نعم الله تعالى تستوجب الشكر، وشكرها استعمالها في طاعة الله تعالى مع امتنان القلب والثناء باللسان. والبصر من أعظم النعم على العبد، وآفات معاصيه تصيب القلب مباشرة فيجب الحذر.

مقدمة

نعم الله تعالى غزيرة، وقيْدها بالشكر، وشكرها لا يتم إلا باستعمالها في طاعة الله تعالى مع اعتراف القلب وإقراره بأنها من الله وأن المنة له، مع الثناء على الله تعالى باللسان. والبصر من أعظم النعم على العبد ويظهر هذا جليا فيمن فقده فأظلمت الحياة في عينيه.

وعند المعصية بالعين يصاب القلب؛ فعلاقة العين بالقلب مباشرة فإنها تنقل اليه وهو يظهر فيها والبصير لا يخطيء في هذا.

ولهذا كانت هذه الجارحة محل تسلط من الشيطان وصرف الفتن اليها.

واليوم تعج الحياة في الحضارة المعاصرة بفتن مبناها على زخرفة الفتن للأعين، كزخرفة الأفكار الخادعة. الأولى للغواية والثانية للضلال، ولا يبالي الشيطان بأيهما ظفر، وفي كل منهما له جنده، وقد صارت كثير من النساء من جنده يستعملهم لإفساد الحياة والقلوب والمجتمعات وإفساد الطريق على الخلق.

يصور الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى تسلط الشيطان على ثغر العين ويحكي وصية الشيطان لجنوده بذلك بقوله:

“فامنعوا ثغر العين أن يكون نظره اعتبارًا، بل اجعلوا نظره تفرجًا واستحسانًا وتلهِّيًا، فإن استرق نظرُه عبرة، فأفسدوها عليه بنظرة الغفلة والاستحسان والشهوة، فإنها أقرب إليه وأعلق بنفسه، وأخفّ عليه، ودونكم ثغر العين، فإنه منه تنالون بغيتكم؛ فإني ما أفسدت بني آدم بشيء مثل النظر، فإني أبذر به في القلب بذر الشهوة، ثم أسقيه بماء الأمنية، ثم لا أزال أعِدُه وأمنِّيه حتى أقوِّي عزيمته، وأقوده بزمام الشهوة إلى الانخلاع من العصمة؛ فلا تهملوا أمر هذا الثغر، وأفسدوه بحسب استطاعتكم…». (1«الجواب الكافي» (ص135) ت: حسين عبد الحميد)

من أخطار وآثام البصر

ومن أخطر آثام البصر ـ والتي حصل فيها التهاون في هذه الأزمنة ـ ما يلي:

إطلاق البصر إلى ما حرم الله بالنظر إلى النساء الأجنبيات، أو إلى المردان من الغلمان.

قال الله تعالى: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾ [النور: 30-31].

ولقد حصل تساهُل كبير في هذا الأمر، وبخاصة في هذه الأزمنة التي تبرّجت فيها المرأة بشكل لم يَسبق له نظير، وأصبحت المرأة ومفاتنها تُعرض بصور متعددة، وتولى الإعلام الفاجر بشتَّى مجالاته المقروء والمشاهد كِبْر هذه المفاسد والفتن. ولم يسلم في هذا الزمان من فتن النظر إلى الأجنبيات وإلى صورهن إلا من رحم الله عز وجل، وبخاصة بعد ظهور القنوات الفضائية وشبكات «الإنترنت»، التي أقبل عليها كثير من الناس، ومنهم بعض أهل الخير الذين يريدون تقديم الخير من خلالها، فلا يلبث المتعامل مع هذه الأجهزة ومع مرور الوقت إلا أن يألف مناظر النساء، وشيئًا فشيئًا حتى يكون الأمر معتادًا.

بل إن الانفراد بهذه الأجهزة على هذه الحال، كمن يخلو بالمرأة الأجنبية؛ حيث يكون الشيطان ثالثهما، فكما تغري الخلوة بالمرأة بالفجور بها، فإن الخلوة بهذه الأجهزة تغري باقتحام المواقع التي فيها النساء الفاجرات من باب الفضول تارة، وتارة يبرر له الشيطان ذلك باستبانة سبيل المجرمين ورصد المواقع المفسدة..! فلا يلبث هذا المسكين أن يقع في شباك الشيطان، ولا يستطيع الصبر عن هذه المناظر، ولا يعلم إلا الله عز وجل مدى ما يترتب على ذلك من الفساد وضعف الإيمان والاستقامة. وهذا أمر حاصل فلقد سمعت أن بعض أهل الخير صارت زوجاتهم يلاحظن عليهم هذا التحول، وما يصاحبه من ضعف في الاستقامة والسلوك بعامة.

عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النظرة الفجاءة قال: «اصرف نظرك». (2مسلم برقم (2159) في الآداب، باب: نظرة الفجأة)

قال ابن الجوزي:

“وهذا لأن الأُولى لم يحضرها القلب، ولا يتأمل بها المحاسن، ولا يقع التلذذ بها، فمن استدامها مقدار حضور الذهن كانت الثانية في الإثم». (3«غذاء الألباب» (1/ 84))

خديعة التساهل

وقد تساهل الكثير منا بإطلاق بصره؛ حيث يرى أنها من الصغائر، أو أنه ينظر بدون شهوة! وهذا من تزيين الشيطان حتى يلقيه في حبائله، أَوَما علمنا أن الزنا مبدؤه من النظر.

قال الإمام المحقق ابن القيم في «الداء والدواء»:

“والنظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان؛ فإن النظرة تولد الخطرة، ثم تولد الخطرة فكرة، ثم تولد الفكرة شهوة، ثم تولد الشهوة إرادة، ثم تَقْوى فتصير عزيمة جازمة، فيقع الفعل ولا بد؛ ما لم يمنع مانع، وفي هذا قيل: «الصبر على غض الطرف أيسر من الصبر على ألمٍ بَعده».

وقال الشاعر:

كل الحوادث مبداها من النظرِ    ومعظم النار من مستصغر الشررِ

كم نظرة فتكت في قلب صاحبها  فتك السهام بلا قوس ولا وترِ

والعبد مادام ذا عين يقلبها    في أعين الغِيدِ موقوف على خطر

يسر ناظرَه ما ضر خاطرَه    لا مرحبًا بسرور عاد بالضرر  (4«غذاء الالباب» (1/84، 85، 86) (باختصار))

النظر في كتب الكفر والإلحاد والبدع، والفسق والمجون

وهذا أيضًا يعد من آثام البصر، ومخالفة لطريق أهل الاستقامة؛ حيث كانوا ينهون أشد النهي من النظر فيها للقراءة المجردة، لما تحتويه من الشبهات، والكفريات، والاستهزاء بالدين وأهله؛ فكل هذا لا يجوز النظر فيه إلا لعالِمٍ متمكّن مقصوده الرد على باطلها والتحذير منها.النظر في كتب الكفر والإلحاد والبدع، والفسق والمجون

ويلحق بذلك: النظر إلى مواقع أهل البدع والإلحاد في القنوات أو في شبكة (الإنترنت). وقُل مثل ذلك في النظر في كتب الجنس والمجون والخلاعة، والتي تثير الغرائز وتهيج الشهوات، وتؤدي إلى الوقوع في الفساد والفاحشة، وما أدى إلى الحرام فهو حرام.

ومع وضوح خطرها وآثارها السيئة، فإنا نجد في زماننا اليوم من هو مُغرم بجمعها والقراءة فيها، مع عدم القدرة على تفنيدها، والردّ عليها، بل إن الحاصل هو التأثر بشكل أو بآخر ببعض ما فيها مما يكون له الأثر السيئ على العقيدة أو السلوك والأخلاق.

وحجة من يفعل ذلك هو ضرورة الاطلاع على الفكر المُعادي، وفتح حرية القراءة والتفكير في هذا الزمان الذي لا تستطاع فيه العزلة وتغميض العينين..!

والعينان نعمة عظيمة من نعم الله عز وجل ينبغي ألا تُصرف إلا فيما ينفع صاحبَها في الآخرة، فكيف إذ صُرفت فيما لا ينفع بل فيما يضر.

النظر إلى المنكرات دون قدرة على تغييرها

وهذه أيضًا من مخالفات النظر؛ إذ قد يرى الإنسان منكرًا من المنكرات، ويبقى ينظر إليه ويحضر في مكانه مع عدم قدرته على التغيير. وهذا منكر إذ لا يجوز إطلاق البصر إلى معاصي الله تعالى دون تغيير وإنما المتعين في هذه الحالة تغيير المنكر، أو صرْف النظر عنه وهجْر مكانه، وهذه المخالفة يكثر وقوعُها في هذه الأزمنة التي تكثر فيها الاحتفالات البدعية بل الشركية، أو المهرجانات المملوءة باللعب والغناء والمجون، وقد يكون فيها من السحر والشعوذة ما يجذب الناس إليها، فكل هذا مما ينبغي صرف البصر عنه إلا لمغيِّرٍ له.

وتكثر هذه المخالفات في أسفار الناس وسياحاتهم.

الإكثار من النظر إلى متاع الدنيا وزخرفها

والفتنة بمد البصر إلى ترف المساكن والمآكل والمراكب، والاهتمام بذلك والولوع بالنظر إليه.

وهذا وإن كان في ذاته ليس بمحرم، إلا أن إدامة النظر إلى أحوال أهل الترف يصرف عن الآخرة، وقد يوقع الناظر فيها في المحرم، أو تكليف نفسه بما لا تطيق مسايرةً لأهل الدنيا.

قال الله تعال لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ﴾ [طه: 131].

النظر إلى الناس نظرة شزر وحقد وتعالٍ.

وتتأكد حرمة هذه النظرة مع الوالدَيْن الذين يجب أن يكون النظر إليهما نظرة ود ورحمة وتواضع وإنكسار، قال الله تعالى: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الاسراء: 24].

غمز العين للسخرية واللمز

أو غمزهما للفساد والفاحشة كما يفعله أهل المجون والغزل.

نظر الرجل إلى عورة الرجل والمرأة إلى المرأة

سواء كان ذلك إلى العورة المغلظة أو التي دونها، ويلحق بذلك نظر الطبيب أو الطبيبة إلى عورة المريض التي لا ضرورة إلى النظر إليها، وهذا يحصل كثيرًا في المستشفيات وأثناء العمليات فليتنبه الطبيب المسلم إلى ذلك.

النظر إلى عورات البيوت

وقد جاء التغليظ في ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقئوا عينه». (5البخاري في الديات، باب (من اطلع في بيت قوم…)، ورواه مسلم (2158))، ويلحق بذلك الاطلاع على رسائلهم وكتاباتهم الخاصة التي لا يرضون باطلاع غيرهم عليها.

خاتمة

كل نعمة في ذاتها اختبار. ولا تتم لأحد نعمة إلا بالهداية الى شكرها واستعمالها في الطاعة فعندئذ تستقر للعبد نعمةً؛ وإلا انقلبت الى نقمة كمن بدّل نعمة الله كفرا، وكمن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته.

ما اتصل بالله تعالى ورضوانه كان محل دوام واستقرار في الدارين وما انقطع عن رضوان الله تعالى كان سببا في عذاب صاحبه. والسعيد من هداه الله تعالى الى شكره.

………………………………………

الهوامش:

  1. «الجواب الكافي» (ص135) ت: حسين عبد الحميد.
  2. مسلم برقم (2159) في الآداب، باب: نظرة الفجأة.
  3. «غذاء الألباب» (1/ 84).
  4. «غذاء الالباب» (1/ 84، 85، 86) (باختصار).
  5. البخاري في الديات، باب من اطلع في بيت قوم…، ورواه مسلم (2158).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة