمات سياسية، ويتحدثون عن أزمات الحكم وأزمات الاجتماع، ولكني أعتقد أن هناك أزمة واحدة لا ثانية لها هي أزمة الإيمان، أزمة الأخلاق..

عصر الأزمات والمشكلات

“أزمة الإيمان والأخلاق”: كارثة الكوارث، ومصيبة المصائب

تسمع الناس يتحدثون عن الأزمات والمشكلات، يتحدثون عن أزمات اقتصادية، وأزمات سياسية، ويتحدثون عن أزمات الحكم وأزمات الاجتماع، ولكني أعتقد أن هناك أزمة واحدة لا ثانية لها هي أزمة الإيمان، أزمة الأخلاق، سيحوا في الأرض وشاهدوا الأمم والشعوب، فإنكم سترون أن هذه الإنسانية – بمختلف الشعوب والأقطار في أنحاء العالم كله – تعاني أزمة واحدة هي: “أزمة الإيمان والأخلاق” هي كارثة الكوارث، وهي مصيبة المصائب، وكل مشكلة تحدث الناس عنها، واشتكوا منها ترجع إلى هذه الأزمة، والشيء الوحيد الذي فقد، وبفقده وقعنا في هذه المصيبة العالمية هو الإيمان، والشيء الوحيد الذي اعتل، وباعتلاله أصبحنا نواجه هذه المشكلات كلها في نطاق الأفراد والمجتمعات والحكومات والأوضاع العالمية هو الأخلاق.

عبادة النفس … أصل البلاء

إن الناس أشباه ولم يزالوا، وإننا بشر والذين يحكموننا بشر، ولكن الذي يسيطر على العالم، هو هذه الأزمة الإيمانية الأخلاقية، إن كثيرا من الناس يعتقدون أن الشأن في الحكومات والأحزاب، فإذا ذهبت وزارة وجاءت أخرى، وإذا ذهب حزب وجاء آخر، فقد انحلت الأزمة وانقشعت المشكلة، إن هذا حكم خاطئ ومستعجل، ومبني على قصر النظر، ليست المسألة مسألة أحزاب أو حكومات، أو شيء من التعديلات، إن المسألة مسألة العقلية والاعتقاد، والنفوس والقلوب، فلا فائدة في هذه التغيرات، وإن تبدل حزب بآخر أو حكومة بأخرى، لا يقدم ولا يؤخر، إن الافراد كلهم يلتقون على الخضوع للمادة والاستئثار وخدمة النفس، وهذه النفس قد تقصر فتصبح نفسا فردية، وقد تتسع فتصبح نفسا حزبية أو جماعية، إن هذه العقلية هي التي تسيطر على العالم كله، وكل ما تعاني من فساد الأوضاع، مرده إلى فساد هذه النفوس، وهيمنة هذه العقلية الخاضعة للمادة، الخادمة للمصلحة، المستأثرة الأنانية.

الأسباب الحقيقية لصراع الأمم الأوربية

إن هذا التنافس الذي تتحدث به الصحف، والذي قد يؤدي إلى حروب طاحنة – تستمر سنين طوالا تطحن الأمم – هو تنافس في الأغراض فقط، لا تنافس بين الخير والشر، وإن هذا الاصطراع القائم بين الأمم الأوربية، ليس معناه أن أمة منها تريد أن تسيطر على العالم لتقضي على هذه الأوضاع الفاسدة، ولتخدم الإنسانية، وتنفذ قوانين الله، وتحارب الفساد، وتساوي بين الناس، وتقيم القسط والعدل، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة كما قال الله تعالى: (الذي إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر) [الحج: 41].

لا ، إنما هو تنافس على القيادة، كل أمة تريد أن تمتلك الحكم لتنفذ شهواتها، إنما النزاع فيمن يكون صاحب الأمر والنهي، وتكون له قوة إرضاء الشهوات، وخدمة المصالح الذاتية الحزبية.

فبريطانيا وحليفاتها – مثلا – لم تكن تنازع المعسكر الشيوعي لتقيم القسط والحق، وكذلك لم يكن المعسكر الشيوعي في وقت من الأوقات لينازع الحلفاء الأوربيين في سبيل إقامة العدل، لأنه لم يكن حريصا على إقامة الدين والفضيلة، إنما يصارع ويحارب ليكون هو المعسكر الوحيد في العالم الذي يهيمن على وسائل وإمكانات البشرية، وليحتكر التجارة العالمية، ليس لمصلحة البشرية، بل ليكون الذي يؤمنون بمبادئه وينضمون إليه يسعدون على حساب الأمم والشعوب التي يسيطر عليها.

ان مرد هذه المصارعات كلها هو شهوة النفس وعبادتها، وما لم تتغير هذه النفسية الشريرة الفاسدة المتعفنة فلا مطمع في صلاح العالم أو سعادته ورفاهه.

صلاح العالم يتوقف على صلاح الضمائر والقلوب

المهم أو الأهم أن يتغير الإنسان، إن كل شيء في هذا العالم خاضع للإنسان، والإنسان خاضع لنفسه وضميره وعقيدته، فإذا كانت هذه صالحة كان الإنسان صالحا، وإذا صلح الإنسان صلح العالم (ألا في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب1(1) أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599)..).

لقد أصبح الناس مؤمنين – بحكم ما يكتبه ويقوله أناس لم يتعمقوا في العلم – بأن صلاح العالم هو في وجود حكومة على أساس كذا وكذا، أو في تولي الرجل الفلاني، أو الحزب الفلاني الحكم، وما دروا أن المجتمع فاسد لفساد الضمائر والقلوب، وما لم تصلح فلا يؤمل الصلاح، هذا قول مجرب خبير لا قول إنسان منطو على نفسه، قول رجل تهيأ له – بحمد الله – من الدراسة العميقة الشيء الكثير.

إلى متى تجري هذه التجارب على الإنسان المسكين؟ وإلى متى نفحص ونشرّح ثم نرجع من غير طائل؟ إن الأنبياء يمنحونا العلم اليقيني، ويعطونا العلاج الشافي. إن المسألة مسألة النفوس، وما دمنا معرضين عن هذه الحقيقة، فسوف نبقى نعاني مشكلة بعد مشكلة.

إذا لم يكن الأفراد أين يكون المجتمع؟

إن من مصائب هذه المدنية الإعراض عن الأفراد، فقد أثرت العلوم العمرانية في النفوس، حتى أصبحت تعتمد على المجموعات، والمؤسسات، والهيئات الاجتماعية، والحكومات، دون الاهتمام بالأفراد، مع أن الأفراد هم أساس المجتمعات والحكومات والأحزاب والمؤسسات، نقول لهم: أيها السادة، دونكم الأفراد فأصلحوهم وهيؤهم لهذا الهيكل الاجتماعي، فسيقولون: مالنا وللأفراد، نحن في عصر اجتماعي طابعه الاجتماع، فنقول لهم: آمنا بالاجتماع، ولكن إذا لم يكن الأفراد أين يكون المجتمع؟ ولكنهم يقولون: إن الافراد يصلحون بصلاح المجتمع؟ إن مثل هؤلاء الذين يهتمون بالمجموعات دون الأفراد مثل من يجمع أخشابا نخرة، متآكلة مخرومة، يريد أن يعمل منها سفينة تحمل جماعة كبيرة وبضائع ثمينة، فإذا قال له رجل صاحب نظر: إن هذه الأخشاب لا تصلح لبناء سفينة تحمل جماعة كبيرة وبضائع ثمينة ثقيلة: قال: إن هذه الأخشاب لا قيمة لها، إنما المهم السفينة، فإذا تكونت السفينة فقدت الألواح شخصيتها، فلا يهمك إن كانت الأخشاب فاسدة منخورة.

إن الفاسد فاسد ولكن إذا اجتمع الفاسد مع الفاسد ينتج الصالح! إن اللص لص، ولكن إذا اجتمعت اللصوص أصبحت حارسة للمدينة!! هذه هي عقلية أوربا – إن اللصوص لصوص في أفرادهم، ولكنهم أمناء في مجموعهم، ما هذا المنطق؟

الذئب ذئب، ولكن إذا اجتمعت الذئاب أصبحت راعية! إن الجمرة تحرق البيت، ولكن إذا اجتمعت الجمرات أصبحت بردا وسلاما!!

هذا شيء مضحك، ولكن أليس هذا هو الأساس الذي يعمل في المدرسة والحكومة والمحكمة؟؟

من أين جاءت الحكومة والقضاة والجنود؟ أليس أكثر هؤلاء فاسدين ودون المستوى الواجب؟ فكيف تتحول هذه العصابات المجرمة الى مجموعة صالحة، رفيعة المستوى، عالية في الأخلاق؟

العالم كله – مع الأسف – خاضع لهذا المنطق، حتى في المستويات العلمية.

لقد طغت هذه العقلية على الأفكار حتى أصبح الذي يثير مسألة الأفراد يتهم بالرجعية.

نداء الوقت، وواجب الساعة، وجهاد اليوم

يا أصحاب القلوب المؤمنة، أنتم المجتمع، في قسمات وجوهكم وضمائركم وعقولكم يرقد المستقبل الزاهر الذي نؤمله، فهيئوا نفوسكم تهيئة روحية خلقية، علمية إيمانية، هذا هو نداء الوقت، وواجب الساعة، وجهاد اليوم.

لنكن فتية مجاهدة، مؤمنة صادقة، طاهرة النفس، واضحة التفكير، عميقة الجذور، قوية العاطفة، فائضة القلب.

فاذا كنا كذلك، فإننا نستطيع أن نغير تيار الفساد.

الأزمة أزمة رجال، فأين الرجال؟

وإن كثيرا من الناس يحرصون على الحكومات ويعتقدون أنها هي المفتاح، ولكن الحكومة يسيرها الرجال. فمن هم هؤلاء الرجال، وكيف هم؟ هذا هو داء العالم الإسلامي فأنتم هيئوا نفوسكم “لمعركة المستقبل” “معركة الأخلاق” و “الإخلاص والتضحية”، إذا وجد رجل واحد يستطيع أن يسني نفسه ومصلحته، ومصلحة أسرته، وأصدقائه، وحزبه، ويستهدف مصلحة بلده، وأمته، لاستطاع أن يُحدث انقلابا.

كان الجو قاتما، والعالم الإسلامي يعاني مشكلة عظيمة، وكان الولاة جائرين، والجهاز فاسدا والمظالم سائدة، والحقوق تمتهن، والناس غير آمنين، وكان العالم الإسلامي من شرقه لغربه، ومن شماله لجنوبه، يعاني مرضا مرهقا.

جاء رجل واحد هو “عمر بن عبد العزيز” عرف ربه، ونسي نفسه، وذكر اليوم الآخر، فاستطاع أن يغير هذا التيار، ويرغم العالم الإسلامي على أن يتجه الى الصلاح، أين الأفراد؟ وأين من ينتجهم؟ هل تنتجهم الكليات والمعاهد؟ لا، إنما يربيهم الإيمان، وتنتجهم العقيدة والأخلاق.

هيئوا نفوسكم، ربوا فيها الإيمان والعقيدة

كونوا مؤمنين بالله واليوم الآخر ومصلحة الإسلام، كونوا رجالا، إذا دانت لهم البلاد، وأصبحوا يملكون أزّمة الأمور لم يغيرهم الوضع الفاسد عما كانوا عليه، هذا كان شأن الصحابة، كانوا ضعفاء فقراء لا يملكون ما يكسون به أجسامهم، ويشبعون به بطونهم، فدانت لهم الدنيا وتفتحت لهم الخزائن فما تغيروا.

