میزان الله؛ الميزان الذي توزن به القيم والاعتبارات، ويقدر به الناس والأوضاع..فالكريم من أكرمه الله، والمهان من أهانه سبحانه .

ميزان التكريم والإهانة

ويحسن التذكير بخاصتين كبيرتين من خصائص الميزان الإلهي وهما اللتان تمیزانه عن موازین البشر وتفردانه بالكمال والجمال، والشمول والثبات، ألا وهما:

١۔ توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات .

٢- الإيمان باليوم الآخر.

وإن أي خلل واعوجاج في موازين البشر إنما منشؤه فقدُ هاتين الخاصتين، أو الغفلة عنهما وعدم جعلهما مصدرا للنظر والوزن والحكم على الأشياء.

موازين الجاهلية في التكريم والإهانة

نبدأ ببعض ما ذكره الله في كتابه من موازين الجاهلية المنكرة في التكريم والإهانة، ثم نتبعها ببعض ما ضمنه الله عز وجل في كتابه من ميزانه الحق المستقيم في حقيقة التكريم والإهانة.

* (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة : 247] .

* وقال سبحانه: (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) [سبأ: 35].

* وقال تعالى: (وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) [الزخرف: 51 – 53].

* وقال سبحانه: (فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ۖ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [القصص: 79].

* وقال سبحانه: ( فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا ۖ بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ) [الفجر: 15 –17].

* وقال سبحانه عن قوم نوح عليه السلام: (فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ) [هود: 27].

ومن خلال الآيات السابقة تتضح لنا بجلاء موازين الجاهلية في التكريم والإهانة، حيث إنها تقوم على معايير الدنيا وأعراضها الزائلة ؛ فالمكرم في هذه الموازين هو الحائز على نصيب كبير من الدنيا ؛ سواء كان ذلك مالا، أو جاها وحسبا، أو رئاسة، أو أولادا وقوة وسلطانا، أو غيرها من أعراض الدنيا الزائلة .

میزان الله عز وجل في التكريم والإهانة

فإنه يقوم على أن الكريم من أكرمه الله ، والمهان من أهانه سبحانه . ومن أهانه الله فلا مكرم له ؛ قال سبحانه: (وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) [الحج: 18]. والله لا يكرم إلا أهل توحيده وتقواه ، ومن سواهم فهو المهان الوضيع. ومن الآيات الواردة في ذلك:

إن أكرمكم عند الله أتقاكم

قوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات: 13].

يقول الإمام ابن کثیر – رحمه الله تعالى – عند هذه الآية: (يقول تعالى مخبرا الناس أنه خلقهم من نفس واحدة، وجعل منها زوجها – وهما آدم وحواء – وجعلهم شعوبا – وهي أعم من القبائل – وبعد القبائل مراتب أخر؛ كالفصائل، والعشائر، والعمائر، والأفخاذ، وغير ذلك، وقيل: المراد بالشعوب بطون العجم، وبالقبائل بطون العرب، كما أن الأسباط بطون بني إسرائيل.

وقد لخصت هذا في مقدمة مفردة جمعتها من كتاب الأشباه لأبي عمر بن عبد البر، ومن كتاب «القصد والأمم في معرفة أنساب العرب والعجم» ، فجميع الناس في الشرف بالنسبة الطينية إلى آدم وحواء سواء، وإنما يتفاضلون بالأمور الدينية، وهي طاعة الله تعالى، ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال تعالي بعد النهي عن الغيبة واحتقار بعض الناس بعضا منبها على تساويهم في البشرية: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات: 13] أي: ليحصل التعارف بينهم كل يرجع إلى قبيلته. وقوله تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) أي: إنما تتفاضلون عند الله تعالی بالتقوى لا بالأحساب)1(1) تفسير ابن كثير4/217..

القيم الحقيقية التي يوزن بها الناس

ويربط سيد قطب – رحمه الله تعالى – بين هذه الآية والآيات التي قبلها، فيقول عند قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات:11]: «وفي التعبير إيحاء خفي بأن القيم الظاهرة التي يراها الرجال في أنفسهم، ويراها النساء في أنفسهن ليست هي القيم الحقيقية التي يوزن بها الناس . فهناك قيم أخرى، قد تكون خافية عليهم، يعلمها الله ، ويزن بها العباد. وقد يسخر الرجل الغني من الرجل الفقير، والرجل القوي من الرجل الضعيف، والرجل السوي من الرجل المؤوف، وقد يسخر الذكي الماهر من الساذج الخام، وقد يسخر ذو الأولاد من العقيم، وذو العصبية من اليتيم… وقد تسخر الجميلة من القبيحة، والشابة من العجوز، والمعتدلة من المشوهة، والغنية من الفقيرة .. ولكن هذه وأمثالها من قيم الأرض ليست هي المقياس؛ فميزان الله يرفع ويخفض بغیر هذه الموازين)2(2) في ظلال القرآن 6/3344 ..

لواء واحد وراية واحدة

ثم يقول عند قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ …) الآية: (يا أيها الناس، يا أيها المختلفون أجناسا وألوانا، المتفرقون شعوبا وقبائل: إنكم من أصل واحد؛ فلا تختلفوا ولا تتفرقوا ولا تتخاصموا ولا تذهبوا بددا .

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ) والذي يناديكم هذا النداء هو الذي خلقكم من ذكر وأنثى، وهو يطلعكم على الغاية من جعلكم شعوبا وقبائل ؛ إنها ليست التناحر والخصام، إنما هي التعارف والوئام. فأما اختلاف الألسنة والألوان، واختلاف الطباع والأخلاق، واختلاف المواهب والاستعدادات، فتنوع لا يقتضي النزاع والشقاق، بل يقتضي التعاون للنهوض بجميع التكاليف، والوفاء بجميع الحاجات، وليس للون والجنس واللغة والوطن وسائر هذه المعاني من حساب في ميزان الله. إنما هناك میزان واحد تتحدد به القيم، ويعرف به فضل الناس: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) … والكریم حقا هو الكريم عند الله . وهو يزنكم عن علم، وعن خبرة بالقيم والموازين: (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).

وهكذا تسقط جميع الفوارق، وتسقط جميع القيم، ويرتفع میزان واحد بقيمة واحدة ، وإلى هذا الميزان يتحاكم البشر، وإلى هذه القيمة يرجع اختلاف البشر في الميزان.

وهكذا تتوارى جميع أسباب النزاع والخصومات في الأرض، وترخص جميع القيم التي يتكالب عليها الناس، ويظهر سبب ضخم واضح للألفة والتعاون: ألوهية الله للجميع، وخلقهم من أصل واحد. كما يرتفع لواء واحد يتسابق الجميع ليقفوا تحته: لواء التقوى في ظل الله . وهذا هو اللواء الذي رفعه الإسلام لينقذ البشرية من عقابیل العصبية للجنس، والعصبية للأرض، والعصبية للقبيلة، والعصبية للبيت، وكلها من الجاهلية وإليها ؛ تتزيا بشتی الأزياء، وتسمى بشتى الأسماء، وكلها جاهلية عارية من الإسلام!

وقد حارب الإسلام هذه العصبية الجاهلية في كل صورها وأشكالها ؛  ليقيم نظامه الإنساني العالمي في ظل راية واحدة: راية الله .. لا راية الوطنية ، ولا راية القومية، ولا راية البيت، ولا راية الجنس؛ فكلها رايات زائفة لا يعرفها الإسلام)3(3) في ظلال القرآن 6/3348 ..

اعتبار عام وقيمة وحيدة: التقوى

ويقول في موطن آخر: (إن الميزان الذي أنزله الله للناس مع الرسل ليقوموا به القيم كلها هو: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) .. هذه هي القيمة الوحيدة التي يرجح بها وزن الناس أو يشيل! وهي قيمة سماوية بحتة، لا علاقة لها بمواضعات الأرض وملابساتها إطلاقا.

ولكن الناس يعيشون في الأرض، ويرتبطون فيما بينهم بارتباطات شتی ؛ كلها ذات وزن، وذات ثقل، وذات جاذبية في حياتهم. وهم يتعاملون بقيم أخرى؛ فيها النسب، وفيها القوة، وفيها المال. وفيها ما ينشأ عن توزيع هذه القيم من ارتباطات عملية .. اقتصادية وغير اقتصادية .. تتفاوت فيها أوضاع الناس بعضهم بالنسبة لبعض. فيصبح بعضهم أرجح من بعض في موازين الأرض.

ثم يجيء الإسلام ليقول: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) ، فيضرب صفحا عن كل تلك القيم الثقيلة الوزن في حياة الناس، العنيفة الضغط على مشاعرهم ، الشديدة الجاذبية إلى الأرض، ويبدل من هذا كله تلك القيمة الجديدة المستمدة مباشرة من السماء، المعترف بها وبدورها في ميزان السماء)4(4) في ظلال القرآن 6/3823-3824..

ويقول شيخ الإسلام – رحمه الله تعالى -: (فالاعتبار العام هو التقوى؛ كما قال تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13]. فكل من كان أتقى كان أفضل مطلقا، وإذا تساوی اثنان في التقوی استويا في الفضل، سواء كانا – أو أحدهما – غنيين أو فقيرين، أو أحدهما غنيا والآخر فقيرا، وسواء كانا أو أحدهما عربيين أو أعجميين، أو قرشيين، أو هاشميين، أو كان أحدهما من صنف والآخر من صنف آخر. وإن قدر أن أحدهما له من سبب الفضيلة ومظنتها ما ليس للآخر، فإذا كان ذاك قد أتي بحقيقة الفضيلة كان أفضل ممن لم يأت بحقيقتها، وإن كان أقدر على الإتيان بها؛ فالعالم خير من الجاهل، وإن كان الجاهل أقدر على تحصيل العلم، والبر أفضل من الفاجر، وإن كان الفاجر أقدر على البر، والمؤمن الضعيف خير من الكافر القوي، وإن كان ذاك يقدر على الإيمان أكثر من المؤمن القوي، وبهذا تزول شبه كثيرة تعرض في مثل هذه الأمور)5(5) منهاج السنة 4/608 ..

الإكرام والإهانة لا يدوران على المال وسعة الرزق وتقديره

قوله تعالى: (فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا ۖ بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) [الفجر: 15 -17].

يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى – عند هذه الآية: (أي ليس كل من أعطيته ونعمته وخولته فقد أكرمته، وما ذاك لكرامته علي، ولكنه ابتلاء مني، وامتحان له: أيشكرني فأعطيه فوق ذلك؟ أم يكفرني فأسلبه إياه ، وأخول فيه غيره؟ وليس كل من ابتليته فضيقت عليه رزقه، وجعلته بقدر لا يفضل عنه ، فذلك من هوانه علي، ولكنه ابتلاء وامتحان مني له: أيصبر؟ فأعطيه أضعاف أضعاف ما فاته من سعة الرزق، أم يتسخط؟ فيكون حظه السخط..

فرد الله سبحانه على من ظن أن سعة الرزق إكرام، وأن الفقر إهانة ، فقال: لم أبتل عبدي بالغنى لكرامته علي، ولم أبتله بالفقر لهوانه علي. فأخبر أن الإكرام والإهانة لا يدوران على المال وسعة الرزق وتقديره ؛ فإنه سبحانه يوسع على الكافر لا لكرامته، ويقدر على المؤمن لا لإهانته. إنما يكرم من يكرمه بمعرفته ومحبته وطاعته، ويهين من يهينه بالإعراض عنه ومعصيته. فله الحمد على هذا وعلى هذا، وهو الغني الحميد)6(6) مدارج السالكين 1/ ۰80.

قيمة العبد عند الله عز وجل

ويقول سید قطب – رحمه الله تعالى – عند هذه الآية: (فهذا هو تصور الإنسان لما يبتليه الله به من أحوال، ومن بسط وقبض، ومن توسعة وتقدير ؛ يبتليه بالنعمة والإكرام بالمال أو المقام فلا يدرك أنه الابتلاء تمهيدا للجزاء؛ إنما يحسب هذا الرزق وهذه المكانة دليلا على استحقاقه عند الله للإكرام، وعلامة على اصطفاء الله له واختياره … ويقيس الكرامة عند الله بعرض هذه الحياة ! ويبتليه بالتضييق عليه في الرزق، … ويرى في ضيق الرزق مهانة عند الله؛ فلو لم يرد مهانته ما ضيق عليه رزقه .

وهو في كلتا الحالتين مخطئ في التصور، ومخطئ في التقدير؛ فبسط الرزق أو قبضه ابتلاء من الله لعبده ؛ ليظهر منه الشكر على النعمة أو البطر ، ويظهر منه الصبر على المحنة أو الضجر. والجزاء على ما يظهر منه بعد، وليس ما أعطي من عرض الدنيا أو منع هو الجزاء.. وقيمة العبد عند الله لا تتعلق بما عنده من عرض الدنيا . ورضي الله أو سخطه لا يستدل عليه بالمنح والمنع في هذه الأرض؛ فهو يعطي الصالح والطالح، ويمنع الصالح والطالح. ولكن ما وراء هذا وذاك هو الذي عليه المعول؛ إنه يعطي ليبتلي، ويمنع ليبتلي، والمعول عليه هو نتيجة الابتلاء!

غير أن الإنسان – حين يخلو قلبه من الإيمان – لا يدرك حكمة المنع والعطاء، ولا حقيقة القيم في ميزان الله .. فإذا عمر قلبه بالإيمان اتصل وعرف ما هنالك، وخفت في ميزانه الأعراض الزهيدة، وتيقظ لما وراء الابتلاء من الجزاء، فعمل له في البسط والقبض سواء، واطمأن إلى قدر الله به في الحالين، وعرف قدره في ميزان الله بغير هذه القيم الظاهرة الجوفاء !)7(7) في ظلال القرآن 6/3905 باختصار..

ميزان القرب والبعد من الله عز وجل

(وَمَآ أَمْوَٰلُكُمْ وَلَآ أَوْلَٰدُكُم بِٱلَّتِى تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰٓ إِلَّا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحًا فَأُوْلَٰٓئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ ٱلضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِى ٱلْغُرُفَٰتِ ءَامِنُونَ) [سبأ:37].

قال ابن القيم – رحمه الله تعالى -: (أي لا قريب عنده إلا من آمن وعمل صالحا – سواء كان له مال وولد أو لم يكن له – والانقطاع فيه أظهر ؛ فإنه تعالى نفي قرب الناس إليه بأموالهم وأولادهم، وأثبت قربهم عنده بإيمانهم وعملهم الصالح، فتقدير (لكن) ها هنا أظهر من تقدير الاتصال في هذا الاستثناء)8(8) بدائع الفوائد 3/ 579..

ميزان السماء حين يتجرد من كل الاعتبارات والضغوطات الأرضية

قوله سبحانه: (عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ *  أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَىٰ * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَىٰ * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّىٰ * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَىٰ * وَهُوَ يَخْشَىٰ * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ * كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ) [عبس:1-11].

يقول سید قطب – رحمه الله تعالى – عند هذه الآيات: (يجيء هذا الرجل الأعمى الفقير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشغول بأمر هؤلاء النفر – لا لنفسه ولا لمصلحته، ولكن للإسلام ولمصلحة الإسلام – فلو أسلم هؤلاء لانزاحت العقبات العنيفة والأشواك الحادة من طريق الدعوة في مكة ، ولانساح بعد ذلك الإسلام فيما حولها، بعد إسلام هؤلاء الصناديد الكبار.. يجيء هذا الرجل فيقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: یا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله.

ويكرر هذا وهو يعلم تشاغل الرسول صلى الله عليه وسلم بما هو فيه من الأمر. فيكره الرسول قطعه لكلامه واهتمامه، وتظهر الكراهية في وجهه – الذي لا يراه الرجل – فيعبس ويعرض؛ يعرض عن الرجل المفرد الفقير الذي يعطله عن الأمر الخطير؛ الأمر الذي يرجو من ورائه لدعوته ولدينه الشيء الكثير، والذي تدفعه إليه رغبته في نصرة دينه، وإخلاصه لأمر دعوته، وحبه لمصلحة الإسلام، وحرصه على انتشاره!

… وهنا يجيء العتاب من الله العلي الأعلى لنبيه الكريم، صاحب الخلق العظيم، في أسلوب عنف شديد. وللمرة الوحيدة في القرآن كله يقال للرسول الحبيب القريب: (کلا!). وهي كلمة ردع وزجر في الخطاب! ذلك أنه الأمر العظيم الذي يقوم عليه هذا الدين !

… هذا هو المیزان: میزان الله ؛ الميزان الذي توزن به القيم والاعتبارات، ويقدر به الناس والأوضاع.. وهذه هي الكلمة: كلمة الله ؛ الكلمة التي ينتهي إليها كل قول، وكل حکم، وكل فصل.

وأين هذا؟ ومتى؟ في مكة، والدعوة مطاردة، والمسلمون قلة. والتصدي للكبراء لا ينبعث من مصلحة ذاتية، والانشغال عن الأعمى الفقير لا ينبعث من اعتبار شخصي، إنما هي الدعوة أولا وأخيرا. ولكن الدعوة إنما هي في هذا الميزان، وإنما هي هذه القيم، وقد جاءت لتقرر هذا الميزان وهذه القيم في حياة البشر. فهي لا تعز، ولا تقوى، ولا تنصر، إلا بإقرار هذا الميزان وهذه القيم.

ثم إن الأمر – كما تقدم – أعظم وأشمل من هذا الحادث المفرد، ومن موضوعه المباشر. إنما هو أن يتلقى الناس الموازين والقيم من السماء، لا من الأرض، ومن الاعتبارات السماوية لا من الاعتبارات الأرضية: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) والأكرم عند الله هو الذي يستحق الرعاية والاهتمام والاحتفال، ولو تجرد من كل المقومات والاعتبارات الأخرى، التي يتعارف عليها الناس تحت ضغط واقعه الأرضي ومواضعاتهم الأرضية . النسب والقوة والمال.. وسائر القيم الأخرى، لا وزن لها حين تتعرى عن الإيمان والتقوى. والحالة الوحيدة التي يصح لها فيها وزن واعتبار هي حالة ما إذا أنفقت لحساب الإيمان والتقوی)9(9) في ظلال القرآن 6/3824 باختصار..

بعض الأحاديث الواردة في بيان الميزان الإلهي للتكريم

الحديث الأول

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الناس أكرم؟ فقال: «أتقاهم» . فقالوا: ليس عن هذا نسألك . قال: «فيوسف نبي الله ابن يعقوب نبي الله ابن إسحاق نبي الله ابن إبراهيم خليل الله»، قالوا : ليس عن هذا نسألك . قال: «أفعن معادن العرب تسألوني؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا»10(10) البخاري (3353) ، مسلم (2378)..

  الحديث الثاني

عن أبي نضرة، حدثني من سمع خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسط أيام التشريق فقال: «يا أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى ، أبلغت؟». قالوا: بلغ رسول الله… الحديث11(11) رواه أحمد في المسند 5/ 414، وقال الساعاتي في الفتح الرباني 12/227: أورده الهيثمي في المجمع وقال: رجاله رجال الصحيح ..

الحديث الثالث

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا إلى صوركم، ولكنه ينظر إلى قلوبكم، وأشار بأصابعه إلى صدره»12(12) مسلم (2564)..

الحديث الرابع

عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أنه قال: «مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لرجل عنده جالس: «ما رأيك في هذا؟» فقال: رجل من أشراف الناس؛ هذا والله حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع. قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم مر رجل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما رأيك في هذا؟» فقال: يا رسول الله: هذا رجل من فقراء المسلمين ؛ هذا حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يسمع لقوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا خير من ملء الأرض مثل هذا»13(13) البخاري (6447) ..

الحديث الخامس

عن ابن عمر – رضي الله تعالی عنهما – «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم فتح مكة فقال: «يا أيها الناس، إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وتعاظمها بآبائها؛ فالناس رجلان: بر تقي کريم على الله، وفاجر شقي هين على الله، والناس بنو آدم، وخلق الله آدم من تراب ؛ قال الله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات: 13]»14(14) الترمذي (3270)، وابن حبان في صحيحه (الإحسان9/137-(3828))..

الهوامش

(1) تفسير ابن كثير4/217.

(2) في ظلال القرآن 6/3344 .

(3) في ظلال القرآن 6/3348 .

(4) في ظلال القرآن 6/3823-3824.

(5) منهاج السنة 4/608 .

(6) مدارج السالكين 1/ ۰80

(7) في ظلال القرآن 6/3905 باختصار.

(8) بدائع الفوائد 3/ 579.

(9) في ظلال القرآن 6/3824 باختصار.

(10) البخاري (3353) ، مسلم (2378).

(11) رواه أحمد في المسند 5/ 414، وقال الساعاتي في الفتح الرباني 12/227: أورده الهيثمي في المجمع وقال: رجاله رجال الصحيح .

(12) مسلم (2564).

(13) البخاري (6447) .

(14) الترمذي (3270)، وابن حبان في صحيحه (الإحسان9/137-(3828)).

اقرأ أيضا

خصائص الميزان الإلهي

الميزان الحق في الأقوال والأعمال والأخلاق

ميزان الحياة والموت

 

التعليقات غير متاحة