يحتاج المؤمن الى النظر الى آثار أسماء الله وصفاته في الأحداث، كما يحتاج للبصيرة في واقعه والقواعد الحاكمة في التغيرات السياسية المتقلبة؛ فتثبت في حسه ثوابت يتغير في ظلها ما يقبل التغير.

بين التسرع والبصيرة

كتب الكثير من المحللين والسياسيين تحليلات لأحداث المنطقة المفاجئة والمتتابعة.. البعض قال إن تسارع الأحداث وضخامتها يجعلنا عاجزين عن التحليل، وهذا من الاحترام العلمي للوقائع المتسارعة والمتضاربة، بل المبهمة.. فالجميع يترك مساحة للانتظار لوجود مساحات مظلمة ينتظر كشف الضوء عنها.

ومع ذلك كتب بعضهم عدة سيناريوهات، وجزم ببعضها وبفحوى بعض الخنادق وتشكلها بطريقة أقرب للقفز على حقائق كثيرة وتاريخ، وبعضها أمنيات.. كاعتقاده أن إيران ستحرر القدس أو تمحو إسرائيل! وثمة توقعات متعددة.

وهي كلها سيناريوهات مطروحة وممكنة نظريا، لكن هناك قواعد قفز عليها البعض في تحليلاته فأردت لفت النظر إليها.. ليس هذا تحليلًا بديلًا عن أحد، بل استحضارٌ لأمور غابت، وذِكرٌ لعوامل نُسيت.

رؤية عقدية

آيات توضح الطريق

يقول الله عز وجل ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۚ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ۚ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ فَذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ ۖ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ۖ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ * كَذَٰلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ۚ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ۖ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ۚ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ۗ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ ۖ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ۚ إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ (يونس:31-36).

إن هذه الآيات الكريمات من الوضوح والجلاء بحيث لا تحتاج إلى مزيد  من شرح وبيان، ولقد ورد ذكر كلمة (الحق) في هذه الآيات خمس مرات في مقابل الظن والتخبط والتيه في شِعاب الضلال.

كما جاء في صدر هذه الآيات بعض الصفات والأفعال التي اختص الله سبحانه بها دون خلقه والتي اقتضت أن يكون له سبحانه الملك كله والحكم كله والتدبير كله وله الحمد كله على ذلك كله. (1انظر مقال (اسم الله (القيوم) وآثاره في الأحداث المعاصرة)

الالتفات الزائد الى الخلق

وإن هذه المسلَّمات والمحكمات قد غابت اليوم عن كثير من المسلمين في زحمة الأحداث والمفاجآت وما يصاحبها من تلبيس وتضليل يمارسه شياطين الإنس والجن، يوحي بعضهم الى بعض زخرف القول غروراً، ليصرفوا الأمة عن مصدر نجاتها وهدايتها.

حيث نرى ربط هذه الأحداث بأسباب مادية وتحليلات متخبطة وأخطر ما فيها تضخيم قدرات العدو وقوته وهيمنته وإيهام الناس بأنه المتحكم في الأحداث والمتصرف فيها، وخلعوا عليه بعض صفات رب العالمين فاطر السموات والأرض؛ من القدرة والقوة والتدبير وأن لا طاقة لأحد بمواجهته ومحاسبته بل لابد من الرضى بالواقع والاستسلام له..!

وهذا ما يريده منا أعداء الأمة من شياطين الإنس والجن ﴿إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران : 175).

إننا بحاجة بل ضرورة عظيمة إلى معرفة ربنا بأسمائه الحسنى وصفاته العلا وما تثمره في قلب المسلم وفي واقع المسلمين من ثمار طيبة يانعة وموازين ثابتة عادلة منضبطة لكل مايحدث وينزل بالمسلمين من أحداث ونوازل.. (2المصدر السابق)

شهود ربوبيته وقيوميته الشاملة

إذا استقر في حس المؤمن أن كل ما يجري في السموات والأرض من قضاء الله وقدره إنما هو بعلم الله عز وجل وإذنه فيه وخلقه وقهره وعزته، ولو شاء الله عز وجل لما كان ووجد، وأن الخلق جميعهم تحت قهره وعزته وقوته نواصيهم بيده لا يستطيعون فعل أي شيء إلا بإذنه سبحانه..

إذا استقر هذا في قلب المؤمن فإنه حينئذ يغيب في شهود قيوميته سبحانه وقهره وعزته عن شهود أفعال العباد وتدبيرهم والخوف منهم أو رجائهم أو ابتغاء مرضاتهم وتقديم محابهم على محاب الله عز وجل. (3المصدر السابق)

[للمزيد اقرأ اسم الله (القيوم) وآثاره في الأحداث المعاصرة]

النفسية الأمريكية تجاه الشيعة والسنة

التقارب الأمريكي والغربي النفسي مع الشيعة لتقارب البعد العقدي عند كليهما أقرب مما بين الغرب والسنة؛ فالسنة يعتمدون النصوص، والآخرون يعتمدون الأئمة المقدسين، والمعصومين، وطريقتهم في اعتقاد الخلاص، وربوبية المخلوقين متقاربة، وهذا متوافق مع النفسية المسيحية الغربية بروتستانتية أو كاثوليكية أو أرثوذكسية.. ما عدا الإنجيليين.

ضرب إيران

ضرْب إيران وتقزيمها ليس هدفًا استراتيجيًا لأمريكا والغرب؛ بل الهدف الاستراتيجي هو تقزيم وتفتيت وتفقير دول أهل السنة لأنهم يمثلون كتلة الإسلام وتاريخه، ومركز حضارته، والتهديد الذي يستشعره الغرب.

صراع إيران مع الغرب

صراع إيران مع الغرب هو لتوازن القوى ولتحقيق تفاهمات مفيدة للطرفين، وليس صراعًا وجوديًا أو صفريًا.. لكنه أيضًا ليس صراعًا تمثيليًا، بل هو صراع حقيقي وامتلاك جاد لأدوات القوة تستخدمها إيران وتستخدمها إسرائيل والغرب.

صراع إيران مع إسرائيل

صراع إيران مع إسرائيل ليس صراعًا صفريًا، بل هو على مستويين:

1) مستوى شعبي إعلامي، يعلنون فيه العداء لإسرائيل؛ فتستفيد إسرائيل: تعاطف الغرب، وصنع العدو الذي يوحد الإرادة السياسية للبلاد، وتمتلك به سلاحًا حديثًا، وتبرر به امتلاكها للسلاح النووي، وغيره ذلك.

وتستفيد منه إيران بالنفاذ إلى نفسية المنطقة المحبَطة تحت وطأة الهزائم، وشرعنة لوجودها تحت مسمى كاذب اسمه (المقاومة)؛ فتتمدد إلى العراق، ثم الشام، وكذلك اليمن.

وفي سبيل تحقيق هذا، فهناك صراع وقوة حقيقية بين الطرفين، فالأمر ليس تمثيليات كما يتخيل البعض، بل هو مدافعة حقيقية للقوة.

2)  وأما المستوى المخابراتي، فهناك تفاهمات في مجالات كثيرة، وهناك الكثير مما يمكن لهما الاتفاق عليه مستقبلًا.

التلاعب الغربي بالعرب

يتم التلاعب الغربي بالعرب والمسلمين السُنة وابتزازهم واستنزاف ثرواتهم، مع التوتر الاعلامي المُصطنع في الغالب

علاقة حلب الأموال

العلاقة بين الغرب وممالك الخليج الآن هي علاقة حلب أموال وتغيير ثقافي وإعلان خضوع وإخضاع الشعوب والأجيال القادمة للثقافة الغربية، ومن قبل كانت رعاية وتحقيق مصالح بترولية وغيرها.

وعلى هذا، فاللعاب الأمريكي حاليًا يسيل على مليارات الدولارات لتشغيل مصانع الاسلحة.

