لتناول أحكام النوازل مأخذ، يعتبر فيه السياق والواقع ومقدار انحرافه، وتعتبر فيه أصول الشرع وثوابته، كما يعتبر فيه مآلات الواقع. وهذا فقه لمن أكرمه الله به.

مقدمة

كلما امتد بنا الزمان، لقي المسلمون فتنا متتابعة؛ وقد يجدون قليلا ممن يوضح الحق، وقد يكثر من يوهن من شأن التمسك به، ويضيَع أصولا وكبرى وثوابت عظيمة.

وإننا نحاف من تتابع المنتسبين للعلم على الترخص فيما لا رخصة فيه، ومن النظر الى نواتج الأمور دون مباديها وأسبابها، ومن عدم وضع النوازل في سياقها. ومن شراء بعضهم للدنيا وتقرُّبه للحكام.

بينما كان شأن العلماء أن يأخذوا الأمور من مأخذها ويضعوها في سياقها ويوضحون الإجابة على الأسئلة الكبرى؛ أولئك الربانيون.

وقد قصدنا هنا الى ذكر أحد المواقف المتمثلة في فتوى وبيان للشيخ “أحمد شاكر” رحمه الله؛ وهو يعالج مسألة صارت اليوم من ضمن مسائل كثيرة تتراجع فيها مكانة الحكم الشرعي، ويتتابع المجيبون فيها على موارد النزاع والإجمال، والأخذ بالغريب والشاذ من الأقوال بل وبما لم يثبت عن قائله.

يجيبون بإجابات تضيع معها ثوابت وأصول، ويقررون الواقع بانحرافاته الكبيرة وتأخيره لشريعة الله بل ولحربها؛ فتتضمن إجاباتهم إقرار الأوضاع وقبولها وإعطاءها شرعية للقبول والمتابعة؛ هذه رسالة يوصلونها بمجرد الدخول في الإجابات الفرعية على أمور هي نواتج لضياع أصول كانت أحق بالبيان.

مناقشة تولي المرأة للقضاء

يقول الشيخ أحمد شاكر، رحمه الله:

“لا يزال كثير من الناس يذكرون ذلك الجدال الغريب الذي ثار في الصحف بشأن الخلاف في جواز ولاية المرأة القضاء!

والذي أثار هذا الجدال هو وزارة العدل؛ إذ تقدم إليها بعض «البنات» اللائي أُعطين شهادة الحقوق، ورأين أنهن بذلك صرن أهلاً لأن يكنَّ في مناصب النيابة، تمهيداً لوصولهن إلى ولاية القضاء! فرأت الوزارة أن لا تستبدّ بالفصل في هذه الطلبات وحدها، دون أن تستفتي العلماء الرسميين.

وذهب العلماء الرسميون يتبارَوْن في الإفتاء!! ويحكون في ذلك أقوال الفقهاء؛ فمن ذاكرٍ مذاهب أبي حنيفة في إجازة ولايتها في الأموال فقط، ومن ذاكرٍ المذهب المنسوب لابن جرير الطبري في إجازة ولايتها القضاء بإطلاق، ومن ذاكرٍ المذهب الحق الذي لا يُجوز ولايتها القضاء قط، وأن قضاءها باطلٌ مطلقاً، في الأموال وغير الأموال”.

إلى أن يقول:

“سألت وزارة العدل العلماء فأجابوا. ولستُ أدري لِمَ أجابوا..؟ وكيف رضوا أن يجيبوا في مسألة فرعية، مبنية على أصلين خطيرين من أصول الإسلام، هدمهما أهل هذا العصر أو كادوا..؟!

ولو كنتُ ممن يُسأل في مثل هذا، لأوضحت الأصول، ثم بنيتُ عليها الجواب عن الفرع أو الفروع”.

ما ينبني عليه نقاش المسألة

“فإن ولاية المرأة القضاء في بلدنا هذا، في عصرنا هذا؛ يجب أن يسبقها بيان حكم الله في أمرين بُنيتْ عليهما بداهةً:

تحكيم القوانين الوضعية الأوروبية

أولاً: أيجوز في شرع الله أن يُحكم المسلمون في بلادهم بتشريع مقتبس عن تشريعات أوربة الوثنية الملحدة، بل بتشريع لا يبالي واضعه أوافق شرعة الإسلام أم خالفها ؟!

إن المسلمين لم يُبلَوا بهذا قط، فيما نعلم من تاريخهم، إلا في عهد من أسوأ عهود الظلم والظلام، في عهد التتار، ومع هذا فإنهم لم يخضعوا له، بل غلب الإسلامُ التتار، ثم مزجهم فأدخلهم في شرعته، وزال أثر ما صنعوا من سوء، بثبات المسلمين على دينهم وشريعتهم، وبأن هذا الحكم السيئ الجائر كان مصدره الفريق الحاكم إذ ذاك، لم يندمج فيه أحد من أفراد الأمم الإسلامية المحكومة، ولم يتعلموه، ولم يعلّموه أبناءهم، فما أسرع ما زال أثره؛ ولذلك لا نجد له في التاريخ الإسلامي ـ فيما أعلم أنا ـ أثراً مفصلاً واضحاً إلا إشارةً عالية محكمةً دقيقة، من العلامة الحافظ ابن كثير المتوفى سنة (774)”.

ثم ذكر تعليق ابن كثير على حكم التتار بقانونهم الوضعي الذي سموه «الياسق»، وقوله: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾.

“ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المُحْكَم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكزخان، الذي وضع لهم الياسق.

وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعًا متبعًا، يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله، حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير”

ثم قال:

“أرأيتم هذا الوصف القوي من ابن كثير في القرن الثامن؟

وجه التشابه ووجه الاختلاف

ألستم ترونه يصف حال المسلمين في هذا العصر في القرن الرابع عشر؟ إلا في فرق واحد، أشرنا إليه آنفاً: أن ذلك كان في طبقة خاصة من الحكام، أتى عليها الزمن سريعاً، فاندمجت في الأمة الإسلامية، وزال أثر ما صنعت؟

ثم كان المسلمون الآن أسوأ حالاً منهم؛ لأن الأمة كلها الآن تكاد تندمج في هذه القوانين المخالفة للشريعة، والتي هي أشبه شيء بـ “الياسق” الذي اصطنعه جنكيز خان، يتعلمها أبناؤها، ويفخرون بذلك آباءً وأبناءً، ثم يجعلون مردَّ أمرهم إلى معتنقي هذا “الياسق العصري” ويشجبون من عارضهم في ذلك، حتى لقد أدخلوا أيديهم في التشريع الإسلامي، يريدون تحويله إلى “ياسقهم الجديد” بالهوينا واللين تارة، وبالمكر والخُدَع تارة، وبما ملكت أيديهم من السلطان في الدولة تارات.

ويصرّحون ـ ولا يستحيون ـ أنهم يعملون على “فصل الدولة عن الدين..!!” وأنتم ترون ذلك وتعلمون.

أفيجوز مع هذا لمسلم أن يعتنق هذا الدين الجديد؟ أعني التشريع الجديد! أو يجوز لأب أن يرسل أبناءه لتعلم هذا واعتناقه واعتقاده والعمل به، ذكراً كان الابن أو أنثى، عالما كان الأب أو جاهلاً..؟!

هذه أسئلة في صميم الموضوع وأصله، يجب الجواب عنه إثباتاً ونفياً أوّلاً، حتى إذا ما تحقق الجواب بالأدلة الشرعية الصحيحة، التي لا يستطيع مسلم أن يخالفها أو ينفيها أو يخرج عليها، استتبع ذلك ـ بالضرورة ـ سؤالاً محدداً واضحاً:

أيجوز حينئذ لرجل مسلم أن يلي القضاء في ظل هذا «الياسق العصري» وأن يعمل به ويُعرض عن شريعته البينة؟!

ما أظن أن رجلاً مسلماً يعرف دينه ويؤمن به جملةً وتفصيلاً، ويؤمن بأن هذا القرآن أنزله الله على رسوله كتاباً محكماً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبأن طاعته وطاعة الرسول الذي جاء به واجبة، قطعية الوجوب في كل حال، ما أظنه يستطيع إلا أن يفتي فتوى صريحة بأن ولاية الرجال القضاء في هذا الحال باطلةٌ بطلاناً أصلياً لا يلحقه التصحيح ولا الإجازة..!!

ثم يسقط السؤال عن ولاية المرأة هذا القضاء من تلقاء نفسه.

سياق الاختلاط المحرم

وثانياً: أيجوز في شرع الله أن تذهب الفتيات في فورة الشباب إلى المدارس والجامعات، لتدرس القانون أو غيره، سواء مما يجوز تعلمه ومما لا يجوز؟ وأن يختلط الفتيان والفتيات هذا الاختلاط المعيب، الذي نراه ونسمع أخباره ونعرف أحواله..؟

أيجوز في شرع الله هذا السفور الفاجر الداعر، الذي تأباه الفطرة السليمة والخُلق القويم، والذي ترفضه الأديان كافة على الرغم مما يظن الأغرار وعُبَّاد الشهوات..؟!

يجب أن نجيب عن هذا أولاً، ثم نبحث بعدُ فيما وراءه.

ثم يسقط السؤال عن ولاية المرأة القضاء من تلقاء نفسه.

ألا فليجب العلماء وليقولوا ما يعرفون، وليبلّغوا ما أُمروا بتبليغه، غير متوانين ولا مقصرين.

سيقول عني عبيد «النسوان» الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا: أني جامد، وأني رجعي، وما إلى ذلك من الأقاويل، ألا فليقولوا ما شاؤوا، فما عبأت يوماً ما بما يقال عنّي، ولكني قلت ما يجب أن أقول”.

خاتمة

هكذا تناول الشيخ رحمه الله المسألة. لم يهمل سياق الأمور، ولا الأسئلة الكبرى.

لم يضع لجواز تولي المرأة للقضاء إجابة جاهزة لمن أراد أن تتولى القضاء الوضعي وكأنها تقوم بأمر شرعي؛ فأوضح أنه لا يجوز للرجال فضلا عن النساء.

ولو أجاب بالجواز لأقر تبديل الشرائع وتبديل الأحكام ولأجازه للرجال؛ فتصبح المشكلة فقط في تولي النساء لأمر هو مُصابٌ في الدين.

نسأل الله تعالى أن يوفق المسلمين لإقامة الدين وتحكيم شريعة رب العالمين والخروج من الفتن ما ظهر منها وما بطن.

……………………………………

المصدر:

  • جمهرة مقالات الشيخ أحمد شاكر، جمع الأستاذ عبد الرحمن العقل، 2/ 591 – 598.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة