إن من عبد الله بأسمائه وصفاته وتحقق معرفة خالقه سببحانه وتعالى، وعظمه حق التعظيم فإنه ولا شك يصل إلى درجة اليقين.
من آثار الإيمان باسميه سبحانه: (الرحمن الرحيم)
الرحمن الرحيم، اسمان كريمان من أسماء الله الحسنى لهما منزلة رفيعة ومكانة عظيمة، والرحمة صفةٌ من صفاته العُلا، وهي صفة حقيقية تليق بجلاله سبحانه وتعالى، فما من رحمةٍ في مخلوق إلا وهي من آثار رحمة الله، فلقد وسعت رحمته كل شيء ووسعت نعمته كلّ حي فبلغت رحمتُه حيث بلغ علمُه.
المحبة الكاملة العظيمة لله عز وجل
أولاً: محبة الله – عز وجل – المحبة العظيمة وذلك حينما يفكر العبد وينظر في آثار رحمة الله – عز وجل – في الآفاق، وفي النفس والتي لا تعد ولا تحصى. وهذا يثمر تجريد المحبة لله تعالى والعبودية الصادقة له سبحانه وتقديم محبته – عز وجل – على النفس، والأهل، والمال، والناس جميعًا، والمسارعة إلى مرضاته، والدعوة إلى توحيده، والجهاد في سبيله، وفعل كل ما يحبه ويرضاه.
قال تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [آل عمران: 31].
الرجاء في الله وعدم اليأس والقنوط من رحمته
ثانيًا: عبودية الرجاء والتعلق برحمة الله تعالى وعدم اليأس من رحمة الله تعالى فإن الله – عز وجل – قد وسعت رحمته كل شيء. وهو الذي يغفر الذنوب جميعًا كما أن الرجاء والنظر إلى رحمة الله الواسعة وآثارها يثمر الأمل في النفوس المكروبة، ويمسح عليها الرَّوح وحسن الظن بالله تعالى وانتظار الفرج بعد الشدة ومغفرة الذنوب.
قال الله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر: 53].
وقال – عز وجل -: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) [النمل: 62] الآية
يتحدث الشيخ السعدي – رحمه الله تعالى – عن الأمل العظيم في رحمة الله تعالى فيقول: «والأمل بالرب الكريم، الرحمن الرحيم، أن يرى الخلائق منه، من الفضل والإحسان، والعفو والصفح والغفران، ما لا تعبر عنه الألسنة، ولا تتصوره الأفكار. ويتطلع لرحمته إذ ذاك، جميع الخلق لما يشاهدونه فيختص المؤمنون به وبرسله، بالرحمة.
فإن قيل: من أين لكم هذا الأمل؟ وإن شئت قلت: من أين لكم هذا العلم بما ذكر؟
قلنا: لما نعلمه من غلبة رحمته لغضبه، ومن سعة جوده، الذي عم جميع البرايا، ومما نشاهده في أنفسنا وفي غيرنا ومن النعم المتواترة في هذه الدار، وخصوصًا في يوم القيامة، فإن قوله: (وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَٰنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا)، (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ) ، مع قوله: (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَٰنِ)، مع قوله صلى الله عليه وسلم: (إن لله مائة رحمة أنزل لعباده رحمة، بها يتراحمون ويتعاطفون، حتى إن البهيمة ترفع حافرها عن ولدها، خشية أن تطأه، من الرحمة المودعة في قلبها، فإن كان يوم القيامة ضم هذه الرحمة إلى تسع وتسعين رحمة، فرحم بها العباد)1(1) سبق تخريجه ص127. ؛ مع قوله صلى الله عليه وسلم: (لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها)2(2) سبق تخريجه ص137..
فقل ما شئت عن رحمته، فإنها فوق ما تقول، وتصور فوق ما شئت، فإنها فوق ذلك.
فسبحان من رحم في عدله وعقوبته، كما رحم في فضله وإحسانه ومثوبته. وتعالى من وسعت رحمته كل شيء، وعم كرمه كل حي، وجَلَّ من غَنِيِّ عن عباده، رحيم بهم، وهم مفتقرون إليه على الدوام، في جميع أحوالهم، فلا غنى لهم عنه، طرفة عين»3(3) تفسير السعدي 3/252، 253..
اتصاف العبد بالرحمة وبذلها للخلق والرفق بهم
ثالثًا: اتصاف العبد بالرحمة وبذلها لعباد الله تبارك وتعالى: وقد حض الله – عز وجل – عباده على التخلق بها، ومدح بها أشرف رسله فقال: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) [التوبة: 128].
ومن أسمائه صلى الله عليه وسلم أنه (نبي الرحمة)4(4) مسلم (2355).. ومدح الصحابة – رضي الله عنهم – بقوله: (رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح: 29]. وخُص أبو بكر رضي الله عنه من بينهم بالكمال البشري في الرحمة بعد الرسل، حيث قال فيه صلى الله عليه وسلم: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر)5(5) أحمد 3/281، والترمذي في المناقب وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2981)..
وبيَّن صلى الله عليه وسلم أن الرحمة تنال عباده الرحماء فقال: (إنما يرحم الله من عباده الرحماء)6(6) البخاري (7377)، ومسلم (923).، وأعظم الرحمة بالناس هدايتهم إلى التوحيد، وإخراجهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم – عز وجل – ثم الرحمة بهم في أنفسهم، وأعراضهم، وعقولهم، وأموالهم، ودفع الظلم عنهم، وتفريج كروبهم، والإحسان إليهم، وتعزية مصابهم، وقضاء حوائجهم. وأولى الناس بهذه الرحمة الوالدان والأقربون.
قال تعالى: (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء: 23، 24].
وكذلك رحمة الأولاد والزوجات. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له الأقرع بن حابس: «إن لي عشرة من الولد ما قبَّلت منهم أحدًا قط» قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك)7(7) البخاري (5998)، ومسلم (2317)..
وعن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت: «جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها فأطعمتها ثلاث تمرات فأعطت كل واحدة منهما تمرة، ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها فاستطعمتها ابنتاها فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما، فأعجبني شأنها فذكرت الذي صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إن الله قد أوجب لها بها الجنة أو أعتقها بها من النار)»8(8) البخاري (1418)، ومسلم (2630) واللفظ له..
ومن الرحمة التي تغيب عن كثير من الأذهان رحمة عموم الخلق مسلمهم وكافرهم، قال ابن تيمية – رحمه الله تعالى – في أهل البدع: «ومن وجه آخر إذا نظرت إليهم بعين القدر – والحيرة مستولية عليهم، والشيطان مستحوذ عليهم – رحمتهم ورفقت عليهم، أوتوا ذكاء وما أوتوا زكاء، وأعطوا فهومًا وما أعطوا علومًا، وأعطوا سمعًا وأبصارًا وأفئدة: (فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [الأحقاف: 26]9(9) الفتوى الحموية ص 553..
ويقول ابن القيم – رحمه الله تعالى – في نونيته:
وانظر بعين الحكم وارحمهم بها إذ لا ترد مشـــــــــيئة الديان
وانظر بعين الأمر واحملهم على أحكامه فهمًا إذا نظــــــــران
واجعل لقلبك مقلتين كلاهـما من خشــــــية الرحمن باكيتان
لو شاء ربك كنت أيضًا مثلهم فالقلب بين أصـــابع الرحمن10(10) شرح قصيدة ابن القيم 1/131.
التعرض لرحمة الله عز وجل بفعل الأسباب التي تستجلب بها
رابعًا: التعرض لرحمة الله تعالى بفعل أسبابها: ومن أعظم ما تستجلب به رحمة الله تعالى فعل ما يرضيه ويأمر به، واجتناب ما يسخطه وينهى عنه باتباع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف: 56]، وقال سبحانه: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ) [الأعــراف: 156، 157]، وقـال تعـالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [النور: 56]، وقال تبارك وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [البقرة: 218].
- ومما تستجلب به رحمة الله تعالى ما ذكر سابقًا من الرحمة بالخلق والإحسان إليهم.
- ومن الطرق التي تنال بها رحمة الله – عز وجل – تدبر القرآن والإنصات إليه، قال الله تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأعراف: 204].
- وكذلك الاستغفار من أعظم ما تستجلب به رحمة الله تعالى. قال الله – عز وجل -: (لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [النمل: 46].
- وقد أرشدنا الله – عز وجل – إلى سؤاله سبحانه الرحمة لأنفسنا وأقاربنا، وقد أثنى سبحانه على أنبيائه بذلك، وذكرهم للتأسي بهم ، قال الله تعالى: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [الأنبياء: 83]، وقال – عز وجل – عن موسى – عليه السلام – ودعائه لنفسه وأخيه: (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ ۖ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [الأعراف: 151]، وقال سبحانه: (وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) [المؤمنون: 118].
- ومما تستجلب به رحمة الله تعالى الرحمة باليتامى، والخدم، والإحسان إليهم فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة)11(11) مسلم (2983)، معنى (وله أو لغيره) أي: قريبًا لليتيم كالجد والأخ والعم أو قريبًا لغيره كبقية الأقارب. وأشار مالك بالسبابة والوسطى «ومالك أحد رجال السند».
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إخوانكم جعلهم الله فتية تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه من طعامه وليلبسه من لباسه ولا يكلفه ما يغلبه فإن كلفه ما يغلبه فليعنه)12(12) الترمذي (2027)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (1587)..
الحياء من الله عز وجل
خامسًا: الحياء من الله عز وجل: «إن التأمل في إحسـان الله ورحمته يورث العبد حـياء منه – سبحانه وتعالى – فيستحي العـبد المؤمن من خالقه أن يعصـيه، ثم إن وقع في الذنب جهـلاً منه استحيا من الله بعد وقوعه في الذنب، ولذا كان الأنبياء يعتذرون عن الشـفاعة للناس بذنوبهم خـوفًا وخجلاً، وإن هذا لأمر قل من ينتبه له، بل قد يظن كثير من الناس أن التوبة والعفـو قد غمر ذنوبه فلا يلتفت إلى الـحياء بعد ذلك.
كان الأسود بن يزيد يجتهد في العبادة والصوم حتى يصفر جسده فلما احتضر بكى، فقيل له: ما هذا الجزع؟ ، فقال: مالي لا أجزع، والله لو أتيت بالمغفرة من الله لأهمني الحياء منه مما قد صنعت، إن الرجل ليكون بينه وبين آخر الذنب الصغير فيعفو عنه فلا يزال مستحييًا منه»13(13) انظر (التعبد بالأسماء والصفات) وليد الودعان ص98..
الهوامش
(1) سبق تخريجه ص127.
(2) سبق تخريجه ص137.
(3) تفسير السعدي 3/252، 253.
(4) مسلم (2355).
(5) أحمد 3/281، والترمذي في المناقب وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2981).
(6) البخاري (7377)، ومسلم (923).
(7) البخاري (5998)، ومسلم (2317).
(8) البخاري (1418)، ومسلم (2630) واللفظ له.
(9) الفتوى الحموية ص 553.
(10) شرح قصيدة ابن القيم 1/131.
(11) مسلم (2983)، معنى (وله أو لغيره) أي: قريبًا لليتيم كالجد والأخ والعم أو قريبًا لغيره كبقية الأقارب.
(12) الترمذي (2027)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (1587).
(13) انظر (التعبد بالأسماء والصفات) وليد الودعان ص98.
اقرأ أيضا
أسماء الله الحسنى: (6،5) [الرحمن، الرحيم]
أسماء الله الحسنى: (3، 4) [الواحد، الأحد]
شرح أسماء الله الحسنى (1) [الله جل جلاله]