التصعيد الإعلامي

ليس كل تصعيد إعلامي يعني أن هناك حربًا، فكم من تصعيد “مقصود” يصل إلى حافة الذروة، فيطمئن السعوديون، فيُطلب منهم الثمن بمكاسب مليارية. وإذا تحقق الهدف؛ تراجع التصعيد ورجع العرب “المستغفَلون!”، يموتون كمدًا بخسارة المال والسياسة معًا؛ ما المانع من هذا؟ وماذا تخسر أمريكا من تشديد اللهجة والتخويف والإيهام لتأخذ المليارات؟

عزائم العرب

لا بد من ملاحظة أن العرب لا تنعقد لهم عزيمة على أمر مفيد، حتى لو تضمن مفاسد عظمى.. فقد دفعوا أكثر من (400) مليار من أموال الأمة وثروات المسلمين إلى ترامب ليشرفهم بحضوره! ولتصطف معهم ضد إيران.. فأعطاهم كلامًا وأخذ أموالًا! وفقط خشّن اللهجة مع إيران، مع استمرار الغطاء الجوي الأمريكي للشيعة العراقيين والإيرانيين في العراق! وحضور إيران فيها قوي لا يُنكَر!

ثم انفسخت عزائم العرب وأصابهم حوَلٌ، واتجهوا لنقض إجماعهم بأنفسهم بمعاداة قطر.. فدخلوا في مشكلة داخلية ودمروا مجلس التعاون وبددوا قوتهم وفتحوا لإيران ثغرة كبيرة؛ فأهدروا الأموال، وبددوا الجهود وفسخوا العزائم.. إنها قيادات تُضحك التاريخ وتُسر العدو وتُبكي الصديق.

أوضاع أطراف الإقليم

التخوف على تركيا

وعلى هذا لا يُستبعد أبدًا أن تتحول الدائرة مباشرة إلى تركيا، ومعها قطر كمحل للتنازع مع وجود القوات التركية بها (30 ألف جندي مرشحون للزيادة).. فيلتف الحبل كالعادة في الاتجاه الخطأ وتضيع القوى والجهود.

تروّي الإيرانيين

أما إيران، فلا بد من استحضار معلومة بديهية أولى، وهي أنها ليست دولة عنتريات، مثل عنتريات رؤساء وملوك عرب كثر (صدام حسين)، بل هم أصحاب قضية ـ ولو باطلة ـ ويجيدون المناورة، وليست المناطحة فقط.

وعلى هذا فلا يُتوقع أن تدخل حروبًا لا تخدمها، ولا تضطر إليها ويمكنها الاستغناء عنها.. وهذا يتضح جليًا بالنقطة التالية.

أذرع إيران وتفاوضها

وهي أن إيران مدت أذرعًا بعيدة عن بلادها، وهي لن تفاوض على أرضها أو مقدراتها أو وحدتها أو سيادتها (كالسعودية أو الخليج أو الشام)، بل ستفاوض على هذه الأذرع في العراق (كوضع خاص هو آخر ما تتخلى عنه)، أو سوريا ولبنان (وهي تلي العراق).. أو اليمن، وقبول التفاوض بها سهل وهين بالمقارنة مع العراق والشام، مع عدم تخليها عنه نهائيًا لتبقى ميزة القدرة على المناكفة! فأمرُّ الخيارات لإيران حلو لها، بلا خسارة.. وكل تراجع لها سيكون مقابلًا بمكاسب مقابلة ومُرضية لها.

التخوف على المملكة

وعلى هذا فالخطر الحقيقي والتخوف الجاد إنما هو ـ ويا للمفارقة ـ متوجه نحو السعودية وتفتيتها، وتركيا وتحجيمها وإسقاطها كدولة لتعود للتخلف وإخراجها من المعادلة، وقطر ويمكن التهامها أو تصبح هي فتيل صراع وملتقى توازنات قوى، وعنوانًا مترجِمًا لمحصلة القوى الإقليمية.

