طلب حياة القلوب والأبدان من الله، ومعافاة القلوب من الموت والسقم بمغفرة الذنوب، قوام البدن بالطعام والشراب وصرف الآفات؛ لا شيء من هذا يُطلب إلا من رب العالمين.

مقدمة

بعدما أمّن تعالى عباده من ظلمه ـ سبحانه وجل جلاله ـ أرشدهم الى ما به قوام وجودهم بصلاح قلوبهم وأرواحهم، وخلودهم وهي الهداية، أرشدهم سبحانه بعدها الى ما به قوام أجسادهم، طعاما وكسوة؛ ثم الى صرْف سبب الشرور عنهم وهي ذنوبهم..! فقال: «…. يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمتُه فاستطعموني أطعمْكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر لكم ذنوبكم جميعا؛ فاستغفروني أغفر لكم….».

طلب الرزق من الرزاق وحده

النداء الثالث: طلب ما يحتاج إليه العباد ويضطرون إليه في معاشهم وحياتهم الدنيا، فقال: «يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمتُه، فاستطعموني أطعمْكم».

وهذا مثل قوله تعالى ﴿فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ﴾ [العنكبوت:17] فالناس غالباً ما يعلّقون طلب الرزق بالأسباب، فكل الناس ـ حتى أكثر المسلمين ـ يعلّقون طلب الرزق إلى الأسباب؛ وينسون خالق الأسباب، وينسون الرزاق ذا القوة المتين الذي تكَّفل فقال: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا﴾ [هود:6].

ومع ذلك، فإن أكثر الناس لا ترتفع أنظارهم إلى خالق السماوات والأرض، الرازق المحيي المميت، بل ينغمسون في طلب الأسباب ويلهثون وراءها.. وكثيراً ما يخرج بهم ذلك عن الطريق المستقيم، فيقعون في معصية الله، ويبتغون رزق الله بمعصيته، ظناً منهم وجهلاً أنهم بذلك ينالون فضل الله، وينالون رزق الله تبارك وتعالى، وهو يقول: «يا عبادي كلكم جائعٌ إلا من أطعمتُه»، فهو المطعم سُبْحانَه وتعالى، وهو الذي يُطْعِم ولا يُطْعَم، وهو الذي يمنُّ على خلقه بهذا الرزق، وكل ذي كبدٍ رطبة، فالله تبارك وتعالى يرزقه ويكلؤه سُبْحانه وتعالى.

«فاستطعموني أطعمْكم»، فاطلبوا الرزق مني وحدي، فمن طلب الرزق من الله تبارك وتعالى وحده لا شريك له، فقد كُفي مؤونة الرزق، وكان مع ذلك ذا عزةٍ وتعففٍ وترفعٍ، لا يجده أبداً مَن طلب الرزق من البشر، أو مِن الأسباب المخلوقة المنقطعة عن الله تبارك وتعالى.

فثنّى الله، تبارك وتعالى، بطلب الرزق والإطعام بعد طلب الهداية منه وحده لا شريك له.

طلب الكساء من الخالق وحده

النداء الرابع: متعلق بأمر ضروري آخر يحتاج إليه الناس، وقليل من الناس من يُفكِّر فيه، أو من يعرف نعمة الله تبارك وتعالى ومنته علينا به، فقال في الحديث: «يا عبادي! كلكم عارِ إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم»، فكثير من الناس لا يفطنون ولا يتنبهون إلى نعمة الكساء؛ لأنها لكثرتها ولوفرتها ولعموم فائدتها تبلّد الإحساس بها، إلا من عانى ومن ذاق عدم اللباس، فمن ذاق ذلك عرف نعمة الله تبارك وتعالى على العالمين، بأنه أنزل إلينا هذا اللباس، وتفضل علينا به، والله تبارك وتعالى، يذكّرنا بنعمه، ومنها هاتان النعمتان: نعمة الطعام ونعمة اللباس، وهما النعمتان المشاهدَتان الملموسَتان يومياً في حياة الإنسان.

فكل إنسان في أية بيئة كان، أو في أي مستوى كان من الحياة، لا بد أنه في كل يومٍ وليلة يأكل ويشرب، ولابد أنه يلبس.. فهاتان نعمتان ملازمتان للإنسان أينما وُجد، فكان ينبغي أيضاً أن يلازم الإنسان تقوى الله، وطاعته، وعبادته، أينما وُجد، ومهما كانت حالته الاجتماعية والمعيشية.

طلب المغفرة من الغفور سبحانه

النداء الخامس: وهو قول الله تعالى في هذا الحديث: «يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم».

فهذه حقيقة لا مناص لأي إنسان أن يفر منها أو يكابر أو ينكرها، فنحن العباد نخطئ بالليل والنهار، وكل بني آدم خطاء، فالقلب يخطئ بالخطرات والأفكار والوساوس الرديئة والأماني الكاذبة.

والعين تخطئ بفضول النظر، وبالنظر المحرم، وبما من شأنه أن يُدخل إلى القلب داءً قد لا يشفى منه أبداً.

واللسان يخطئ، ومن الذي يمر عليه يوم ولا يخطئ بلسانه..؟! إما بغيبة أو نميمة أو كلمةٍ لا حقَّ له أن ينطقها..؟!

والأذن تخطئ؛ فكم تسمع من حرام..! فإما أن تسمع حراماً فتستلذ به، وإما أن تسمع منكراً فلا تنكره، فالخطأ ملازم لابن آدم، ولو لم يكن من خطأ ابن آدم إلا أنه غافلٌ عن هذه النعم، فهو غافل عن ذكر الله تعالى مع أنه متلبّس بها ليل نهار.

ولهذا أَمرنا الله أن نستغفره، تبارك وتعالى، وكذلك أمرنا رسوله، صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أن نستغفر الله تبارك وتعالى، والرسول، صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ضرب لنا في ذلك المثل الأعلى؛ فقد كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستغفر الله في اليوم “مائة” مرة أو أكثر من “مائة” مرة، بل كان ربما استغفر في المجلس الواحد أكثر من “سبعين” مرة.

هذا وهو رسول الله، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، والاستغفار هو صابون الذنوب، وهو الذي يذهبها بإذن الله تبارك وتعالى.

فهذا الطلب وهذا النداء من الغفور الرحيم، الغني عن العالمين إن عبدوا وإن أطاعوا، أو إن عصوا وكفروا؛ فالله عز وجل يبين لنا أنه يفتح هذا الباب العظيم من أبواب الرجاء ومن أبواب الخير، وهو عز وجل يطلب منا أن ندعوه، وأن نستغفره.

الله يغضب إن تركت سؤاله .. وبنيّ آدم حين يسأل يغضب

ممن يُطلب العفو..؟

يقول تعالى في حديث آخر: «يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي» سبحان الله..! لا يبالي مهما كان عظم ذنبه..! فأين المستغفرون..؟! وأين الأوّابون..؟! وأين التائبون..؟! فيكفي أن تُقبل على الله وأن تطرق باب الكريم الودود، فلا يردك أبداً، ولا يخيّبك أبداً، فالله، عز وجل، منه المفر وإليه الملجأ، كما جاء في دعائه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك». (1رواه مسلم، 486)

فنخاف من الله، لأننا أذنبنا، وأسرفنا على أنفسنا بالمعاصي، فماذا نفعل..؟ نلجأ إلى الله، فمنه المهرب وإليه الملجأ، فلا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك يا رب العالمين.

فهكذا يفتح الله، سبحَانَه وتعالى وهو الغني الحميد الباب أمام العباد الفقراء المحتاجين العاجزين أنْ هلمّوا، وتعالوا إلى الفضل والرحمة والمغفرة، وتعالوا إلى الله بقلوب مؤمنة مستغفرة تائبة، فعندها يُبدِّلُ الله سيئاتكم حسنات.

فالله لا يرد من أتاه ـ سبحانه وتعالى ـ ولا يخيب من رجاه، وهل هناك أكرم من الله عز وجل..؟! فلو تخلَّى الله عن هذا التائب العائد إلى الله، فإلى من يعود..؟! وإلى من يلجأ..؟! لا إلى أحد، فهذا من سعة فضل الله ومن سعة كرمه، جل وعلا، فهو يبسُط يديه بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ومع ذلك أين العباد من هذا..؟! نجد أن أكثر الناس غافلون، لاهُون، منغمسون في دنياهم، لا يقول أحدهم: “رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين”، كم من المؤمنين من يستغفر الله..! ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ:13].

فكيف بالكافرين وهم أكثر من المسلمين، الذين لا يستغفرون الله تبارك وتعالى، ولا يرجون اليوم الآخر..؟! ولذلك يلقَوْنَه وأوزارهم على ظهورهم، وتُعجل لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا، ولا يظلم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أحداً، فما عملوا من عملٍ، فيه إحسان أو خير، إلا عجّل لهم الجزاء به في الحياة الدنيا، من عافية ومالٍ، وزيادةٍ في النماء، والذكر عند الناس، لكنهم يلقون الله وليس لهم عنده شيء.

أما المؤمن الذي يرجو لقاء الله، فإنه يستغفر الله، سبحانه وتعالى، ويعلم أنه مذنب، والاستغفار لتضمنه الافتقار إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والانكسار والذل والخضوع له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ كان بهذه المثابة العظيمة، وكان هذا موقفه مع الذنوب.

والمهم أن يكون المستغفر مستغفراً حقاً، وأن يكون صادقاً في أوبته إلى الله تبارك وتعالى، وأن يكون راجياً طالباً لذلك، وينظر إلى ذنبه، وكأنه جبل يوشك أن يقع عليه.

فهذا هو استغفار عباد الله الصالحين: «يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم».

خاتمة

إذا تدبرت الحديث وجدته مترجما عن كلمات إبراهيم عليه السلام، وهو يقول ﴿وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾ (الشعراء: 79-82) فقوام البدن ودفع الشرور عنه بيد الله، وهداية القلوب ودفع الشر عنها ـ وهو شر الذنوب ـ بيد الله تعالى، والله تعالى هو الصمد، الذي يتوجه اليه كل داعٍ بدعائه وكل طالب بما طلب.

…………………………………

هوامش:

  1. رواه مسلم، 486.

المصدر:

  • المكتبة الشاملة. محاضرة مفرغة للدكتور/ سفر الحوالي بتصرف يسير.  

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة