إن الانكسار والانطراح بين يدي الله تعالى أعظم العبادات وأجلُّ القربات؛ فالدعاء هو العبادة؛ حيث يتضمن أنواعاً كثيرة من العبادة كإسلام الوجه لله تعالى، والرغبة إليه، والاعتماد عليه والتذلل والافتقار.

إلهي لا تعذب لساناً يخبر عنك

«إلهي لا تعذب لساناً يُخبر عنك، ولا عيناً تنظر إلى علوم تدلّ عليك، ولا يداً تكتب حديث رسولك؛ فبعزتك لا تدخلني النار»1(1) (2) ذيل طبقات الحنابلة، 1/422..

هكذا كان ابن الجوزي – رحمه الله – يناجي ربه، وربما ابتهل إلى ربه قائلاً: «ارحم عبرة ترقرق على ما فاتها منك، وكبداً تحترق على بُعدها عنك»2(1) (2) ذيل طبقات الحنابلة، 1/422..

إن الانكسار والانطراح بين يدي الله تعالى أعظم العبادات وأجلُّ القربات؛ فالدعاء هو العبادة؛ حيث يتضمن أنواعاً كثيرة من العبادة كإسلام الوجه لله تعالى، والرغبة إليه، والاعتماد عليه والتذلل والافتقار 3(3) انظر: كتاب الرد على شبهات المستعينين بغير الله، ص 47..

يقول مطرف بن عبد الله بن الشخّير – رحمه الله -: «تذاكرتُ: ما جماع الخير؟ فإذا الخير كثير الصيام والصلاة، وإذا هو في يد الله، وإذا أنت لا تقدر على ما في يد الله إلا أن تسأله فيعطيك، فإذا جماع الخير الدعاء»4(4) أخرجه ابن بطة في الإبانة (القدر) 2/ 195..

وقال سهل بن عبد الله التستري – رحمه الله -: «ليس بين العبد وبين ربه طريق أقرب إليه من الافتقار»5(5) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية، 10/108..

من أعظم أسباب اللجوء إلى الله تعالى

ولما كان الله تعالى لا يخلق شراً محضاً، فإن المحن المتتابعة على أمة الإسلام في هذا العصر من أعظم أسباب اللجوء إلى الله تعالى، والابتهال إليه.

وتحقيق التوحيد كما حرر ذلك ابن تيمية – رحمه الله – بقوله: «فمن تمام نعمة الله على عباده المؤمنين أن ينزل بهم الشدة والضر وما يلجئهم إلى توحيده فيدعونه مخلصين له الدين، ويرجونه لا يرجون أحداً سواه، وتتعلق قلوبهم به لا بغيره، فيحصل لهم من التوكل عليه والإنابة إليه، وحلاوة الإيمان وذوق طعمه والبراءة من الشرك ما هو أعظم نعمة عليهم من زوال المرض والخوف، أو الجدب، أو حصول اليسر وزوال العسر في المعيشة؛ فإن ذلك لذَّات بدنية ونِعَم دنيوية قد يحصل للكافر منها أعظم مما يحصل للمؤمن. وأما ما يحصل لأهل التوحيد المخلصين لله الدين فأعظم من أن يعبر عن كنهه مقال، أو يستحضر تفصيله بال، ولكل مؤمن من ذلك نصيب بقدر إيمانه، ولهذا قال بعض السلف: يا ابن آدم، لقد بورك لك في حاجة أكثرت فيها من قرع باب سيدك. وقال بعض الشيوخ: إنه ليكون لي إلى الله حاجة فأدعوه فيفتح لي من لذيذ معرفته وحلاوة مناجاته ما لا أحب معه أن يعجل قضاء حاجتي خشية أن تنصرف نفسي عن ذلك»6(6) مجموع الفتاوى، 10/333، 334..

كيف تتحقق حلاوة المناجاة ولذة الابتهال إلى الله عز وجل

إن الناظر إلى حالنا يرى غفلة عن الدعاء؛ فقد ندعو الله تعالى دون إلحاح أو افتقار، وربما دعونا الله تعالى مع ضعف ثقة ويقين بإجابة الدعاء، ولذا تغيب حلاوة المناجاة ولذة الابتهال إلى رب العالمين.

وإن مما يحقق ذلك أمرين مهمين:

أحدهما: أن نستحضر أسماء الله الحسنى وصفاته العلا، فنتعبد الله تعالى بأسمائه وصفاته؛ فهو جل جلاله البرّ الكريم، الرحمن الرحيم، الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر. كما نتعرّف على الله تعالى من خلال آلائه ونعمه، (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا) [النحل: 18] ، (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) [النحل: 53] .

والأمر الآخر: أن نستصحب في مناجاتنا فقرَنا وضعفَنا ومسكنَتَنا، وكثرةَ ذنوبنا، وظلمَنا وتفريطنا؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله.