بقي أبو عبيدة وسعد كما كانا، وجاء سلمان إلى العراق واليا، فخرج الناس لاستقباله، فرأوه يحمل على رأسه حملا لرجل على أجره.

العالم لم يفسد إلا عندما فسد الأفراد

إن العالم لم يفسد إلا عندما فسد الأفراد، وفقد هذا الطراز الذي تخرج في مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم، نحن في حاجة إلى هذا الطراز، وهو لا يرتجى إلا منكم، من مثل هذا الشباب المسلم، المؤمن الصادق الذي يوطن نفسه على الشظف والحياة البسيطة، إن من أمراض الأمة العربية، هذا التنعم والتبذير، والعادات القاهرة، لا يستطيع أحدهم أن يعيش من غير سيارة، وبيت فخم وراتب ضخم، إن هذه الأمراض قعدت بأمتنا، وهذا كان داء الرومان والفرس، فقد أسرفوا في المدنية والتنعم، يدل على ذلك أنه لما زحف المسلمون على المدائن وفتحوها، خرج “يزدجرد” يحمل معه ألف طاه وألف مرب للبزاة والصقور، ويقول: إني في حالة يرثى لها، أخذت هؤلاء فقط.

إلى هذا الحد وصلت مدنيتهم، ولذلك انهارت هذا الانهيار الفظيع، كان الذي يلبس قلنسوة قيمتها دون 50 ألف يعيَّر، وكانوا يلبسون مناطق بقيمة 30 إلى 50 ألف، مرصعة بالجواهر والياقوت، فهذه المدنية الزائفة هي التي جنت عليهم، فخسروا الدولة والشرف، والمجد والحياة.

تربية إسلامية عميقة شاملة للأخلاق والتفكير

إن الأزمة أزمة رجال، وأزمة إيمان وأخلاق، وإني أعيذ نفسي أن أؤمن بالفكرة القاصرة، القائلة بتغير الوضع، إذا تغيرت الحكومات والأحزاب، لقول الله تعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ….. } الى أن قال: {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر} [الحج: 41].

انظروا كيف قدم ذكر هذه المحنة، التي خرجوا منها كما يخرج الإبريز من النار، وخرجوا من ديارهم بغير حق، حتى أصبحوا رجالا إن مكنهم الله في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر.

فإذا لم نقطع هذه المرحلة لا نستطيع أن نصل الى الدرجة التي وصفها الله بقوله: {الذين إن مكناهم في الأرض} وقال تعالى: {ألم تر الى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} لم يحدثهم عن الحكومة، والنتائج الأخيرة، ولكن رباهم تربية إسلامية عميقة شاملة للأخلاق والتفكير، حتى إذا نشأت النفوس، انطلقت الموجة، وكان ما كان.

أقول وأنا مخلص ناصح، اهتموا بأنفسكم اهتماما دينيا، خلقيا، تربويا، فكريا، وآمنوا بأنكم أنتم العالم الإسلامي كما قال الشاعر:

وفيك انطوى العالم الأكبرُ

وإذا صلحنا صلح العالم الإسلامي وإذا صلحت الأجزاء صلحت المجموعة.

الهوامش

(1) أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599)..

المصدر

كتاب: “إلى الإسلام من جديد” أبو الحسن الندوي، ص156-169.

اقرأ أيضا

مسؤولية الفرد عن انتكاسة الأمة.. (1-2) التكاليف الفردية والجماعية

واجبنا في زمن الانهزام

القوة سِرُّ عز الأمة

“امتلاك القوة” خطوة للخروج من التبعية والتمكين للشريعة

مقومات تعليم يحرر الأمة

التعليقات غير متاحة