المدرس في كل زمان ومكان -عند كافة العقلاء- يجب أن يكون عظيم القدر رفيع المكانة والشأن، تتمنى النفوس السوية القرب منه والجلوس معه والاستفادة من علمه وإكرامه وخدمته….

فضل المعلم في الإسلام

وأما في ديننا فمعلم الناس الخير لو أخلص نيته لله عز وجل، وامتثل للتوجيهات الإسلامية فإن له مكانة كبيرة عند الله عز وجل وملائكته وأهل السموات والأرضين وحتى النملة والحوت؛ عن أبي أمامة الباهلي، قال: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان أحدهما عابد والآخر عالم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: «فصل العالم على العابد كفضلي على أدناكم». ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: «إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير»1(1) [رواه الترمذي (٢٦٨٥) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. وصححه الألباني]..

مكانة المعلم في مجتمعنا اليوم

والمدرسون في واقعنا اليوم مستهدفون بالإنهاك والإضعاف لا لأشخاصهم، بل لاستهداف الأمة الإسلامية نفسها؛ فإن المعلم المنهك الهزيل لن يخرج من تحت يديه -غالبا – إلا طلبة ضعفاء المستوى والعقل والتفكير، لا يقدرون على القيام بأعباء الحياة المعيشية العادية فضلا عن إنقاذ أمتهم من براثن التخلف والجهل والتبعية العمياء لكفار الغرب والشرق، وفساق ومنافقي بلاد الإسلام.. فبالمقارنة بين رواتب المدرسين ورواتب لاعبي الكرة ومدربيها ونجوم الغناء والرقص.. فإنها لا تعد شيئًا.

مختارات من مطلع كتاب “المدرس ومهارات التوجيه”

وهذه مختارات من مطلع كتاب “المدرس ومهارات التوجيه” للداعية المربي محمد بن عبد الله الدويش، قال فيها مخاطبا المدرس:

فإنه قرار صائب ذاك الذي اتخذته بالتوجه لهذه المهنة الشريفة، والتصدي لحمل هذه الرسالة الخالدة، فقد وضعت قدميك في طريق البناء والإعداد لهذه الأمة، ولست بحاجة أخي المدرس إلى أن أدبج لك المقال، وأستنجد لك البراع.

– أي خطأ يرتكبه ذاك الذي يظن التعليم وظيفة رسمية فحسب، وأي ظلم وإهانة للجيل والنشء لا للمعلم وحده تلك النظرة القاصرة التي تقلل من مكانة المعلم، وترى أن التعليم وظيفة من رضوا بالدون، وأخلدوا للدعة، وتركوا التسابق للمراتب العالية.

وكم أتهلل بشرا وأسعد حين أراك أخي المدرس يا من تحمل بين طياتك نفسنا صادقة، وقلنا حاراً يحترق على واقع أمته، ويتألم لحال الشباب ومع ذلك فلم يكن هذا الهم عائقا لك ومثبطا، بل أنت تحمل طموحا صادقا، ونفسا أبية متطلعة للإصلاح والتغيير.

فهل فكرت أخي الكريم في عظم الموقع الذي تبوأته، والأمانة التي تحملتها، فذاك الرجل الطاعن في السن، وتلك المرأة الضعيفة، قد علقوا آمالهم بعد الله عليك في استنقاذ ابنهم وحمايته، والمصلحون الغيورون يعدونك من أكبر الأمال في استنقاذ المجتمع، والأمة تبحث أخي الفاضل عن المنقذ لها ولأبنائها، وأنت أخي المدرس جزء من محط آمال الأمة.

– وحجة أخرى طالما سمعناها: المنهج طويل، لا أجد الوقت، لكنا نريد أخي الكريم دقائق معدودة، تستطيع توفيرها من كثير من الوقت الذي يضيع والاستطراد الذي لا ضرورة له.

– أخي المدرس: ما أغناك عن أن أحدثك عن الواقع المرير لأمتنا، أو عن التآمر على شباب المسلمين، أنسيت ما فعل “دنلوب” وأذنابه؟ أنسيت ما بذل جيل المسخ ليحول بينك – أنت المعلم – وبين إبلاغ كلمة الحق الصادقة إلى القلوب المتعطشة؟

– أخي المدرس: أخاطب فيك الغيرة والحمية لدين الله، فأنت تقابل الشباب كل يوم، وتدرك أي غفلة وعالم يعيشونه، ترى مظاهر الإعراض ومصارع الفتن فكيف لا تحرك فيك ساكنا؟ ألم تر ذاك الشاب الذي يعيش معاناة واضطرابات المراهقة، ويصارع الشهوات وتعصف به الرياح من كل فج، أو الآخر الذي اكتنفه رفاق السوء فأحاطوا به إحاطة السوار بالمعصم؟ فهل وصل بك أخي الكريم عدم القدرة ونقص الخبرة إلى أن تعجز أن تقدم شيئا لهذا وأمثاله؟

– أخي المدرس: لست أدعوك إلى عمل خير تساهم فيه فحسب، ولا أحثك على القيام بنافلة من أفضل النوافل، إنما أدعوك إلى أن ترعى الأمانة، وتقوم بالمسؤولية، وبعبارة أدق: أن تؤدي الواجب الشرعي.

– ألست راعيا أخي المدرس؟ ألم يقل صلى الله عليه وسلَّم: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»2(2) [رواه البخاري (۸۹۳) ومسلم (۱۸۲۹)].…ألست ترى المنكر؟ ألم يقل صلى الله عليه وسلَّم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فيقلبه»3(3) [رواه مسلم (٤٩)].…وهل وصل بك الأمر إلى أن لا تطيق إلا الكلمة العابرة أو النقد السلبي؟ ألا تطيق أن تحمل هم الإصلاح؟ ألا تطيق أن تفكر في وسائل تربية الناشئة وتوجيههم؟

كيف أخي المدرس تتحمل أمانة تدريس المنهج الدراسي، وتأخذ مقابل ذلك أجرا من مال المسلمين، وحين ندعوك لتحمل أمانة الدعوة والتوجيه – التي هي واجبة عليك ابتداء، وقد زادت مع تبوئك هذا الموقع – حين تكون الحاجة الماسة لحمل الأمانة التربوية تعتذر بعدم القدرة، والضعف العلمي، وفقد الخبرة؟ وتحسب أن هذا من التواضع! بل التواضع هو القيام بالواجب والاستعانة بالله.

فعجبًا لهذا القلب للمفاهيم ومتى كان التخلي عن الواجب وترك المسؤولية تواضعا؟

– أخي المدرس: هل تزهد في ابن بار، وتلميذ يقدر جهدك؟ وهل أنت مستغن عن دعوة صالحة يخصك بها من قدمت له خيرا؟ إن هذه عاجل النتائج وبشرى المؤمن، أما ما عند الله فهو خير وأبقى.

– أخي المدرس: إن الشعور بأهمية التوجيه، بل والخطوات العملية مطلب نفيس، ولكن لا ينبغي أن نقف عند هذا الحد بل يجب أن نتجاوزه إلى أن نتعلم فن التوجيه، وأساليب التأثير، وهذا باب واسع….

وأنا كاتب هذه السطور إن نسيت فلن أنسى ذاك الأستاذ الفاصل الذي درسني في المراحل الأولية – رحمه الله – كنت ألمس يومها – وأنا طفل بريء – في وجهه الصدق والعاطفة الحية، ولا تزال أصداء كلماته تتردد في أذني، فرحمه الله وأجزل مثوبته، وأعلى درجته. والآخر الذي عوضه الله عن نور بصره بنور بصيرته – أحسبه كذلك والله حسيبه ولا أزكي على الله – أحدا فلله كم ربي في من فضائل، وكم من كلمة صادقة سمعتها إن نسيت حروفها الآن فقد ترجمت إلى عمل وواقع فصارت جزءا مني لا يفارقني. وهل أنسى بعد ذلك ذاك الشيخ الوقور الذي منّ الله على بحفظ كتابه على يديه؟

إن وظيفة التعليم أسمى وأعلى من أن تكون وظيفة رسمية، أو مصدرا لكسب الرزق، إنها إعداد للأجيال، وبناء للأمة.

– يرى أبناء المسلمين يتهافتون على الفساد، ويقعون في شبك الرذيلة، ولا يحرك الأمر لديه ساكنا، أو يثير عنده حمية فهذا ليس من شأنه! شأنه تدريس الفاعل والمفعول، أو توضيح المركبات وقوانينها، أو حل المعادلات، بل قد يتبوأ تدريس العلم الشرعي، والتربية الإسلامية، ومع ذلك فواقع الطلاب لا يعنيه بقليل ولا كثير!

لست أدري أي عقلية تحكم هذا النوع من الناس؟! ولا أعلم من أيهما أعجب؛ من واقع الشباب، أم من ضعف التوجيه وعدم إيجابية هذا النمط من المعلمين؟

عظم مهنة التعليم

إننا نريد المدرس البشر الذي يتطلع كغيره لتحصيل مورد لرزقه، ويرى أن من حقه كغيره أن يتمتع بمزايا إدارية ووظيفية، لكن كل تطلعاته تلك لم ترق إلى أن تكون الهدف الأول والأساس، والمقياس الأوحد، والعامل الأهم في اتخاذ قراره بسلوك طريق التعليم، فقد اختار هذا الطريق ليخدم الأمة من خلاله، ويُعد الجيل ويُربي النشء. إنه يحترق على واقع الشباب، ويعدهم أبناءه، ويعتبر إصلاحهم من أولويات وظيفته، وتربيتهم من مسؤوليته. ويؤدي واجبات وظيفته على الوجه المطلوب.

قلت : وقد أحسن كثير من المعلمين في البلاد الفقيرة باحتراف مهن أخرى مع التدريس؛ فكانوا بذلك قدوة لأمتهم وطلابهم بأن من ضاق به الحال لا يسرق ولا يستجدي الآخرين بل يحترف حرفة حلالا فيأكل بعرق جبينه، ويسطر بذلك فخرا؛ لأن الظروف رغم شدة قسوتها لم تلجئه لفعل محرم، ولا للتسول والاستجداء. وأحسنوا ثانية حين لم يتخلوا عن رسالة التدريس الشريفة من أجل حطام من الدنيا؛ فلله درهم المعلمين المحترفين لما ينفعهم وينفع أمتهم من الحرف بجانب مهنة التعليم الشريفة القدر.

فضل من عَلَّم الناسَ الخير

حين يموت الإنسان ويفضي إلى ما قدم ينقطع عمله إلا من ثلاثة: «صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»4(4) [رواه مسلم (١٦٣١)]..

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علما علمه ونشره، وولدا صالحا تركه، ومصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته، يلحقه من بعد موته»5(5) [رواه ابن ماجه (٢٤٢) والبيهقي وابن خزيمة. وانظر: صحيح الترغيب والترهيب ص(۷۳)]..

وانظر إلى الثمرة التي جناها أبو حنيفة رحمه الله حين علم مسألة واحدة، قال مكي بن إبراهيم: كنت أتجر فقال لي الإمام: التجارة بلا علم ربما تورث فساد المعاملة، فما زال بي حتى تعلمت، فما زلت كلما ذكرته وذكرت كلامه وصليت أدعو له بالخير؛ لأنه فتح على ببركته أبواب العلم6(6) [من أعلام التربية الإسلامية (٤٤/١)، نقلا عن مناقب أبي حنيفة للكردي (۱۳۸)]..

– هل رأيت العالم الداعية الذي يحمل هم دينه، وتلتف حوله الجماهير، ويثني الناس ركبهم لديه؟…أم أبصرت القاضي الذي يحكم في دماء الناس وأعراضهم وأموالهم؟…أم قابلت الجندي الذي يقف في الميدان حاميا لعرين الأمة، وحارسًا لثغورها؟…كل أولئك إنما جازوا من قنطرة التعليم، وعبروا من بوابة الدراسة، وقد كان لهم ولاشك معلمون وأساتذة، ولم يعدموا مدرسًا ناصحا، وأستاذا صادقًا.

