لافتقاد الإخلاص علامات؛ فالبحث عن الشهرة آفة تضعف الإخلاص، والظلم، والكبر، والخيانة والغل والتشفّي، أمراض تحول دون تحقيق الإخلاص الواجب لله تعالى.
مقدمة
لا بد للمجاهد من زاد ومؤهلات لشرف القيام .. (من آداب المجاهد وتزكية النفس).
كما لا بد له من أن ينصر الحق؛ فيكون عمله صوابا .. (القيام بالحق زاد المجاهد).
ولا بد له من أن يكون موقفه مخلصا لله تعالى وحده لا ينازعه فيه غرض دنيوي (القيام لله وحده زاد المجاهد).
لكن لو استوفي هذا فثمة آفات تعارض الإخلاص وتضعفه وتمنع القبول؛ وهذا أمر مخوف للفطِن؛ فهناك آفات خطيرة تتضاد مع الإخلاص يجب على كل مسلم ـ وبخاصة المجاهد ـ أن يتنبه لها ويحْذرها حتى لا يصير العمل هباءً منثوراً.
آفات تحبط العمل وتناقض الإخلاص
ومن أخطرها:
البحث عن الشهرة وثناء الناس أو إرادة عرض من الدنيا
وذلك بالبحث عن الشهرة وثناء الناس ومدحهم أو إرادة عرض الدنيا من مال أو منصب.
ويكفينا في مقت هذه الآفة حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الثلاثة الذين هم أوّل من تسعر بهم النار يوم القيامة وفيه:
«ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقول الله له: فيما قُتلت؟ فيقول: أُمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت فيقول له: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردتَ أن يقال: فلان جريء؛ فقد قيل ذلك. ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتيّ فقال: يا أبى هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة». (1أبو داود (2502) وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1942))
وما أحسن ما ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في مقته لهذه الآفة الخطيرة حيث يقول:
“لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار، والضبُّ والحوت؛ فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبِل على الطمع أولاً فاذبحه بسكّين اليأس، وأقبِل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشّاق الدنيا في الآخرة؛ فإذا استقام لك ذلك الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص.
فإن قلت: وما الذي يسهّل عليّ ذبح الطمع، والزهد في الثناء والمدح؟
قلت: أما ذبح الطمع فيسهّله عليك علمك يقـيـناً أنه لـيـس من شيء يطمع فيه إلا وبيد الله وحده خزائنه؛ لا يملكها غيره ولا يؤتِى العبدَ منها شيئا سواه.
وأما الزهد في الثناء والمدح فيسهّله عليك علمك أنه ليس أحد ينفع مدحه ويُزين، ويضرّ ذمه ويُشين إلا الله وحده”. (2الفوائد ص 150)
إخفاء العمل دأب سلف المجاهدين
ولقد كان المجاهدون من سلف الأمة يحرصون على إخفاء أعمالهم الجهادية لتحقيق الإخلاص ومن ذلك ما رواه الذهبي في السير قال:
“قال محمد بن المثني: حدثنا عبد الله بن سنان قال: كنت مع ابن المبارك والناس، فلما اصطف الجمعان، خرج رومي، فطلب البراز، فخرج إليه رجل، فشد العلج عليه فقتله، حتى قتل ستة من المسلمين، وجعل يتبختر بين الصفين يطلب المبارزة ولا يخرج إليه أحد.
فالتفت إليّ ابن المبارك فقال: يا فلان، إن قتلت فافعل كذا وكذا، ثم حرّك دابته، وبرز للعلج، فعالج معه ساعة فقتل العلج، وطلب المبارزة فبرز له عِلْج أخر فقتله، حتى قتل ستة علوج، وطلب البراز فكأنهم كاعوا عنه، فضرب دابته وطرد بين الصفين ثم غاب فلم نشعر بشيء وإذا أنا به في الموضع الذي كان؛ فقال لي: يا عبد الله لئن حدثت بهذا أحدا وأنا حيّ فذكر كلمة”. (3سير أعلام النبلاء 8/408،409 (3) البخاري (34)، مسلم (58))
مجانبة العدل والإنصاف
هذا الخُلُق الذميم ناتج من ضعف الإخلاص لله تعالى ووجود الهوى في النفس؛ وإلا فالقلب المخلص لله تعالى السالم من الهوى والحقد لا تراه إلا عادلاً منصفاً لا يبخس الناس حقوقهم، ويذكر لهم خيرهم وبلاءهم، يتثبّت في الأخبار ولا يتسرع إلى نقل الشائعات، يحب الخير لإخوانه المسلمين؛ يفرح لفرحهم ولإصابتهم للحق، ويحزن لمجانبتهم للصواب.
وما أحوج المجاهد إلى هذه الصفات العالية لوجود ما يضادها ويكدرها.
الكبْر والتعالي
وهذا مما يتنافى مع الإخلاص لله تعالى؛ لأن المتكبر يرى أن لنفسه فضلاً على الناس، ويحب أن يعظموه ويجلّوه، وأن يشتهر على الناس، وهذا دليل على ضعف الإخلاص لله تعالى؛ إذ أن المخلص لله تعالى لا تراه دائماً إلا متواضعاً هاضماً لنفسه في جنب الله تعالى .
الخيانة والغدر ونقض العهد
وهذا الخلق المذموم مما يتضاد مع الإخلاص لله تعالى وسلامة القلب.
وقد جاء في الحديث الصحيح أنه من خصال المنافقين، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم:
«أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر». (4أخرجه البخاري ومسلم)
وقد جاءت الآيات والأحاديث في الحثّ على حفظ الأمانة والعهود كما قال سبحانه في وصف المؤمنين: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾ (المؤمنون: 8)، ونهى عن الخيانة بقوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (الأنفال :27).
ولذا وجب الاهتمام بتقوية هذا الخُلق الكريم ودفْع ما يضادّه، وبخاصة في إعداد المجاهدين؛ وذلك لما يتعرض له المجاهد من مواقف تتطلب منه إبرام عهد أو عقد للقيام بمهام معينة في الجهاد، أو يُستودع بعض الأسرار التي تتعلق بالجهاد، أو تُوكَل إليه أموال الجهاد قبضاً وإنفاقاً وحفظاً، وغير ذلك من المهمات التي تحتاج إلى إخلاص وتقوى ومراقبة لله تعالى.
الحسد والغل وإثارة الفرقة
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يغل عليهن قلب سليم: إخلاص العمل لله، والنصيحة للمسلمين، ولزوم جماعتهم؛ فإن دعوتهم تحوط من ورائهم”. (5أحمد 5/138 وابن ماجة (3056) وصححه الألباني في صفحة ابن ماجة (2840))
وآفة الحسد والغلّ والتفريق بين المسلمين مرض قلبيّ خطير، منشؤه ضعف الإخلاص لله تعالى؛ إذ أن من ثمار الإخلاص الطيبة في الدنيا أنه سبب من الأسباب القوية في سلامة القلوب ووحدة الصف وجمع الكلمة وائتلاف القلوب وقطع الطريق على من يريد التحريش بين المسلمين وإثارة الفرقة بينهم؛ لان من أعظم أسباب الفرقة والاختلاف والتناحر بين الدعاة والمجاهدين بعضهم مع بعض: ضعف الإخلاص، وتغلب الهوى، وحظوظ النفس.
فإذا حصل الإعداد القوي والتربية الجادة على الإخلاص قبل الجهاد وأثناءه فإن هذا من شأنه أن يقضي على الفرقة والتناحر، وأن يوحّد الصف ويجمع الكلمة على قتال الأعداء، وبهذا يُقضى على سبب خطير من أسباب الفشل والهزيمة؛ قال تعالى: ﴿وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (الأنفال :46).
ومع أن الحسد والغل دليل على ضعف الإخلاص لله تعالى فهما أيضاً دليلان على معارضة الله عز وجل في أقداره وعدم التسليم لحكمه وقضائه؛ ولذا يقول ابن القيم رحمه الله تعالى:
“فإنه لو عرف ربه بصفات الكمال ونعوت الجلال، وعرف نفسه بالنقائص والآفات؛ لم يتكبر ولم يغضب لها ولم يحسد أحداً على ما آتاه الله؛ فإن الحسد في الحقيقة نوع من معاداة الله فإنه يكره نعمة الله على عبده وقد أحبها الله..”. (6الفوائد صـ (157))
حب الانتقام والتشفي وعدم كظم الغيظ
إن القلب المخلص لله تعالى السالم من الحقد والحسد لا تراه إلا محباً للعفو والصلح لا ينتقم بل يكظم الغيظ عن من أخطأ عليه من إخوانه المسلمين. وما أحوج المجاهد إلى هذه الصفات؛ قال الله عز وجل: ﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (آل عمران:133-134).
وبالتأمل في هذه الآيه نجد أن الله عز وجل قد ذكر قبلها آيات في غزوة أحد والاستعداد لها؛ وذلك في قوله: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (آل عمران :121).
ثم بعد ذكر هذا الآيات في هذه الغزوة انتقل السياق إلى نهي المؤمنين عن أكل الربا، ثم حثهم على المسارعة إلى الجنة بالإنفاق في سبيله، والعفو عن الناس وكظم الغيظ، ثم عاد السياق مرة أخرى إلى مواصلة الحديث عن غزوة أحد بقوله: ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ) ( آل عمران :137).
فما معنى توسط هذه الآيات بين آيات الحديث عن غزوة أحد؟
والجواب ـ والله أعلم ـ إن كظم الغيظ والعفو عن الناس وترك الذنوب وطاعة الله ورسوله من عُدّة النصر؛ لأن السيطرة على النفس وعدم الانتقام هو من علامة سلامة القلوب والإخلاص لله تعالى الذي هو من أكبر قوى المعركة، وكذلك التضامن والتوادّ والتراحم والتغافر بين المجاهدين هو أيضاً قوة ذات فاعلية في الغلبة والنصر على الأعداء.
خاتمة
كثيرا ما نعاني ويعاني المسلمون، ويعاني الجهاد وأهلُه من آفات ظاهرة، يعالجون فيها الآفات وكأنها عصيّة على التجاوب من عللها؛ بينما تلك نفوسٌ يقبع الداء في داخلها، إنه افتقاد الإخلاص أو ضعفه؛ هناك الداء ثَم. ولو عولج هذا لتداعت العلل والْتأمتْ جراحات أمراض نتخيل أنها لا تندمل.. لهذا لا غني من التربية الجادة على الإخلاص والتجرد لله تعالى.
…………………………………..
الهوامش:
- أبو داود (2502) وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1942) .
- الفوائد ص 150.
- سير أعلام النبلاء 8/408،409 (3) البخاري (34)، مسلم (58).
- أخرجه البخاري ومسلم.
- أحمد 5/138 وابن ماجة (3056) وصححه الألباني في صفحة ابن ماجة (2840).
- الفوائد صـ (157).