الخطر الآن هو على السعودية، لو استمر خط نزق ذلك الشاب، أو يتآمر عليها العدو في لحظة الضعف.. على هذا ترسو سفينة العداء الغربي وخطوطه الاستراتيجية. فالبديل الاسلامي والشعبي من قِبل الأمة غير جاهز ولا حاضر، لا لشيء إلا لشدة الاستبداد الذي استأصل خيرات الأمة وخبراتها ومنع عقولها عن الظهور والتوجيه.

بين العداء التكتيكي والعداء الاستراتيجي

معاداة الغرب لإيران تكتيكي، وللمنطقة العربية والإسلامية السنية عداء استراتيجي، وما يحدث الآن هو الجانب التكتيكي، وما يحدث غدًا هو الحقائق الاستراتيجية.. ويجب ألا نبدل الأمور فنرى التكتيكي استراتيجيًا، فنُخدع به ونضع أوراقنا فيه، فنخسر خسارة تاريخية مضافة لما نعيشه من انهيارات، أو نرى الاستراتيجي تكتيكيًا، فنغفل عن عدونا، ونعطيه الأمان، فتجيء الطعنة قاتلة.

التغييرات الجذرية

وقوع حرب عالمية..!

أما وقوع حرب عالمية.. فالعالم أكثر دراسة لما يقبل عليه، وكم من خلافات روسية أمريكية، وروسية إيرانية، وخلافات إيرانية أمريكية.. ولم تحدث أكثر من مخاشنات سياسية وطرد دبلوماسيين، ثم يعقبها تسويات كثيرة وتفاهمات سياسية واستخباراتية وتبادل مصالح.. الأمر ليس مستنكرًا، لكنه ليس قريبًا كما يروج البعض.

الخلاصة أن العرب والمسلمين في الاتجاه الخطأ، وثقتهم في محل خطأ.. والحروب المحتملة جزئية وتكتيكية، ولغير صالحهم.

التغيير الديني والثقافي

والتغيير الديني والثقافي أخطر فهو تغريب محطِم للهوية ومدمر لما تبقى من خير، كان يجب أن تعالَج أخطاؤه من خلال الدين نفسه واجتهاداته الصحيحة والترجيح بينها، بدلًا عن مصادرته إرضاء للسيد الغربي والصهيوني، وبدلًا عن حبس العلماء والدعاة لسواد عيون من لا يريد خيرًا لهذه الأمة، لكن اليوم الانهيار ديني واقتصادي واستراتيجي.

وقوع ما ليس في الحسبان

أما خروج الأمور عن السيطرة بحيث لا يتحكم فيها أحد من القوى الإقليمية والعالمية..

وأما دخول الشعوب على الخط ليقرروا أمرًا يقلب الطاولة، ويفسد التفاهمات التي هي خسارة محضة للعرب والمسلمين السنة لصالح الغرب أو إيران.

وأما دخول عوامل مختلفة غير محسوبة وتغيير خريطة القوى والتفاعلات. (4مثال ذلك مقتل الصحفي السعودي خاشقجي وما قد يترتب عليه)

فكل هذا منوط بقدر الله تعالى، ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ﴾ (يوسف:21)، ﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ (هود:123).

اليقين في الله

بقي على الشعوب ـ وعلى الفئة المؤمنة خصوصا ـ أخذ زمام المبادرة، والدفاع عن نفسها وثرواتها وأعراضها ودينها ومستقبلها.. ولو فعلوا هذا فالأمور بيد الله.

فقد سُئل أحد العلماء (بم عرفت ربك؟ فقال: بنقْض الهِمم وفسْخ العزائم) فتوجهات البشر قد يغيرها الله تعالى في لحظة، وما تدبره الغرف المغلقة والمظلمة، فليس إليها تدبير أمر السماوات والأرض، بل إلى رب العرش العظيم. فكم في بطون الأيام من أقدار؛ فاللهم هيئ لهذه الأمة أمرًا راشدًا.

……………………………

هوامش:

  1. انظر مقال (اسم الله (القيوم) وآثاره في الأحداث المعاصرة.
  2. المصدر السابق.
  3. المصدر السابق.
  4. مثال ذلك مقتل الصحفي السعودي خاشقجي وما قد يترتب عليه.

اقرأ أيضا:

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments