يجب الحذر مما يطلقه الغربيون ويتابعهم عليه أبواقهم في بلادنا، فمصطلح “دور العبادة” يحتوي على مغالطات عقدية ومحاذير يجب التنبه لها.

مقدمة

انتشر هذه الأيَّام مصطلح “دُور العبادة” عبر البيانات الرسميَّة ومواقع التواصل الاجتماعي، ويعنون به المساجد والكنائس ومعابد اليهود والبوذيين وغيرهم. ولـمَّا كانت المصطلحات في كثير من الأحيان لها أثر بالغ في الثقافة اهتمَّ بها السَّاسة، فتجدهم يعتنون في اختيار المصطلحات التي تخدم أهدافهم ومصالحهم..

لوازم باطلة للمصطلح

هذا المصطلح له إيحاءات ودلالات خطيرة وباطلة شرعًا، فمنها:

1) إقرار الأديان الباطلة

إقرار ما عليه أهل الأديان الأخرى ـ أو إيهام ذلك ـ وما يمكن أن ينطوي عليه هذا الإقرار من تصحيح وقبول، مع أنَّ الله عزَّ وجلَّ يقول: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران:85].

وقد سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن الكنائس، هل تُسمَّى بيوت الله..؟

فأجاب:

“لَيْسَتْ بُيُوتَ اللَّهِ وَإِنَّمَا بُيُوتُ اللَّهِ الْمَسَاجِدُ. بَلْ هِيَ بُيُوتٌ يُكْفَرُ فِيهَا بِاَللَّهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُذْكَرُ فِيهَا فَالْبُيُوتُ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِهَا وَأَهْلُهَا كُفَّارٌ فَهِيَ بُيُوتُ عِبَادَةِ الْكُفَّارِ”. (1مجموع الفتاوى (22/ 162))

فتعميم عبارة (دُور العبادة) على المساجد التي يُعبد فيها الله وحده، ويُنزَّه فيها عن الشريك والولد، وعلى الدُور التي يُشرك فيها بالله، أو يُنسب له فيها الولد، هو تعميم باطل شرعًا، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَٰٓءِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [المائدة:72-73].

وقال تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [التوبة:30].

وأمَّا قول الله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا﴾ [الحج:40].

فهي كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة:62]؛ فالآية تقرِّر أنَّ من آمن بالله واليوم الآخر من هؤلاء جميعًا وعمل صالحًا فإنَّ لهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فالعبرة بصحَّة التوحيد والانقياد لله، لا بعصبيَّة جنس أو قوم… وذلك طبعًا قبل البعثة المحمديَّة التي نسخت جميع الشرائع السابقة.

قال الزَجَّاج:

“تأويل هذا: لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لـهُدِم ـ في كل شريعة نبي ـ المكان الذي يُصلَّى فيه، فلولا الدفع لـهُدِم في زمن موسى الكنائس التي كان يُصلَّى فيها في شريعته، وفي زمن عيسى الصوامع والبيع، وفي زمن محمد المساجد”. (2أحكام أهل الذمَّة (3/ 1168))

2) فصل العبادة عن مجالات الحياة

يُوحي هذا المصطلح بفصل العبادة عن مجالات الحياة المختلفة، وأنَّ العبادة تكون في المسجد، وليس هذا مفهوم العبادة الصحيح في الإسلام، فالمسجد تُؤدَّى فيه أنواع من العبادة مثل الصلاة وتلاوة القرآن وذكر الله..، وبقيَّة العبادات تُؤدَّى خارج المسجد في كلِّ مناحي حياة المسلم الفرديَّة والجماعيَّة، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:56] وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام:162-163].

فكما أنَّ الصلاة تكون لله وحده، وكما أنَّ النُّسك ـ أي: الذبح ـ يكون لله وحده، فكذلك محياي، أي: حياتي، تكون لله وحده، وذلك حين تكون حياتنا كلُّها وِفقَ منهج الله في كافَّة المجالات.

قال صلَّى الله عليه وسلم: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا». (3رواه البخاري في الأدب المفرد (479) وصححه الألباني)

وقال صـلى الله عليه وسلم: «..وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ». (4رواه مسلم (1006))

وقال تعالى في سياسة الحكم: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾ [المائدة:49].

وقال في سياسة المال: ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾ [الحشر:7] وقال: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة:275].

وقال في العلاقات الدولية: ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ [النساء:91].

وقال: ﴿لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ﴾ [الممتحنة:1].

وقال في مجال المرأة: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾ [الأحزاب:33].

وقال في مجال الإعلام: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء:83].

وقال: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾ [الأعراف:85]… إلخ.

فكلُّ هذه أنواع من العبادات تُمارَس في حياة المسلم، فإنَّ العبادة هي كلُّ ما أمر الله به أمر وجوب أو أمر استحباب، ولا تقتصر العبادة على المسجد.

وأمَّا كيف يكون مماتي لله، فهو أن يموت العبد على الإسلام، وأعلى ذلك أن يموت شهيدًا لإعلاء كلمة الله.

3) إسقاط العقيدة الحق

يُوحي هذا المصطلح بمبدأ الأخوة الإنسانيَّة، والذي يعني أنَّ بَنِي الإنسان لهم حقوق متساوية وعليهم واجبات متساوية بغضِّ النظر عن ديانتهم أو عقائدهم، ولا شكَّ أنَّ هذا معنى باطل، وأنَّ رابطة الأُخوة هي الإسلام والإيمان، كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات:10] وقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ﴾ [التغابن:2] وقال تعالى: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ﴾ [القلم:35] وقال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ [العنكبوت:21]. وقال تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [المجادلة:22].

فالرابطة التي تجمع الناس هي الإيمان بالله وطاعة الرسول، أي رابطة الإسلام، وليست الإنسانيَّة، ولا القوميَّة، ولا الوطنيَّة…

خاتمة

يجب توخي الدقة في اختيار المصطلحات وعدم الانجرار لما يطلقه الآخرون وترديده دون تمريره على المفاهيم والمضامين الشرعية. فكم من مصطلح يردده الناس دون سبر أغواره ودلائله.

اللهم أرنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتِّباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.

…………………………………

الهوامش:

  1. مجموع الفتاوى (22/ 162).
  2. أحكام أهل الذمَّة (3/ 1168).
  3. رواه البخاري في الأدب المفرد (479) وصححه الألباني.
  4. رواه مسلم (1006).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة