يتعلق المؤمن برحمة الله، ولرحمته تعالى معاني عند إضافتها لرب العالمين، ولها مظاهر وآثار، وهي توجب للعبد أعمالا وأحوالا عندما يؤمن بها.
مقدمة
قال تعالى ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ (الأنعام: 54) .. وعند تدبر هذه الآية العظيمة تبدو علاقة الله تعالى بعبيده تبدو فيها الرحمة أصلا عظيما، تشملهم جميعا في الدنيا، ويفوز بها أولياؤه في الآخرة.
بها قامت المخلوقات، وحلم الله بها على عباده، وبها هدى عباده اليه، وفيها يدخل أولياءه في الآخرة ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ﴾ (الجاثية: 30)، وبها يبتلي ويختبر، ويطهر ويمحص، ويصطفي من يشاء، ويأخذ عدوه ويهلك الظالمين. وبرحمته تراحم كل مخلوق؛ فسبحانه.
صفة “الرحمة” في الكتاب والسنة
وهي صفة كمال لائقة بذاته وجلاله وعظمته سبحانه كسائر الصفات، نثبتها له سبحانه كما أثبتها لنفسه من غير تمثيل ولا تحريف ولا تكييف، لا يجوز نفيها أو تأويلها أو تحريفها أو تفويض معناها أو تكييفها، وهذا هو المقرر في مذهب أهل السنة والجماعة في جميع الصفات.
الرحمة المضافة إلى الله تعالى نوعان
(الأول): رحمة ذاتية موصوف بها سبحانه على الوجه اللائق به سبحانه كسـائر صفـاته، يجـب إثبـاتـها لله عز وجل مـن غيـر تحـريف، ولا تعـطيل، ولا تكـييف، ولا تمـثيل، كـما قـال سبحانه: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: 156]، وقوله تعالى: ﴿وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ﴾ [الأنعام: 133].
(الثاني): رحمة مخلوقة أنزل الله عز وجل منها رحمة واحدة؛ يتراحم بها الخلائق، وأمسك عنده تسعًا وتسعين رحمة؛ يرحم الله بها عباده يوم القيامة كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى خلق يوم خلق السموات والأرض مائة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض، فجعل منها في الأرض رحمة واحدة، فبها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض، فإذا كان يوم القيامة أكملها الله تعالى بهذه الرحمة». (1رواه مسلم (2753))
ومن ذلك أيضًا ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: أن الله عز وجل قال عن الجنة: «أنت رحمتي، أرحم بك من أشاء…». الحديث (2رواه البخاري (4850)، ومسلم (2846))
وهذه الرحمة من باب إضافة “المفعول” إلى فاعله، وهذه الرحمة ليست صفة لله تعالى، بل هي من أثر رحمته التي هي صفته الذاتية الفعلية.
رحمة الله عز وجل لعباده نوعان
(الأولى): رحمة عامة
وهي لجميع الخلائق بإيجادهم، وتربيتهم، ورزقهم، وإمدادهم بالنعم والعطايا وتصحيح أبدانهم، وتسخير المخلوقات من نبات وحيوان وجماد في طعامهم وشرابهم، ومساكنهم، ولباسهم، ونومهم، وحركاتهم، وسكناتهم، وغير ذلك من النعم التي لا تُعَد ولا تُحصَى.
قال الله عز وجل : ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا﴾ [غافر: 7].
يقول الشيخ ابن عثيمين، رحمه الله تعالى، عند هذه الآية:
“وهذه هي الرحمة العامة التي تشمل جميع المخلوقات، حتى الكفار؛ لأن الله قرن الرحمة هذه مع العلم؛ فكل ما بلغه علم الله ـ وعلم الله بالغ لكل شيء ـ فقد بلغته رحمته؛ فكما يعلم الكافر، يرحم الكافر أيضًا.
لكن رحمته للكافر رحمة جسدية دنيوية مختصة بالدنيا؛ فالذي يرزق الكافر هو الله، الذي يرزقه بالطعام والشراب واللباس والمسكن والمنكح وغير ذلك» . (3«شرح العقيدة الواسطية» (1/249) بتصرف يسير)
الثانية: رحمة خاصة
وهذه الرحمة لا تكون إلا للمؤمنين؛ فيرحمهم الله عز وجل في الدنيا بتوفيقهم إلى الهداية والصراط المستقيم، ويثبِّتهم عليها، ويدافع عنهم، وينصرهم على الكافرين، ويرزقهم الحياة الطيبة، ويبارك لهم فيما أعطاهم، ويمدهم بالصبر واليقين عند المصائب، ويغفر لهم ذنوبهم، ويكفرها بالمصائب.
ويرحمهم في الآخرة بالعفو عن سيئاتهم، والرضا عنهم والإنعام عليهم بدخلوهم الجنة، ونجاتهم من عذابه عز وجل ونقمته، وهذه الرحمة هي التي جاء ذكرها في قوله تعالى: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: 43].
يقول الشيخ ابن عثيمين، رحمه الله تعالى، عن هذه الرحمة الخاصة بعد حديثه عن الرحمة العامة:
“أما المؤمنون؛ فرحمتهم رحمة أخص من هذه وأعظم، لأنها رحمة إيمانية دينية دنيوية.
ولهذا تجد المؤمن أحسن حالًا من الكافر، حتى في أمور الدنيا؛ لأن الله يقول: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل: 97].
الحياة الطيبة هذه مفقودة بالنسبة للكفار؛ حياتُهم كحياة البهائم؛ لكنّ المؤمن إن أصابته ضَرّاء صبر واحتسب الأجر على الله عز وجل، وإن أصابته سَرّاء شكر فهو في خير في هذا وفي هذا، وقلبه منشرح مطمئن» . (4«شرح العقيدة الواسطية» (1/249))
وقال عند قوله تبارك وتعالى: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾:
“قوله: ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ﴾: متعلق بـ (رحيم)، وتقديم المعمول يدل على الحصر، فيكون معنى الآية: (وكان بالمؤمنين لا غيرهم رحيمًا).
ولكن كيف نجمع بين هذه الآية والتي قبلها؟
نقول: الرحمة التي هنا غير الرحمة التي هناك، هذه رحمة خاصة متصلة برحمة الآخرة لا ينالها الكفار؛ بخلاف الأُولى. هذا هو الجمع بينهما، وإلا فكلٌّ مرحوم، لكن فرق بين الرحمة الخاصة والرحمة العامة» . (5المصدر السابق نفسه (1/251))
من آثار الإيمان باسميه سبحانه (الرحمن الرحيم)
(أولًا): محبة الله عز وجل المحبة العظيمة
وذلك حينما يفكر العبد، وينظر في آثار رحمة الله عز وجل في الآفاق وفي النفس، التي لا تُعد ولا تُحصى؛ وهذا يثمر تجريد المحبة لله تعالى والعبودية الصادقة له سبحانه، وتقديم محبته عز وجل على النفس، والأهل، والمال، والناس جميعًا، والمسارعة إلى مرضاته، والدعوة إلى توحيده، والجهاد في سبيله، وفعل كل ما يحبه ويرضاه.
(ثانيًا): عبودية الرجاء
والتعلق برحمة الله تعالى، وعدم اليأس من رحمته؛ فإن الله عز وجل قد وسعَت رحمته كل شيء، وهو الذي يغفر الذنوب جميعًا.
كما أن الرجاء والنظر إلى رحمة الله الواسعة وآثارها يثمر الطمأنينة والأمل في النفوس المكروبة، ويمسح عليها الرَّوْح وحسن الظن بالله تعالى وانتظار الفرج بعد الشدة ومغفرةَ الذنوب.
(ثالثًا): الحياء من الله عز وجل
إن التأمل في إحسان الله ورحمته يورث العبد حياءاً منه سبحانه؛ فيستحيي العبد المؤمن من خالقه أن يعصيَه، ثم إن وقع في الذنب جهلًا منه “استحيا” من الله بعد وقوعه في الذنب.
ولذا كان الأنبياء يعتذرون عن الشفاعة للناس بذنوبهم خوفًا وخجلًا، وإن هذا لأمر قلَّ من ينتبه له، بل قـد يظـن كـثير مـن الناس أن التوبة والعفو قد غـمر ذنوبه فـلا يلـتفت إلى الحـياء بعد ذلك.
(رابعًا): اتصاف العبد بالرحمة وبذلها لعباد الله
بيَّن صلى الله عليه وسلم أن الرحمة تنال عباده الرحماء فقال: «إنما يرحم الله من عباده الرُّحَماء» (6رواه البخاري (7377)، ومسلم (923))، وأعظم الرحمة بالناس هدايتهم إلى التوحيد، وإخراجهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم عز وجل.
ثم الرحمة بهم في أنفسهم، وأعراضهم، وعقولهم، وأموالهم، ودفع الظلم عنهم، وتفريج كروبهم، والإحسان إليهم، وتعزية مصابهم، وقضاء حوائجهم. وأولى الناس بهذه الرحمة الوالدان والأقربون.
استجلاب رحمة الله تعالى بفعل أسبابها
(1) من أعظم ما تستجلب به رحمة الله تعالى فعْل ما يرضيه ويأمر به، واجتناب ما يُسخطه وينهى عنه باتباع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال الله تعالى:
﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ﴾ [الأعراف: 156، 157].
(2) ومن الطرق التي تُنال بها رحمة الله عز وجل تدبُّر القرآن والإنصات إليه، قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأعراف: 204].
(3) وكذلك الاستغفار من أعظم ما تُستجلب به رحمة الله تعالى، قال الله عز وجل: ﴿لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [النمل: 46].
(4) وقد أرشدَنا الله عز وجل إلى سؤاله سبحانه الرحمة لأنفسنا وأقاربنا. وقد أثنى سبحانه على أنبيائه بذلك، وذكرهم للتأسّي بهم؛ قال الله تعالى عن موسى عليه السلام ودعائه لنفسه وأخيه: ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ ۖ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [الأعراف: 151].
خاتمة
إذا حصل للعبد الرحمة فقد فاز، فقد جعل الله تعالى الهدى من رحمته وفضله، وجعل تعالى الجنة هي رحمته المخلوقة.
وينبغي للمؤمن أن يحصل أسباب رحمة ربه ويتعرض لها، وأن يطلبها بعمره كله وعمله كله؛ فمن أدركها فقد سعد سعادة لا يشقى بعدها. نسال الله تعالى أن يدخلنا في رحمته بفضله تعالى.
………………………………
الهوامش:
- رواه مسلم (2753).
- رواه البخاري (4850)، ومسلم (2846).
- «شرح العقيدة الواسطية» (1/249) بتصرف يسير.
- «شرح العقيدة الواسطية» (1/249).
- المصدر السابق نفسه (1/251).
- رواه البخاري (7377)، ومسلم (923).