حال الصالحين وكيف كان الدعاء معهم؟

قصة زكريا عليه السلام

زكريا عليه السلام بلغ من الكبر عتياً، واشتعل رأسه شيباً، وكانت امرأته عاقراً، فهذه المقدمات والمعطيات لو طرحت لأساتذة طب النساء والعقم في عالمنا اليوم لاستبعدوا إيجاد الولد؛ لكن الله عز وجل لا يعجزه شيء وهو قادر على كل شيء، فاحذر أن تستبعد أمراً على الله، فقام زكريا يصلي لربه في المحراب، يقول ربنا سبحانه: (ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا) [مريم:2 – 3] والدعاء كلما كان خفياً كان أدعى للإجابة، وليس الدعاء مظاهرة رمضانية، فأشرطة الدعاء تباع على السيارات العامة، وفيها الدعاء برفع الصوت والصياح والتهليل، وكلما كان العبد متضرعاً خاشعاً إلى ربه كان أدعى للإجابة، فنرى الآن العجب العجاب في واقعنا، وهذه المخالفات الرمضانية منها هذا الدعاء الذي في القنوت فإن بعض الأئمة يطوّلون به ويرهقون الناس، بل يتعدون في الدعاء أحياناً، ويعددون أسماء الله: يا نافع يا ألله يا رحمن يا ألله يا رحيم يا ألله، وهذا ليس دعاء وإنما مظاهرة، وهذا ليس من آداب الدعاء بل هو تعدٍ في الدعاء.

ودعا زكريا ربه، قال تعالى: (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) [مريم:4] أي: لم أشق يا رب وأنا أدعوك أبداً، (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) [مريم:5] أي: أريد ولداً ذكراً صالحاً؛ (يَرِثُنِي) [مريم:6] فطلب الذكر لا بأس به، لأنه يرث العلم والنبوة (وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) [مريم:6] أي: ولداً صالحاً لا عاصياً.

وكانت النتيجة كما قال تعالى: (فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى) [آل عمران:39].

وقال تعالى: (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا * قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا) [مريم:8 – 9].

يقول السائل الكريم: طفت على أساتذة الطب فقالوا لي: حيواناتك المنوية ميتة، وأنابيب الزوجة مغلقة، عندك ضعف لا يمكن معه الإنجاب، فاعلم أن لك إلهاً يجيب المضطر إذا دعاه.

قصة يونس بن متى

وكان يونس عليه السلام يكثر في دعائه لربه، وهذا هو السلاح الذي نغفل عنه كثيراً، ادع ربك في اليوم والليلة، ادع ربك وأنت صائم وبعد الفجر وعند الظهر وفي العصر وقبل تناول الفطور، وعند القيام إلى السحور، وبعد التراويح، وفي دبر الصلوات، أكثر من الدعاء بكل ما تحتاج إليه.

خرج يونس عليه السلام من بين قومه غضبان؛ لأنهم لم يستجيبوا له، فأعرض عنهم وخرج قبل أن يأذن له الله، فركب سفينة، فبينما هم في وسط البحر جاءها الموج من كل مكان، عند ذلك تعلم علم اليقين أن الناس لا تقول إلا يا رب، فلا ملجأ من الله إلا إلى الله، يشعر بهذا من قطع مسافة العمرة أو الحج في الباخرة، حينما يعلو الموج لا ملجأ من الله إلا إلى الله، فعند ذلك قرر من في السفينة أن يتخلصوا من واحد حتى يخففوا الحمولة فوقعت القرعة على يونس ثم الثانية ثم الثالثة، فألقوه في البحر، فابتلعه الحوت في ظلمة الليل، وفي ظلام البحر وفي ظلمة بطن الحوت، وما احتمال النجاة إلا صفر %، فهو في قاع البحر وبطن الحوت وفي سواد الليل، ولا يمكن أن يكون هناك احتمال للخروج، فنادى من بطن الحوت في ظلام الليل: (لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء:87]، فقالت الملائكة: يا رب! صوت معروف من عبد معروف، إنه عبدك يونس بن متى، فأوحى الله إلى الحوت: لا تكسر له عظماً، ولا تأكل له لحماً.

يقول ربنا: (فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [الصافات:143 – 144].

تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، ومن الناس من لا يدعو ربه إلا في حال الكرب والضيق! قال تعالى: (فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ) [الصافات:145]، أي: نبذه الحوت على شاطئ البحر وخرج ضعيفاً متعباً مريضاً منهكاً، لكن الله إذا أراد شيئاً هيأ له الأسباب، فقد أنبت عليه شجرة من يقطين، واليقطين نبات يزحف لا ثقل له على الأرض، واراه وغطاه حتى لا يصاب بأذى، حتى أصبح معافى سليماً، فأوحى الله إلى يونس أن يرجع إلى قومه، يقول ربنا: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) [الصافات:147 – 148].

قصة أيوب عليه السلام

وأيوب عليه السلام مرض (18) سنة، كما أخرج ذلك ابن حبان في صحيحه، والمرض كفارة للذنوب ورفع للدرجات، فالله يريد منك أن تدعوه، فأيوب عليه السلام لما مرض تركه البعيد والقريب، والكل تخلى عنه، فمن الناس من يعرفك في حال الصحة، وأول ما تشعر بمرض طويل ابتعدوا عنك، لكن -يا عبد الله! – كن مع ربك عز وجل.

خرج أيوب يوماً يقضي حاجته، فجلس مع زوجته الصابرة التقية المحتسبة، فسمع رجلاً يقول لأخيه: إن أيوب قد أذنب ذنباً، ولو لم يذنب لما ابتلاه الله، فحزن أيوب فرفع يده إلى السماء قائلاً: رب إني مسني الشيطان بنصب وعذاب، يقول ربنا سبحانه في سورة الأنبياء: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ) [الأنبياء:83 – 84] تقول الروايات: إن أيوب ضرب بقدمه الأرض، فانبثقت منه عينان، قال له الله: (هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ) [ص:42] فشرب من الأول واغتسل من الآخر، فعاد صحيحاً معافى بإذن الله.

فإذا كانت عليك ديون، أو عليك هموم وكروب، أو أن الزوجة لا تطيع، والابن عاق فعلاج كل ذلك الدعاء، فلا تيأس ولا تحزن.

قصة عبد الملك بن مروان

ومما يحسن ذكره ها هنا أن عبد الملك بن مروان خطب خطبة بليغة ثم قطعها وبكى بكاء كثيراً، ثم قال: يا رب! إن ذنوبي عظيمة، وإن قليل عفوك أعظم منها، اللهم فامحُ بقليل عفوك عظيم ذنوبي. فبلغ ذلك الحسن البصري فبكى وقال: لو كان كلامٌ يكتب بالذهب لكُتِب هذا الكلام 7(7) البداية والنهاية، لابن كثير، 9/67..

قصة الرجل التاجر وقاطع الطريق

روى ابن أبي الدنيا8(8) أخرجه ابن أبي الدنيا في مجابوا الدعوة (63). أن رجلاً يكنى أبا معلق من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام كان تاجراً في ماله ومال غيره، وكان يقطع المسافات ويتاجر، وفي يوم انطلق بقافلته في صحراء، فلقيه قاطع طريق يريد أن يأخذ ما معه من مال ويقتله، فأعطاه المال وقال: لا بد من قتلك قبل المال.

وانظروا إلى حال الصالحين مع الدعاء فقال: أما وقد عزمت على قتلي، فدعني أصلي لربي أربع ركعات، فقال: صل.

فدخل الرجل في صلاته ولما سجد دعا ربه قائلاً: يا ودود يا ودود، يا فعال لما تريد، يا ذا العرش المجيد، أسألك بملكك الذي لا يضام، وبعزك الذي لا يرام، وبنور وجهك الذي ملأ أركان عرشك أن تفرّج عني ما أنا فيه يا مغيث أغثني يا مغيث أغثني.

فلما أن أنهى الصلاة مباشرة أتاه الفرج من الله عز وجل، إذ جاء رجل يركب جواداً وسيفه بين أذني جواده، وتقدم إلى اللص وضربه ضربة أطاح بها عنقه، فقال له: من أنت؟ ومن الذي أرسلك؟ ومن أي البلاد أنت؟ قال: أنا ملك من السماء الرابعة، حينما قلت: يا مغيث أغثني قلت: يا رب عبد مكروب فوكلني به.

فلا تيأس ولا تحزن، فرمضان شهر الدعاء، فهلموا إلى ربكم عز وجل، وألحوا عليه في الدعاء.

المصدر

1- محاضرة بعنوان: “رمضان شهر الدعاء” للشيخ أسامة سليمان.

2- مجلة البيان العدد: 181، د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف .

الهوامش

(1) (2) ذيل طبقات الحنابلة، 1/422.

(3) انظر: كتاب الرد على شبهات المستعينين بغير الله، ص 47.

(4) أخرجه ابن بطة في الإبانة (القدر) 2/ 195.

(5) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية، 10/108.

(6) مجموع الفتاوى، 10/333، 334.

(7) البداية والنهاية، لابن كثير، 9/67.

(8) أخرجه ابن أبي الدنيا في مجابوا الدعوة (63).

اقرأ أيضا

اعبدوا الله ما لكم من إله غيره

المغزى الرمضاني .. بين صنائع العبادة واشتراك الأمم

رمضان .. واستباق الخيرات

التعليقات غير متاحة