دور المعلم في صناعة الأجيال وبناء المجتمع

إن عظماء العالم وكبار الساسة فيه وصناع القرارات الخطيرة، كل هؤلاء قد مروا من خلال عمليات تربوية طويلة ومعقدة، شارك فيها أساتذة ومعلمون وضع كل منهم بصماته على ناحية معينة من نواحي تفكيرهم، أو على جانب من جوانب شخصياتهم، وليس من المحتم أن يكون هؤلاء العظماء وقواد الأمة ومصلحيها قد مروا على عيادات الأطباء، أو على مكاتب المهندسين، أو المحامين، أو الصيادلة، أو المحاسبين. بل إن العكس هو الصحيح إذ لابد أن يكون كل هؤلاء الأطباء والمهندسين والمحامين والصيادلة والمحاسبين وغيرهم لابد وأن يكونوا قد مروا من تحت يد المعلم؛ لأنهم من ناتج عمله وجهده وتدريبه… إن المعلمين يخدمون البشرية جمعاء، ويتركون بصماتهم واضحة على حياة المجتمعات التي يعملون فيها، كما أن تأثيرهم على حياة الأفراد ومستقبلهم يستمر مع هؤلاء الأفراد لسنوات قد تمتد معهم ما امتد بهم العمر، إنهم يتدخلون في تشكيل حياة كل فرد مر من باب المدرسة، ويشكلون شخصيات رجال المجتمع من سياسيين وعسكريين، ومفكرين، وعاملين في مجالات الحياة المختلفة7(7) [المعلم والمناهج وطرق التدريس، د. محمد عبد العليم مرسي ص(١٤-١٥)]..

فهو أنت أخي المدرس تدرس الصغير والكبير، وتعد الجميع، وتهيئهم ليصل بعضهم إلى ما لم تصل إليه، لكنك صاحب اللبنة الأولى وحجر الأساس.

يدرك الجميع مدى نجاح المدرس في التأثير من خلال فصله الدراسي، وعلى طلبته الجالسين أمامه على مقاعد الدراسة، أما أن تأثيره يمتد خارج أسوار المدرسة فهذا أمر قد لا يدركه الجميع، إن المدرس الناصح المخلص لن يعدم أن يجد واحدا من بين طلبته المئات يحمل أفكاره، ويتحمس لها ربما أكثر منه، وينافح عنها في المجالس والمحافل، فتبلغ كلماته مدى يعجز هو قبل غيره عن قياسه.

وأحسب أنك توافقني أن هذه البوابة من التأثير غير مفتوحة للجميع، وأن من يفشل في التأثير على الجالسين أمامه لن تجاوز كلماته فصله.

اللهم اهدنا وسددنا، ووفقنا لما تحبه وترضاه.

الهوامش

(1) [رواه الترمذي (٢٦٨٥) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. وصححه الألباني].

(2) [رواه البخاري (۸۹۳) ومسلم (۱۸۲۹)].

(3) [رواه مسلم (٤٩)].

(4) [رواه مسلم (١٦٣١)].

(5) [رواه ابن ماجه (٢٤٢) والبيهقي وابن خزيمة. وانظر: صحيح الترغيب والترهيب ص(۷۳)].

(6) [من أعلام التربية الإسلامية (٤٤/١)، نقلا عن مناقب أبي حنيفة للكردي (۱۳۸)].

(7) [المعلم والمناهج وطرق التدريس، د. محمد عبد العليم مرسي ص(١٤-١٥)].

اقرأ أيضا

من فقه الدعوة .. قائد ، وأمة

مسؤولية الفرد عن انتكاسة الأمة.. (1-2) التكاليف الفردية والجماعية

كيف أخرج رسول الله للناس خير أمة؟ (1) تحديد الهوية ومنع الالتباس

كيف أخرج رسول الله للناس خير أمة؟ (2) أُطرٌ متعددة وهوية واحدة

كيف أخرج رسول الله خير أمة؟ (3) دور القيم .. وأهمية التوازن

التعليقات غير متاحة