مجاهدة النفس على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من صفات المجاهدين الذين عقدوا البيعة مع الله عز وجل.

جهاد البيان وتبليغ الناس الدين الحق

والدعوة واسعة ومجالاتها متعددة، لكن الحديث في هذه المرتبة سيكون عن الدعوة والبيان اللذين يسبقان جهاد السنان، ويمكن تسمية هذا النوع من الجهاد بجهاد البيان وتبليغ الناس الدين الحق، وتعليمهم توحيد الله عز وجل وحقيقة العبودية، ومعرفة الله عز وجل بأسمائه وصفاته وكيف يعبدونه بمعرفة الأحكام العينية كأركان الإسلام وما لا تقوم إلا به، كما أن مما لا يتم البلاغ والبيان إلا به بيان سبيل الكافرين والمجرمين، وبيان ما يناقض التوحيد والإسلام الحق، وتعرية أهله للناس·

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من صفات المجاهدين

إذن فإنه يمكن القول في هذه المرتبة بأنها مجاهدة النفس على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر· ولقد ذكر الله سبحانه في صفات المجاهدين الذين عقدوا البيعة مع الله عز وجل في قوله: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم) [التوبة:111] . ذكر من بين هذه الصفات أنهم: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّه) [التوبة:112] . والجهاد في حقيقته فرع عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الغاية من الجهاد – كما مر بنا – هي إعلاء كلمة الله عز وجل بعلو المعروف الأكبر وهو التوحيد وعبادة الله وحده، وإزهاق المنكر الأكبر وهو الشرك وأهله·

استفاضة البلاغ أولا

ولكن لما كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يبدأ بجهاد البيان والبلاغ للناس، وتعريفهم بحقيقة سبيل المؤمنين الموحدين، وحقيقة سبيل الكافرين والمجرمين، كان لزاما قبل جهاد الكفار والمرتدين أن يكون جهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تأخذ الدعوة حظها من البيان والتعريف للناس بحقيقة دين الإسلام وشموله، وحقيقة المنافقين والمجرمين الذين يتسلطون على الناس ويستعبدونهم، ويستخدمون في ذلك جميع الوسائل الإعلامية التي يسيطرون عليها في نشر باطلهم وثقافتهم والتلبيس على الناس بأنهم أصحاب حق وشرعية، وتشويه سمعة الدعاة الصادقين، ووصفهم بالتطرف والسعي إلى الفتنة والفساد، والخروج على الشرعية!!

والحديث هنا منصب على جهاد الطلب في واقع لم يستبن فيه الناس سبيل المؤمنين ولا سبيل المجرمين، وإنما الوضع عندهم ملتبس أو منعكس؛ بحيث ينظرون إلى المجرمين على أنهم مصلحون وإلى المؤمنين على أنهم مفسدون·

أما جهاد الدفع، ففي الغالب تكون فيه راية الكفر قد اتضحت، وكذلك راية المؤمنين الذين يدفعون العدو عنهم وعن المسلمين، فلا لبس حينئذ ولا فتنة، وأما جهاد الطلب فإن من يتخطى فيه جهاد البيان إلى جهاد السنان سيجد نفسه متورطا في مواجهة إخوانه المسلمين الذين يعيشون في ظل الأنظمة الكفرية التي لبس أمرها على الناس فلم يعرفوا المجاهدين ولم تصل إليهم حقيقة دعوتهم، وليس عندهم إلا ما يتلقونه من إعلام المجرمين من تضليل وعكس للحقائق·

