هذه الأمة وُلدت بالإسلام، إذ هو الرحِم الذي وُجدت به، فهو مبرر وجودها ومحور تجمعها، ومحدد وظيفتها، وهو الذي أعطاها الملامح والدور في التاريخ. لا تقوم مقامَه أرضٌ ولا جنس ولا عرق.

أهمية الهوية

ليس تحديد “الهويّة” ترفاً فكرياً، أو جدلاً فلسفياً. بل هو أمر جاد يتعلق ـ بل يقرر ـ طبيعة الصراع المصيري للأمة مع أعدائها “إذ أن الإنسان لا يستطيع أن يحدّد موقفه من غيره، قبل أن يحدد موقفه من نفسه: من هو؟ من يكون؟ وماذا يريد؟

وبدون هذا الحسم “للهويّه” الذاتية، لا يمكن تحديد أي موقف فعّال من أي قضية من قضايا المصير والتقدم والحياة الكريمة”. (1)

ولذلك فلابد أن نسأل أنفسنا: من نحن؟ وما هي هويتنا بالتحديد؟

فإذا حددنا هويتنا، انتقلنا علي ضوء ذلك إلي تحديد ماذا نريد؟ ومن ثم كيف السبيل؟

وإذن فتحديد الهويّة يعرّفنا بأهدافنا التي نريدها، والأسلوب(2) الذي نتوصل به إلي هذه الأهداف.

فما هي هويتنا..؟

 لا شك أن هويتنا الأصلية هي الإسلام.

وأن “الإسلام (كانتماء) هو القاسم المشترك الوحيد لأمة متكاملة كبري، ولا شيء غيره. وإذا ما نحّينا الإسلام جانباً، فمن المستحيل أن نجد قاسماً مشتركاً آخر نتفق عليه وتلتقي عنده الأمة الإسلامية، فلا “الأرض” ولا “اللغة” ولا “التاريخ” يمكن أن تكون القاسم المشترك لأمتنا، وذلك لأن الأرض واللغة والتاريخ تعتبر امتدادا للإسلام”. (3) الذي هو الهوية الراسخة في نفوس أفراد الأمة، والتي تهدي رؤيتهم إلي مختلف القضايا، وتعطيهم الوعي الصحيح والرؤية الواضحة والزاد الحقيقي في مواجهة أعداء الأمة الإسلامية .

وهذه هي عبرة التاريخ، ودرس الواقع في الأمة الإسلامية..؟!

فأمّا إنها عبرة التاريخ :

“فإن العالم الإسلامي كان أمة واحدة تظله راية لا إله إلا الله محمد رسول الله.

وكان المسلم يخرج من “طنجة” حتي ينتهي به المقام في “بغداد” لا يحمل معه جنسية قومية أو هويّة وطنية، وإنما يحمل شعاراً إسلامياً هو “كلمة التوحيد”، فكلما حَلّ أرضاً وجد فيها له إخوة في الإيمان وإن كانت الألسنة مختلفة والألوان متباينة؛ لأن الإسلام أذاب كل تلك الفوارق واعتبرها من شعارات الجاهلية”. (4)

ويحكي لنا التاريخ كيف سافر “ابن بطوطة” من:

“شاطئ المحيط الأطلسي إلي شاطئ البحر الهادي، ولم يُعتبر في قُطر مرّ به أجنبياً، بل واتته الفرصة حيثما حل لأن يصبح قاضياً أو وزيراً أو سفيراً، ولم يراقَب في حركاته وسكناته، ولم يسأله أحد عن هويّته أو جنسيته أو مهنته أو وطنه”. (5)

فقد كان أفراد الأمة في تحرّكهم بين بلد وآخر من بلاد الإسلام لا يحتاجون إلي تأشيرات دخول أو خروج، لأن الإسلام بلور “هويتهم” الحقيقية، ومنحهم “الجنسية” الإيمانية، وزوّدهم بروح الأخوة والمودّة.

لقد كان الفرد من عامة الأمة لا يرى في غير الإسلام سبباً للتجمع، بل يرى أنه وحده أساس الانتماء، وأنه وحده رابطة الولاء. ولذلك لم تكن لديه قابلية للشعور بالغضاضة في أن يعيش علي أرضه ـ بل ويحكمه ـ “مسلم” من بلد أخرى؛ فصِفة “الإسلام” تجُبّ ما عداها، ورابطة “الدين” تغني عما سواها.

نظرة المسلمين لإخوانهم من غير “الوطن”

ولذلك رأينا في مصر مثلاً أنه ” كانت نظرة المصريين دوماً إلي المماليك ـ  وهم ليسوا أُولي جذور مصرية ـ نظرة المسلمين إلي مسلمين، الذين قد تكون لهم ـ كحكام ـ مظالم وشرور، ولكن هذه النظرة ما تعدّت ذلك إلي اعتبارهم وافدين علي الوطن”. (6)

ومن ناحية أخرى كانت نظرة الفرد من عامة الأمة إلي العالم من حوله، نظرة إسلامية محددة،  يعتبر الفرد فيها أن الأرض التي يسيطر عليها النظام الإسلامي، وتحكمها الشريعة الإسلامية هي “دار الإسلام”.. وأن الأرض التي لا يسيطر عليها الإسلام ولا تحكمها الشريعة الإسلامية هي “دار الحرب”.

ولذلك كانت “الأمة” تقاوم الغزو الغربي الصليبي مقاومة إسلامية “وتنظر إليه على أنه غزو من قبل (الكفار) لبلاد (الإسلام) تنبغي مجاهدته وإزالته، وتقاوم ما وسعتها المقاومة عملية تنحية الشريعة الإسلامية وإحلال القوانين الوضعية محلها، علي أساس أن هذا كفر يخرج الأمة من الملة إذا رضيت به.. كما جاهدت “الأمة الإسلامية” في مصر حملة نابليون الصليبية، ومنعته من إحلال قانونه محل الشريعة الإسلامية، وكما جاهد المسلمون في الشمال الأفريقي ضد الغزو الصليبي الفرنسي، وفي الهند ضد الغزو الصليبي الإنجليزي، وفي أندونيسيا ضد الغزو الصليبي البرتغالي ثم الهندي..

وباختصار في كل مكان واجهت فيه الأمة الإسلامية غزو أوروبا الصليبية لبلادها”. (7)

وبقي الدين عنصراً بارزاً في وعْي أفراد الأمة، وبقي الإسلام هو المُشَكّل لهوية الأمة الإسلامية  فهو الذي يقوم عليه التصور العقدي العام في الأمة، وهو الذي ينشّط حركة الفرد في محيطه الفردي والجماعي وإن اعترى ذلك فتور في الفعالية..

وضوح هوية الإسلام في مقاومة نابليون في مصر

“وكانت هذه الحقيقة من الوضوح بحيث فرضت نفسها علي الفرنسيين وهم يعدّون العُدة للتعامل مع الشعب المصري، حتى يمكن القول بأن الباب الذي اعتمده نابليون للدخول إلي المصريين كان باب الدين، الذي استغله نابليون منافقاً، بصورة ساذجة وسطحية؛ فهذا هو المنشور الذي وجّهه نابليون للمصريين وقد افتتح بعبارة تقول:

“بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله لا ولد له، ولا شريك له في ملكه”

ثم يقول:

“يأيها المصريون قد قيل لكم إنني ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم، فذلك كذب صريح فلا تصدقوه، وقولوا للمغتربين أنني ما قدمت إليكم إلا لأخلّص حقكم من يد الظالمين، وإنني أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه وتعالي، وأحترم نبيه والقرآن الكريم”

ثم يضيف كاذباً”

“أيها المشايخ والقضاة والأئمة والجرننجية وأعيان البلد، قولوا لأمتكم: إن الفرنساوية هم أيضاً مسلمون مخلصون (وفي النص الفرنسي : محبون للمسلمين المخلصين)..!!

ويدل ذلك على أن نابليون حينما أراد أن يقدّم الفرنسيين للشعب المصري، بالصورة التي يعلم أنها مظنة القبول عنده، قدمهم كـ “كمسلمين مخلصين” أو علي أقل تقدير “محبين للمسلمين المخلصين”!!

لقد كان المدخل بالقطع ذا علاقة بالإسلام، الذي ظل ـ رغم كل ما شاب وجوده الحقيقي من خلل ـ سمْتاً غالباً في المجتمع، يراه الناس أساس التجمع وسبب الدولة”. (8)

ولذلك فإن المصريين حين قاتلوا الحملة الفرنسية، لم يقاتلوهم بوصفهم “مصريين” إزاء “فرنسيين”.. وإنما بوصفهم “مسلمين” يقاتلون “الكفار” الذين يحتلون أرضهم.

والدليل على أنها كانت حرباً جهادية إسلامية ضد “الصليبيين” أن علماء الدين كانوا هم قادتها، وأن غضب نابليون انصبّ علي “الأزهر” بوصْفه عنصر المقاومة للغزو الصليبي.. وتأتي قمة الدلالة في كون سليمان “الحلبي” الذي قتل كليبر لم يكن “مصرياً”، إنما كان “مسلماً” دفعه إسلامه إلي قتل قائد الحملة الصليبية الموجهة إلي أرض إسلامية.

مثال آخر في ثورة 1919 في مصر

وإذا مضينا مع التجربة الإسلامية، وجدنا المثال الآخر الذي يدل على أن الإسلام “كهويّة” للأمة،  كان دائماً يعبئ طاقات الأمة ويوحدها، ويجعلها أكثر صلابة في مواجهة أعدائها.

وذلك المثال هو ثورة 1919م في مصر.

لقد قامت الثورة تعبيراً عن غضب الأمة المختزَن منذ عهد الاحتلال، واشترك فيه الشعب كله إلى أقاصي الصعيد، وكانت الجماهير تستمع إلي خطباء الأزهر الذين يُشعلون حماستها، فتخرج في مظاهرات قوية ضد المستعمر الغاضب.

وكان الإنجليز يدركون أنها “ثورة إسلامية”، ويرون في ذلك الخطورة البالغة، كما عبّر عن ذلك “اللورد اللنبي” المندوب السامي  في مصر بقوله:

“إن الثورة تنبع من الأزهر، وهذا أمر له خطورته البالغة.. أفرجوا عن سعد زغلول وأعيدوه إلي القاهرة. (9)

وإذن فقد كانت الثورة في بدايتها(10) ثورة “إسلامية” ـ وكانت أحاديث الناس، وبخاصة في الريف؛ تدور حول ضرورة الثورة ضد الكفار المغتصبين.. وضرورة الثورة ضد الذين يفصلون بين الأمة وبين دولة “الخلافة”.. وكان الناس يرون أن “الأزهر” هو الجدير ـ في حسّهم أن يقود الثورة الإسلامية.

وهكذا في كل مواجهة بين الأمة الإسلامية، وبين أعدائها، كان الإسلام هو الحصن الذي فشلت تحت أسواره محاولات القضاء على الأمة على مدار التاريخ.. وكانت “الهويّة الإسلامية” هي الحافز الأيديولوجي الرئيسي الذي دعّم جهاد الأمة ضد أعدائها، سواء في الحروب الصليبية، أو غزو التتار، أو حرب الفرنجة، أو غيرها.. حيث كانت “الأمة” تندفع بهويتها الإسلامية لتقدم قدراتها القوية؛ فسرعان ما تنهزم قوى الباطل ويعود المسلمون إلي امتلاك إرادتهم، وبناء أمتهم، ونشر كلمة الله في العالمين.. وهذه هي عبرة التاريخ.

درس الواقع

وأما درس الواقع فقد “أثبت لنا تاريخ صراع الأفكار والمذاهب في القرن الأخير في المجتمعات الإسلامية أن “الأمة الإسلامية” رفضت محاولات إسقاطها النهائي أمام الأمم الأخرى وحضاراتها، وأنها لا تزال تحتفظ بجوانب من القوة في مقوّماتها الإسلامية وخصائصها الذاتية المستقلة، على الرغم من غزو الحضارة الغربية لقيمها وحياتها وسلوك أفرادها “(11) ولا تزال ترى أن الإسلام هو المنهج الذي يمثّل خصائصها، ويحدد هويتها، ويرسم الطريق الأمثل والوحيد إلي أهدافها الحضارية .

وليس أدل على ذلك من هذه الصحوة الإسلامية، وتلك الجحافل الساجدة لله بالفكر والسلوك.. الساعية إلي إخراج الأمة الإسلامية من “التبعية” إلي “الريادة” و”قيادة البشرية”.

إن الإسلام وحده هو “هويّة الأمة الإسلامية”، وهو عصب حركتها ومحور اجتماعها، وهو القوة الدافعة التي تُفَجّر طاقات الأمة وتقوّي وقفتها في مواجهة أعدائها. ويوم أن كان الإسلام هو هويّة هذه الأمة، كان المسلمون هم سادة الأرض بحق وصدق وعدل.. وبغيره ستظل الأمة تلهث وراء المظاهر الحضارية التي تحسبها التقدم، وهي القشور والخداع.

هوية متجذرة

وبكلمة .. لقد بلْور الإسلام “هوية الأمة الإسلامية” ومنح أفرادها “الجنسية” الإيمانية، فاجتمعوا حول الإسلام وربط بينهم حبل الله كارتباط الجسد الواحد.

ولم يستطع الغزو العسكري أو الفكري أن يحكم الأمة الإسلامية بغير الإسلام إلا في ظل سياسة العصا الغليظة، والاستبداد السياسي، والظلم الاجتماعي، والأنظمة الجبرية؛ حيث تُلغي إنسانية الإنسان، وتُطارد حريته، وتُصادر هويته..!!

واليوم يبقى الإسلام هو “وحده” المنهج الذي يمثل خصائص الأمة ومنطلقاتها الاعتقادية وأهدافها الحضارية.. ذلك أنه هو “هوية الأمة الإسلامية”.

……………………………………………..

الهوامش:

  1. ندوة اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر ـ ص 139.
  2. وفقاً للمصطلح الحديث يقصد بالأسلوب: الإستراتيجية والتكتيك.
  3. فقه الدعوة ـ ملامح وآفاق :/ عمر عبيد حسنة ص 72.
  4. الولاء والبراء ـ محمد سعيد القحطاني ص 415.
  5. الإسلام والمدنية الحديثة ـ أبو الأعلى المودودي ص 44.
  6. تطور الفكر السياسي في مصر ـ عبد الجواد ياسين ص 45.
  7. واقعنا المعاصر ـ محمد قطب ص 214.
  8. تطور الفكر السياسي في مصر ـ عبد الجواد ياسين ص 46،47.
  9. مستفاد من كتاب تاريخنا المعاصر للأستاذ محمد قطب.
  10. قبل أن يحولها “سعد” ورفاقه من ثورة إسلامية إلي ثورة وطنية لا علاقة لها بالدين.
  11. المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري – د محسن عبد الحميد ص 41.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة