العدل والإنصاف أساس في هذا الدين، واعتبار الحسنات والسيئات، وسوابق الخير، وجمع الحسنات والسيئات، واعتبار كثرة الفضائل، والعذر بالاجتهاد، هي أدوات للمسلم الناظر في التاريخ.
اعتبارات عادلة
لمناهج التاريخ طرق للتقييم والتفسير والوحي أوثق الطرق للإثبات والتفسير (المقال الأول) وتأثير العقيدة والمبدأ في حركة التاريخ الاسلامي وخاصة تاريخ الأولين (المقال الثاني) وللنفوس عوامل متداخل يجب أن ينفرد أحدها بالتفسير، ولمقادير الرجال وتاريخهم ومواقفهم تأثيرها (المقال الثالث)، وفي هذا المقال بيان قواعد استكمال لبقية القواعد التي يحتاجها الناظر في التاريخ عموما، وفي التاريخ الاسلامي على وجه الخصوص.
القاعدة السادسة
الكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل وإنصاف
والأصل في هذه القاعدة قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (المائد:8).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
“والكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل، وليس بجهل وظلم كحال أهل البدع”. (1)
ويدخل ضمن هذه القاعدة “العدل في وصف الآخرين”، والمقصود به هو العدل في ذكر المساوئ والمحاسن والموازنة بينها.
فمن المعلوم أن أحداً لا يَسلم من الخطأ لقول النبي: «كل بني آدم خطاء» (2)، ولذلك ينبغي للمسلم إذا وصف غيره ألا يغفل المحاسن لوجود بعض المساوئ، كما لا ينبغي أن يدفن المحاسن ويذكر المساوئ لوجود عداوة أو شحناء بينه وبين من يصفه، فالله، عز وجل، أدّبنا بأحسن الأدب وأكمله بقوله: ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾ (هود:85).
وحين نجد من يذمّ غيره بذكر مساوئه فقط، ويغضّ النظر عن محاسنه؛ فإن ذلك يرجع في العادة إلى الحسد والبغضاء، أو إلى الظنون والخلفيات والآراء المسبقة، أو إلى التنافس المذموم ولكن المنصفين هم الذين يذكرون المرء بما فيه من خير أو شر ولا يبخسونه حقه، ولو كان الموصوف مخالفاً لهم في الدين والاعتقاد أو في المذهب والانتماء.
مثال للتوازن والإنصاف
ومن العلماء الذين برزوا في هذا الشأن الحافظ الذهبي ـ رحمه الله ـ فمن خلال كتابه النفيس “سير أعلام النبلاء” أنصف من ترجم لهم من الأعلام فلم يبخس أهل البدع أو الفسق ما لهم من صفات جيدة، بل أنصفهم بذكر ما لهم وما عليهم، يقول ـ مثلا ـ في ترجمة الحكم بن هشام:
“وكان من جبابرة الملوك وفُساقهم ومتمرديهم، وكان فارساً شجاعاً، فاتكاً ذا دهاء وعتو وظلم، تملك سبعاً وعشرين سنة”. (3)
وقال عن عبد الوارث بن سعيد:
“وكان عالماً مجوّداً، ومن أهل الدين والورع، إلا أنه قدري مبتدع”. (4)
ومنهج الذهبي هذا في “العدل والإنصاف في وصف الآخرين” منهج علمي دقيق، وهو منهج أهل السنة والجماعة في حكمهم على غيرهم، ولذلك ينبغي لكل من رام الإنصاف أن لا يحيد عن هذا المنهج السوي المعتبر، وأن يتقي الله، عز وجل، في وصف من يترجم لهم، أو يتحدث عنهم من الحكام والقادة والعلماء والفقهاء والإخباريين والمؤرخين وغيرهم، ويتكلم بعدل وإنصاف.
وكذلك الإمام ابن القيم وموقفه من الشيخ الهروي رحمه الله، ومواقفه أمام زلاته أو أخطائه فيقول:
«شيخ الإسلام حبيب إلينا، والحق أحب إلينا منه، وكل من عدا المعصوم ﷺ فمأخوذ من قوله ومتروك، ونحن نحمل كلامه على أحسن محامله، ثم نبين ما فيه». (5)
«وقال في نفس المنزلة وهو يرد على كلام الهروي في تركه للأسباب: «ولولا أن حق الحق أوجب من حق الخلق لكان في الإمساك فسحة ومتسع». (6)
وقال في منزلة التوبة بعد أن رد على الهروي زلته: «ولا توجب هذه الزلة من شيخ الإسلام إهدار محاسنه وإساءة الظن به؛ فمحله من العلم والإمامة والمعرفة والتقدم في طريق السلوك المحل الذي لا يُجَهل، وكل أحد فمأخوذ من قوله ومتروك إلا المعصوم صلوات الله وسلامه عليه…». (7)
القاعدة السابعة
العبرة بكثرة الفضائل
فإن الماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث، وكذلك من غلبت فضائلُه هفواته اغتفر له ذلك، وفي هذا الصدد يقول الحافظ الذهبي:
“وإنما العبرة بكثرة المحاسن”. (8)
وهذه القاعدة جليلة تُعدّ بمثابة منهج صحيح في الحكم على الناس لأن كل إنسان لا يَسلم من الخطأ، لكن من قل خطؤه وكثر صوابه فهو على خير كثير، والإنصاف يقتضي أن يُغتفر للمرء الخطأ القليل في كثير صوابه.
ومنهج أهـل السنة هو “اعتبار الغالب على المرء من الصواب أو الخطأ” والنظر إليه بعين الإنصاف.
وهناك قاعدة أخرى يمكن اعتبارها في هذا الباب وهي “العبرة بكمال النهاية لا بنقص البداية”. (9)
القاعدة الثامنة
إحالة الحوادث على الخطأ في الاجتهاد
أما أن المجتمع الإسلامي يسير على السنن الطبيعية لكل المجتمعات، فهذا حق، ونحن لا نعصم فرداً أو مجتمعاً من أن تسري عليه هذه السنن، إلا أن يكون نبياً أو رسولاً.
ومن هنا يجب أن نعلم أن الذين صنعوا التاريخ رجالٌ من البشر يجوز عليهم الخطأ والسهو والنسيان وإن كانوا من كبار الصحابة وأجلائهم، إلا أنه ينبغي إحالة الحوادث إلى الخطأ في الاجتهاد، ونذكر ما ورد عنه، صلى الله عليه وسلم، من أن المجتهد المخطئ له أجر، والمصيب له أجران (10) فهو على كل حال مأجور، فلا ننقصه وقد آجره الله، كما أنه قد تشهد له دلائل وفضائل أخرى، وتشفع له مواقف ثابتة.
وعليه فإنه ينبغي للمسلم أن يرد كل خبر يطعن في عدالة الصحابة، وأن ينزه أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن الطمع والشح والغدر والخديعة والغفلة واللؤم والفسق والظلم والاستبداد وأكل الأموال بالباطل، وكل الأخلاق التي تطعن في العدالة وتعد من الفسق وخوارم المروءة.
وأنهم إن كانوا غير معصومين فهم عدول، وأن ما اجتهدوا فيه سواءً أتعلق بالدماء أم تعلق بالأموال فهم فيه مأجورون، وأنهم إن جازت عليهم المعاصي إلا أنهم يتوبون ويستغفرون فيتوب الله عليهم ويغفر لهم، وأن لهم فضل الصُحبة التي خُصوا بها، ونالوا بها من الفضل ما لم يدركه أحد بعدهم.
القاعدة التاسعة:
الطريقة المثلى في معالجة القضايا والأخطاء
يلزم دارس التاريخ أن يدرس “الظروف” التي وقعت فيها أحداثه، و”الحالة النفسية والاجتماعية والاقتصادية” التي اكتنفت تلك الأحداث، و”الأسباب” التي دفعت إلى ارتكاب الخطأ قبل أن يحكم عليه، حتى يكون حكمه أقرب إلى الصواب..
ونكتفي هنا بمثال واحد لبيان الطريقة المثالية في معالجة القضايا والأخطاء، ألا وهو موقف النبي، صلى الله عليه وسلم، من صنيع “حاطب بن أبي بلتعة” حين أرسل كتاباً مع امرأة من المشركين ليخبرهم بمسير الرسول، صلى الله عليه وسلم، إلى مكة.
ومن هذه الحادثة نستطيع أن نحدد ثلاث مراحل للمعالجة العادلة للخطأ أو الحادث:
المرحلة الأولى مرحلة “التثبت من وقوع الخطأ”
أو وقوع الحادث، وفي هذا الحادث تم التثبت عن طريق أوثق المصادر ألا وهو الوحي.
المرحلة الثانية مرحلة “التثبت وتبين الأسباب”
التي دفعت إلى ارتكاب الخطأ، وهذا الأمر متمثل في قوله، صلى الله عليه وسلم، لحاطب: «ما حملك على ما صنعت؟» (11).
وهذه المرحلة مهمة لأنه إذا تبين بعد طرح هذا السؤال أن هناك عذراً شرعياً في ارتكاب الخطأ تنتهي القضية عند هذا الحد، وإذا لم يكن العذر مقنعاً من الناحية الشرعية فإنه يصار إلى:
المرحلة الثالثة “جمع الحسنات والسيئات”
وفيها يتم جمع الحسنات والأعمال الخيّرة لمرتكب الخطأ وحشدها إلى جانب خطئه، فقد ينغمر هذا الخطأ أو هذه السيئة في بحر حسناته، وهذا الذي سلكه النبي، صلى الله عليه وسلم، مع حاطب حيث قال لعمر عندما استأذن في قتل حاطب: «أليس من أهل بدر؟»، ثم قال: «لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة أو غفرت لكم» (12).
النصَفة في الإسلام
لم يُغفل هذا الدين في منهجه القويم أن يكون منصفا للخلق، معتبرا لجميع جوانبهم ودوافعهم، ذاكرا لم فضائلهم وسوابق خيرهم، مفرّقا بين ما قصدوا فيه الى الباطل وما اجتهدوا فيه فأخطؤوا .. ذلكم منهج رب العالمين ودينه الذي أنزله الى الخلق.
فيجد كل إنسان نصَفته وعدله في هذا الدين؛ فلله الحمد.
وأوْلى الناس بهذا العدل وذِكْر أوصاف الفضل والخير هم الجيل الأول، أصحاب محمد.. صلى الله عليه وسلم، ورضي عنهم في الصالحين، وألحقنا تعالى بهم غير خزايا ولا مبدّلين.
………………………………………………………
الهوامش”
- ابن تيمية : منهاج السنة، ج 4،ص337.
- رواه أحمد في المسند، ج3،ص198.
- المصدر نفسه، ج8،ص254.
- المصدر نفسه، ج11،ص526-527.
- انظر مقدمة تحقيق مدارج السالكين لابن القيم، تحقيق الشيخ عبد العزيز ناصر الجُليّل.
- المصدر نفسه.
- المصدر نفسه.
- المصدر نفسه، ج 8،ص301.
- المصدر نفسه، ج20،ص46.
- ابن تيمية : منهاج السنة، ج 8،ص412.
- أخرجه البخاري في الجامع الصحيح، كتاب المغازي، ج 5،ص10.
- نفس المصدر.