استبانة سبيل المؤمنيين وسبيل المجرمين قبل المواجهة

وأما إذا أخذت الدعوة حظها من البيان والبلاغ، ووصل الحق إلى الناس وزال اللبس عنهم واتسعت قاعدة الدعوة، وحصل الحد الأدنى من تربية الناس على المفاهيم الصحيحة لهذا الدين وبيان حقيقة المجرمين المتسلطين، وبيان كفرهم وفسادهم؛ فإنه حينئذ يستطيع المجاهدون إذا ملكوا الحد الأدنى من القدرة المادية والإعداد الإيماني أن يواجهوا عدوهم الذي قد عرفوا الناس حقيقته وعرفوا حقيقة سبيل المؤمنين وأهدافهم النبيلة، فإذا اختار أحد من الناس سبيل المؤمنين أو سبيل المجرمين فإنه يكون قد اختاره عن علم ورضى واختيار، فحينئذ يزول الحرج الشرعي من قتال الكفار ومن هو في صفهم؛ لأن البينة قد تمت، والحجة قد قامت، وحينها يهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة·

حرص الدعاة على تعلم الهدى ودين الحق

وعندما يؤكد على أهمية العلم بسبيل المؤمنين وسبيل المجرمين وتعليمهم ذلك فإنه يفترض سلفا أن الدعاة والمجاهدين قد فهموا وعلموا سبيل المؤمنين والمجرمين قبل غيرهم؛ وإلا فكيف سيبينونه للناس وفاقد الشيء لا يعطيه· وقد مضى في المرتبة الأولى من مراتب جهاد النفس ذكر مجاهدتها على تعلم الهدى والدين الحق [مجاهدة النفس لتعلم الهدى ودين الحق]، ومعرفة ما يناقضه· وعلم أصحاب الحق بسبيل المجرمين ضروري في توقيه ومحاربته، والاندفاع الشديد لمجاهدته ومجاهدة أهله·

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (فإن كمال الإسلام هو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتمام ذلك بالجهاد في سبيل الله ومن نشأ في المعروف لم يعرف غيره فقد لا يكون عنده من العلم بالمنكر وضرره ما عند من علمه، ولا يكون عنده من الجهاد لأهله ما عند الخبير بهم، ولهذا يوجد الخبير بالشر وأسبابه إذا كان حسن القصد عنده من الاحتراز عنه ومنع أهله والجهاد لهم ما ليس عند غيره.

ولهذا كان الصحابة – رضي الله عنهم – أعظم إيمانا وجهادا ممن بعدهم، لكمال معرفتهم بالخير والشر، وكمال محبتهم للخير وبغضهم للشر، لما علموه من حسن حال الإسلام والإيمان والعمل الصالح، وقبح حال الكفر والمعاصي، ولهذا يوجد من ذاق الفقر والمرض والخوف أحرص على الغنى والصحة والأمن ممن لم يذق ذلك. ولهذا يقال: والضد يظهر حسنه الضد. ويقال: وبضدها تتبين الأشياء)1(1) مجموع الفتاوى: (10/301)..

وقريب مما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله تعالى قد أشار إليه سيد قطب رحمه الله عند قوله عز وجل: (وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) [الأنعام:55] وذلك بقوله: (إن هذا المنهج هو المنهج الذي قرره الله – سبحانه – ليتعامل مع النفوس البشرية .. ذلك أن الله سبحانه يعلم أن إنشاء اليقين الاعتقادي بالحق والخير يقتضي رؤية الجانب المضاد من الباطل والشر والتأكد من أن هذا باطل ممحض وشر خالص، وأن ذلك حق ممحض وخير خالص .. كما أن قوة الاندفاع بالحق لا تنشأ فقط من شعور صاحب الحق أنه على الحق ولكن كذلك من شعوره بأن الذي يحاده ويحاربه إنما هو على الباطل .. وأنه يسلك سبيل المجرمين الذين يذكر الله في آية أخرى أنه جعل لكل نبي عدوا منهم: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ) .. ليستقر في نفس النبي ونفوس المؤمنين، أن الذين يعادونهم إنما هم المجرمون عن ثقة، وفي وضوح، وعن يقين.

إن سفور الكفر والشر والإجرام ضروري لوضوح الإيمان والخير والصلاح. واستبانة سبيل المجرمين هدف من أهداف التفصيل الرباني للآيات. ذلك أن أي غبش أو شبهة في موقف المجرمين وفي سبيلهم ترتد غبشا وشبهة في موقف المؤمنين وفي سبيلهم. فهما صفحتان متقابلتان، وطريقان مفترقتان .. ولا بد من وضوح الألوان والخطوط ..

ومن هنا يجب أن تبدأ كل حركة إسلامية بتحديد سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين. يجب أن تبدأ من تعريف سبيل المؤمنين وتعريف سبيل المجرمين ووضع العنوان المميز للمؤمنين. والعنوان المميز للمجرمين، في عالم الواقع لا في عالم النظريات. فيعرف أصحاب الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية من هم المؤمنون ممن حولهم ومن هم المجرمون. بعد تحديد سبيل المؤمنين ومنهجهم وعلامتهم، وتحديد سبيل المجرمين ومنهجهم وعلامتهم. بحيث لا يختلط السبيلان ولا يتشابه العنوانان، ولا تلتبس الملامح والسمات بين المؤمنين والمجرمين ..

وهذا التحديد كان قائما، وهذا الوضوح كان كاملا، يوم كان الإسلام يواجه المشركين في الجزيرة العربية. فكانت سبيل المسلمين الصالحين هي سبيل الرسول – صلى الله عليه وسلم – ومن معه. وكانت سبيل المشركين المجرمين هي سبيل من لم يدخل معهم في هذا الدين .. ومع هذا التحديد وهذا الوضوح كان القرآن يتنزل وكان الله – سبحانه – يفصل الآيات على ذلك النحو الذي سبقت منه نماذج في السورة – ومنها ذلك النموذج الأخير – لتستبين سبيل المجرمين! وحيثما واجه الإسلام الشرك والوثنية والإلحاد والديانات المنحرفة المتخلفة من الديانات ذات الأصل السماوي بعد ما بدلتها وأفسدتها التحريفات البشرية .. حيثما واجه الإسلام هذه الطوائف والملل كانت سبيل المؤمنين الصالحين واضحة، وسبيل المشركين الكافرين المجرمين واضحة كذلك .. لا يجدي معها التلبيس! ولكن المشقة الكبرى التي تواجه حركات الإسلام الحقيقية اليوم ليست في شيء من هذا .. إنها تتمثل في وجود أقوام من الناس من سلالات المسلمين، في أوطان كانت في يوم من الأيام دارا للإسلام، يسيطر عليها دين الله، وتحكم بشريعته .. ثم إذا هذه الأرض، وإذا هذه الأقوام، تهجر الإسلام حقيقة، وتعلنه اسما.

وإذا هي تتنكر لمقومات الإسلام اعتقادا وواقعا. وإن ظنت أنها تدين بالإسلام اعتقادا! فالإسلام شهادة أن لا إله إلا الله .. وشهادة أن لا إله إلا الله تتمثل في الاعتقاد بأن الله – وحده – هو خالق هذا الكون المتصرف فيه. وأن الله – وحده – هو الذي يتقدم إليه العباد بالشعائر التعبدية ونشاط الحياة كله. وأن الله – وحده – هو الذي يتلقى منه العباد الشرائع ويخضعون لحكمه في شأن حياتهم كله .. وأيما فرد لم يشهد أن لا إله إلا الله – بهذا المدلول – فإنه لم يشهد ولم يدخل في الإسلام بعد. كائنا ما كان اسمه ولقبه ونسبه. وأيما أرض لم تتحقق فيها شهادة أن لا إله إلا الله – بهذا المدلول – فهي أرض لم تدن بدين الله، ولم تدخل في الإسلام بعد ..

وفي الأرض اليوم أقوام من الناس أسماؤهم أسماء المسلمين وهم من سلالات المسلمين. وفيها أوطان كانت في يوم من الأيام دارا للإسلام .. ولكن لا الأقوام اليوم تشهد أن لا إله إلا الله – بذلك المدلول – ولا الأوطان اليوم تدين لله بمقتضى هذا المدلول ..

وهذا أشق ما تواجهه حركات الإسلام الحقيقية في هذه الأوطان مع هؤلاء الأقوام! أشق ما تعانيه هذه الحركات هو الغبش والغموض واللبس الذي أحاط بمدلول لا إله إلا الله، ومدلول الإسلام في جانب وبمدلول الشرك وبمدلول الجاهلية في الجانب الآخر ..

أشق ما تعانيه هذه الحركات هو عدم استبانة طريق المسلمين الصالحين، وطريق المشركين المجرمين واختلاط الشارات والعناوين والتباس الأسماء والصفات والتيه الذي لا تتحدد فيه مفارق الطريق! ويعرف أعداء الحركات الإسلامية هذه الثغرة. فيعكفون عليها توسيعا وتمييعا وتلبيسا وتخليطا. حتى يصبح الجهر بكلمة الفصل تهمة يؤخذ عليها بالنواصي والأقدام! .. تهمة تكفير (المسلمين) !!!

ويصبح الحكم في أمر الإسلام والكفر مسألة المرجع فيها لعرف الناس واصطلاحهم، لا إلى قول الله ولا إلى قول رسول الله! هذه هي المشقة الكبرى .. وهذه كذلك هي العقبة الأولى التي لا بد أن يجتازها أصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل! يجب أن تبدأ الدعوة إلى الله باستبانة سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين .. ويجب ألا تأخذ أصحاب الدعوة إلى الله في كلمة الحق والفصل هوادة ولا مداهنة. وألا تأخذهم فيها خشية ولا خوف وألا تقعدهم عنها لومة لائم، ولا صيحة صائح: انظروا! إنهم يكفرون المسلمين!..

.. أجل يجب أن يجتاز أصحاب الدعوة إلى الله هذه العقبة وأن تتم في نفوسهم هذه الاستبانة كي تنطلق طاقاتهم كلها في سبيل الله لا تصدها شبهة، ولا يعوقها غبش، ولا يميعها لبس. فإن طاقاتهم لا تنطلق إلا إذا اعتقدوا في يقين أنهم هم (المسلمون) وأن الذين يقفون في طريقهم ويصدونهم ويصدون الناس عن سبيل الله هم (المجرمون)2(2) في ظلال القرآن للسيد قطب: (2/1105-1107) باختصار..

وإن المتدبر لهديه – صلى الله عليه وسلم – في مكة وكيف واجه الكفار فيها ليجد أن جهاده – صلى الله عليه وسلم – في تلك الحقبة من الدعوة كان جهاد بيان وبلاغ وتربية طيلة العهد المكي، ولم يعرف عنه عليه الصلاة والسلام أنه واجه المشركين بالسلاح، ولم يأذن لأصحابه في ذلك· وما ذاك – والله أعلم – إلا لتأخذ الدعوة حظها من البلاغ والقوة والتربية للقاعدة الصلبة· ولقد واجه عليه الصلاة والسلام في سبيل ذلك من الأذى والتعذيب لأصحابه الشيء العظيم حتى إذا استبانت سبيل المؤمنين واستبانت سبيل كفار قريش المجرمين، واتضحت السبيلان دون لبس ولا غموض، أذن الله عز وجل لرسوله والمؤمنين بالهجرة ثم الجهاد بعد أن تهيأ لهم الأنصار والمكان الذي يؤون إليه ويحتمون به وينطلقون منه، ولعل هذه هي إحدى الحكم التي من أجلها أمر المسلمون أن يكفوا أيديهم في مكة·

ضرورة بيان سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين قبل مصادمة الكفار

وعن هذه المرحلة وضرورة بيان سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين قبل مصادمة الكفار يتحدث محمد قطب رحمه الله تعالى فيقول: (نحتاج أن نقف وقفات طويلة نتأمل فيها نشأة الجيل الأول؛ لأن فيها زادا كاملا لكل من أراد أن يدعو، أو يتحرك بهذا الدين في عالم الواقع؛ فقد صنع ذلك الجيل على عين الله سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه لموسى عليه السلام (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) [طه: من الآية39] ، ونشأ على يدي أعظم مرب في تاريخ البشرية، محمد رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فكان جيلا فريدا في تاريخ البشرية كله، يوجهه الله بالوحي، ويتابعه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالتربية والتوجيه، فاكتملت له كل وسائل النشأة الصحيحة في أعلى صورة، فأصبح كالدرس” النموذجي”، الذي يلقيه الأستاذ ليعلم طلابه كيف يدرسون، حين يئول إليهم أمر التعليم·

ثم إن إرادة الله سبحانه وتعالى قد اقتضت أن يتم أمر هذا الدين على السنن الجارية – لا الخارقة – لحكمة أرادها الله، لكي لا يتقاعس جيل من الأجيال فيقول: إنما نصر الجيل الأول بالخوارق، وقد انقطعت الخوارق بعد رسول الله،! وفيما عدا هذه الخارقة التي اختص بها أهل بدر، وفيما عدا ما يختص بشخص الرسول – صلى الله عليه وسلم -، فقد جرت أمور الإسلام كلها على السنة الجارية؛ من استضعاف في المبدأ، وابتلاء وصبر وتمحيص، ثم تمكين على تخوف، ثم تمكين على استقرار وقوة، ثم انتشار في الأرض· لذلك فإن الدروس المستفادة من نشأة الجيل الأول هي دروس دائمة، لا تتعلق بالنشأة الأولى وحدها، وإنما هي قابلة للتطبيق في كل مرة تتشابه فيها الظروف أو تتماثل؛ لأنها سنن جارية، وليست حوادث مفردة عابرة لا تتكرر·

وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد وجهنا في كتابه المنزل، لتدبر السنن الربانية ودراسة التاريخ – الذي هو في الحقيقة مجرى السنن في عالم الواقع – فنحن جديرون أن نعكف على دراسة النشأة الأولى؛ لنستخلص منها الدروس والعبر، ولتكون هاديا لنا في كل تحرك نقوم به، ومحكا لاستقامتنا على الطريق أو انحرافنا عنه ··· يقول سبحانه وتعالى (وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) [الأنعام:55] .

وكأن المعنى: نظل نفصل الآيات حتى تستبين سبيل المجرمين·

وورود هذا المعنى في آية مكية له دلالة واضحة، أو ينبغي أن تكون واضحة؛ فاستبانة سبيل المجرمين هدف مقصود، تبينه لام التعليل في قوله تعالى: (وَلِتَسْتَبِينَ) .ونزول هذه الآية في الفترة المكية، معناه أن استبانة سبيل المجرمين هي من أهداف الدعوة، بل من لوازم الدعوة في الفترة الأولى التي يتم فيها نشأة الجماعة المسلمة·

فما الذي تحققه استبانة سبيل المجرمين للدعوة؟

إن استبانة سبيل المجرمين تتضمن أمرين:

أولا: بيان من هم المجرمون؟ وثانيا: بيان السبيل الذي يسلكونه، والذي من أجله أصبحوا مجرمين·

فمن هم المجرمون؟ وما سبيلهم؟ وما علاقة تفصيل الآيات باستبانة سبيلهم؟

لقد فصلت الآيات قضية الألوهية، وهي القضية الأولى والكبرى في القرآن كله، والسور المكية بصفة خاصة·

فصلت الآيات أنه إله واحد لا شريك له، ولا يمكن أن يكون له شركاء في الخلق ولا في التدبير، ولا في أي شأن من الشؤون، وظلت الآيات تتنزل مبينة صفات ذلك الإله، وتنفي عنه الشركاء حتى صار المعنى واضحا تماما، سواء لمن آمن أو لمن كفر؛ فقد كان الكفار قد أصبحوا على بينة تامة مما يريد منهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يعلموه ويؤمنوا به، حتى قالوا كما روى الله عنهم: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) [ص:5] … وعلى هذ فقد انقسم الناس فريقين اثنين: فريق المؤمنين، وهم الذين آمنوا أنه إله واحد، فعبدوه وحده بلا شريك، واتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم، وفريق المجرمين وهم الذين أبوا أن يؤمنوا به، وأن يعبدوه وحده، وأن يتبعوا ما أنزله إليهم·

وإذن، فأين تقع قريش في هذا التقسيم؟

لقد كانت قبل تفصيل الآيات هي صاحبة الشرعية، وكان المؤمنون في نظر قريش، وفي نظر الناس أيضا، خارجين على الشرعية، فما الموقف الآن بعد تفصيل الآيات؟ وبعد ما رفضت قريش أن تؤمن بالله الواحد، وتعبده وحده بلا شريك، وتتبع ما أنزل الله؟ هل بقيت هي صاحبة الشرعية، وبقي المؤمنون هم الخارجين على الشرعية؟ أم تبدل الحال عند بعض الناس على الأقل، فأصبحت قريش وأمثالها هم المجرمين، وأصبح أصحاب الشرعية هم المؤمنين؟!

إنها نقلة هائلة في خط سير الدعوة، أن يتبين الناس من هم المجرمون، وما سبيلهم، ويتبينوا في المقابل من هم الذين على الحق، وما هو سبيل الحق·

ولقد كان الإشكال بالنسبة لقريش خاصة أنهم هم سدنة البيت، الذي يعظمه العرب جميعا، فضلا عن كونهم أصحاب ثروة وأصحاب جاه وحسب ونسب، فاجتمعت لهم بمقاييس الجاهلية كل مقومات الشرعية، ممتزجة ببقايا الدين المحرف الذي ينتسبون به إلى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ·· فلم تكن زحزحة الشرعية عنهم أمرا هينا، خاصة والخارجون على شرعيتهم ضعاف فقراء لا قوة لهم ولا مال، ولا سند من أحد من ذوي السلطان!

لقد كانت العقيدة الصحيحة وحدها هي التي يمكن أن تجليهم عن شرعيتهم المدعاة، وتكشفهم على حقيقتهم؛ وهي أنهم مجرمون لا شريعة لهم، لرفضهم الإيمان بالله الواحد، وعبادته وحده بلا شريك، واتباع ما أنزل الله·

وهنا نسأل: لو أن المؤمنين في مكة دخلوا في معركة مع قريش، فهل كانت تستبين سبيل المجرمين؟ لو دخلوا المعركة وفي حس الناس أن قريشا هي صاحبة الشرعية، وأن المؤمنين خارجون على الشرعية، فهل كان يمكن أن يستقر في خلد أحد – كما استقر في خلد الأنصار – أن القضية لها معيار آخر غير سدانة البيت، وغير المال والجاه، وكثرة العدد، ورصيد العرف، ورصيد التاريخ؟ وأن هذا المعيار هو: لا إله إلا الله ·· هو الإيمان بألوهية الله وحده بلا شريك، وما يترتب على ذلك من ضرورة اتباع ما أنزل الله، وأن هذا هو الحق الذي لا شيء بعده إلا الضلال، وأن هذه هي القضية الكبرى التي يقاس بها كل شيء، وينبني عليها كل شيء؟

هل كان يمكن أن يصل الحق الذي يحمله المؤمنون إلى أفئدة فريق من الناس، كما وصل إلى أفئدة الأنصار، لو أن المؤمنين دخلوا معركة مع قريش، أم كان غبار المعركة يغشى على حقيقة القضية، وتنقلب القضية بعد قليل إلى قضية ضارب ومضروب، وغالب ومغلوب، وتصبح قضية لا إله إلا الله على هامش الصورة، إن بقي لها في حس الناس وجود على الإطلاق؟!

أظن الصورة واضحة ··· لقد كانت (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) هي سر الموقف كله!

كانت هي التي أتاحت لقضية لا إله إلا الله – وهي قضية الرسل جميعا من لدن آدم إلى محمد – صلى الله عليه وسلم – أن تبرز نقية شفافة واضحة، غير مختلطة بأي قضية أخرى على الإطلاق، فتنفذ إلى القلوب التي أراد الله لها الهداية صافية من كل غبش، فتتمكن من تلك القلوب، ويرسخ فيها الإيمان، كما تنفذ إلى القلوب التي لم يرد الله لها الهداية، صافية من كل غبش، فيكفر أصحابها كفرا لا شبهة فيه؛ كفرا غير مختلط لا بالدفاع عن النفس، ولا الدفاع عن المال، ولا الدفاع عن الأمن والاستقرار؛ إنما هو الرفض الصريح الواضح للا إله إلا الله ·· وذلك توطئة لقدر قادم من أقدار الله، هو سنة من السنن الجارية: (لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ) [الأنفال: من الآية42] .

هذا الوضوح الذي أتاحته للقضية (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) ، هو من مستلزمات الدعوة ·· فبغير استبانة سبيل المجرمين، على أساس لا إله إلا الله ،واستبانة سبيل المؤمنين في المقابل، على ذات الأساس، لا يمكن أن تتسع القاعدة بالقدر المعقول في الزمن المعقول، وتظل الدعوة تراوح مكانها، إن لم يحدث لها انتكاس بسبب من الأسباب·

وحين وضحت القضية على هذا النحو من خلال (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) ، جاء الأنصار! وحين جاء الأنصار اتسعت القاعدة، وحدث تحول في التاريخ! )3(3) “كيف ندعو إلى الإسلام”: (ص 11 – 19) باختصار..

الدعوة إلى التوحيد من جهاد البيان الذي يسبق جهاد السنان

والمقصود من كل ما سبق أن الأمر بالمعروف – وأوله المعروف الأكبر وهو التوحيد – والنهي عن المنكر – وأوله المنكر الأكبر وهو الشرك الأكبر – هو أمر ضروري يسبق الجهاد بالسنان، وهو من جهاد النفس على تبليغ وبيان ما تعلمته من الهدى والنور فتدعو الناس إليه، وما علمته من الشرك والضلال فتحذر الناس منه ومن سبيل أهله من المجرمين وهذا البيان ضروري لا يتم الجهاد بالسنان بدونه، وهو يحتاج إلى وقت وجهد وبذل وتضحية وصبر، وليس بالأمر الهين؛ لأن البيان محتاج إلى وسائل قوية للبلاغ تواجه وسائل المجرمين التي يصدون بها الناس عن سبيل الله تعالى ويلبسوا عليهم دينهم· كما تحتاج إلى التكاتف بين الدعاة وتوظيف طاقاتهم كل بحسب حاله وقدرته؛ فالخطيب على منبره، وإمام المسجد في مسجده وحيه، والكاتب والمؤلف بقلمه، والمحاضر في محاضرته، والشيخ والمربي مع طلابه في دروسهم·

كما لا ننسى وسائل الإعلام الحديثة وأثرها في توسيع قاعدة الدعوة وإيصالها إلى فئام كثيرة من الناس، وهذا يؤكد ضرورة تميز الدعاة والمجاهدين بمؤسساتهم الإعلامية المتميزة النظيفة التي يرى فيها الناس الحق ويسمعونه، ويرون القدوات والقادة من العلماء والدعاة الذين يصدرون عن مواقفهم ويستمعون توجيهاتهم، ويتبصرون بسبيل المجرمين فينفرون منها ومن أهلها·

كما لا ننسى دور المال في التعريف بسبيل المؤمنين وبسبيل المجرمين على نطاق واسع؛ فإذا لم يكن هناك ما يدعم الوسائل الإعلامية ويسهم في إنشائها فسيكون أثر البيان ضعيفا· وهذا مما يعوق الدعوة ويؤخرها·

ومما يلحق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأهميته في الإعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل التواصي بين المتآخين في طريق الدعوة والجهاد، وأن لا يشغلهم الأمر والنهي الموجهان للناس عن الأمر والنهي فيما بينهم؛ فإن كل بني آدم خطاء، ولا عصمة إلا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام· لذا فمن الطبيعي أن تظهر بعض الأخطاء والمنكرات في صفوف الدعاة ومن يعدون أنفسهم للجهاد· وحينئذ لا بد من الاحتساب بين الإخوان بأن يناصح بعضهم بعضا، وأن يتواصوا بالحق والمعروف، وينبه المقصر في الحق على تقصيره، وينصح المتلبس بالباطل حتى يقلع عن باطله·

وبهذا التناصح والتواصي وإشاعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الدعاة والمجاهدين تقل المنكرات، ويفشو المعروف، وتقل المعاصي، وتكثر الطاعات، وتسود المحبة والألفة، وتتحقق بذلك أهم أسباب النصر على الأعداء؛ وهما طاعة الله عز وجل، والاجتماع والائتلاف؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال:45 – 46] .ووحدة الصف واجتماع الكلمة من أعظم ما يستعد به للجهاد·

خطورة الفرقة والاختلاف

وما دمنا بصدد الحديث عن الاجتماع والفرقة فإنه من المناسب في الحديث عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التركيز على خطورة الفرقة والاختلاف، وبخاصة من الدعاة والمجاهدين؛ فإنها من أعظم المنكرات التي تضيع بها ثمار الدعوة والجهاد، ولذلك يجب التصدي لها ومحاربتها، وأن يسعى للتغلب على أسبابها والمراتب السابقة في الإعداد كفيلة بإذن الله تعالى – عندما يأخذ بها المربون – أن تقضي على جذور الفتنة والفرقة· وقد سبق الإشارة إلى أثر العلم وأعمال القلوب والأعمال الصالحة في القضاء على هذه الآفة الخطيرة [مجاهدة النفس على العمل: (المحبة والإخلاص)] التي تعوق الدعوة والجهاد وتؤخر نصر الله عز وجل· وهذا لا يعني أن لا يحصل اختلاف في وجهات النظر وبعض الاجتهادات بين الدعاة والمجاهدين، لكنها لا يجوز أن تؤدي إلى الافتراق والمنابذة، ولنا في أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أسوة حسنة؛ حيث اختلفوا في بعض المسائل لكنهم بقوا صفا واحدا وقلوبا متآلفة فبارك الله فيهم وفي عملهم وجهادهم ودعوتهم· فالاجتماع أصل، والمسائل التي قد يختلف عليها فروع، فلا يجوز بحال أن نضيع الأصل وهو الاجتماع لنحافظ على فرع، وإلا كنا كمن يهدم مصرا ليبني قصرا·

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله تعالى في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) [النساء:59] وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين. نعم من خالف الكتاب المستبين والسنة المستفيضة أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافا لا يعذر فيه فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع)4(4) مجموع الفتاوى: (24/172)..

الهوامش

(1) مجموع الفتاوى: (10/301).

(2) في ظلال القرآن للسيد قطب: (2/1105-1107) باختصار.

(3) “كيف ندعو إلى الإسلام”: (ص 11 – 19) باختصار.

(4) مجموع الفتاوى: (24/172).

اقرأ أيضا

جهاد البيان

بيان الحق وتعرية الباطل .. سبيل المؤمنين

أمور يجب على أهل العلم بيانها للناس

الظلم والظالمون: بيان واجب

 

التعليقات غير متاحة