سارت موجة معاصرة مع كل فتنة عامة يصاب بها أهل الإسلام، فإذا بدعاة السوء وعلماء الضلالة يعلنون إيمان اليهود والنصارى، والتحرج من تكفيرهم..

ويلبّسون على المسلمين عقائدهم، فيجعلون الخلاف مع اليهود والمصار كخلاف المذاهب الأربعة، ويقررون بجرأة على الله وتكذيب لدينه أنها طرق مختلفة لعبادة الله، وأنه يمكن دخول هؤلاء الجنة اليوم ولو لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم..

وهذا المقال يتناول بيان الحقيقة الكبرى لدين الإسلام لتجليته ومنع التلبيس في زماننا هذا الذي باتت فيه المسلَّمات الشرعية محل مراجعة وإنكار، وجهل وتجهيل، وتلبيس متعمد؛ لذا كان من المناسب هنا بيان قاعدة الإسلام ومداره على مدى القرون، وحقيقته عند الله تعالى، فنقول..

قاعدة الدين المطلقة

قرر تعالى أنه لا يقبل سوى الإسلام دينا، وأن من أتاه بغير هذا الدين فلن يُقبل منه.. ﴿ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يُقبل منه﴾.

وهذه القاعدة هي قاعدة عامة عبر جميع القرون، ومع جميع الأنبياء، وبها نزلت جميع الكتب، وأُرسل بها جميع الرسل؛ ولذا فالمقصود بها هو الإسلام العام، إسلام النبيين، وهو التوحيد.

وبيان ذلك أن قاعدة الإسلام، وجماع الدين، أمران:

أن يُعبد الله وحده

وأن يُعبد بما شرع على ألْسنة رسله في كل وقت بما أمر به في ذلك الوقت

إفراد الله بالعبادة وقبول الشريعة الناسخة

وترجمة هذا أن الإسلام في كل وقت هو إفراد الله بالعبادة وقبول الشريعة الناسخة في هذا الزمان.

ولو أدرك المسلم رسالة رسول تالٍ وجب عليه حينها أن يقبل الشريعة الناسخة معه، فلو بقي على الرسالة المنسوخة لكان قد ردّ أمر الله فكفر به؛ إذ يكون قد أشرك به في الطاعة بردّ أمره تعالى.

مثال نسخ التوجه الى بيت المقدس

فكما أن من رد الحكم الناسخ في الشريعة الواحدة يكفر بذلك ـ كمن رد تحويل القبلة الى المسجد الحرام وبقي على الأمر المشروع في أول الإسلام بالتوجه الى بيت المقدس فلا يكون مسلما ـ فكذلك من أبى الرسالة الناسخة لما قبلها لا يكون مسلما..

فكان الإسلام في أول البعثة التوجه إلى بيت المقدس فمن لم يتوجه إلى بيت المقدس آنذاك لم يكن مسلما، فكذلك من لم يتوجه إلى البيت الحرام، بعد أن شرعه الله ونسخ التوجه إلى بيت المقدس، لم يكن مسلما.

وكما أنه كان من الإسلام الإجتماع يوم السبت زمن بني اسرائيل، ثم نسخه الله وصارت الجمعة فمن لم يُسْبت زمن أن كان السبت مشروعا لم يكن مسلما؛ فكذلك من لم يجمع بعد أن شرع الله الجمعة لم يكن مسلما.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:

ولما كان أصل الدين الذي هو دين الإسلام واحدا، وإنما تنوعت الشرائع؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد» «الأنبياء إخوة لعلات» «وأنا أولى الناس بابن مريم، فإنه ليس بيني وبينه نبي»(1)

فدينهم واحد، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وهو يُعبد في كل وقت بما أمر به في ذلك الوقت، وذلك هو دين الإسلام في ذلك الوقت.

وتنوع الشرائع في الناسخ والمنسوخ من المشروع كتنوع الشريعة الواحدة..

فكما أن دين الإسلام الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم هو دين واحد، مع أنه قد كان في وقت يجب استقبال بيت المقدس في الصلاة، كما أمر المسلمون بذلك بعد الهجرة ببضعة عشر شهرا، وبعد ذلك يجب استقبال الكعبة، ويحْرُم استقبال الصخرة فالدين واحد وإن تنوعت القبلة في وقتين من أوقاته.

فهكذا شرع الله تعالى لبني إسرائيل السبت، ثم نسخ ذلك وشرع الجمعة، فكان الاجتماع يوم السبت واجبا إذ ذاك، ثم صار الواجب هو الاجتماع يوم الجمعة، وحرم الاجتماع يوم السبت.

فمن خرج عن شريعة موسى قبل النسخ، لم يكن مسلما ومن لم يدخل في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم بعد النسخ لم يكن مسلما.

ولم يشرع الله لنبي من الأنبياء أن يعبد غير الله البتة، قال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ﴾ فأمر الرسل أن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه».

جميع الأنبياء مسلمون

وعلى هذا فالإسلام زمن ابراهيم عليه السلام، وكذا مع من قَبله من الأنبياء، هو إفراد الله بالعبادة وقبول الشريعة التي أُرسل بها والناسخة لما قبلها..

ولذا كان ابراهيم ﴿حَنِيفًا مُّسْلِمًا﴾، ونوح عليه السلام كان حنيفا مسلما ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ * فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾.

الاسلام زمن موسى عليه السلام

ثم كان الإسلام في زمن موسى عليه السلام هو إفراد الله بالعبادة وقبول شريعته المرسَل بها والناسخة لما قبلها، وعلى هذا سمى الله تعالى أتْباع موسى مسلمين في مثل قوله تعالى ﴿وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ﴾.

وأعلن فرعون إسلامه في سياق موته فلم يُقبل منه ﴿حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾..

ومن قبله قال السحَرة ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴾.

وعلى هذا فمن خرج عن الإسلام حينئذٍ بعبادة غير الله تعالى، كمن عبد العجل؛ فقد خرج عن الإسلام في زمن موسى نفسه، وكذا من أشرك بعده كمن ألّه العُزيْر..

ومن رد شريعة من الشرائع التي جاء بها موسى عليه السلام فقد خرج عن الإسلام في زمنه.

أما من حافظ على توحيده والتزامه شريعة زمنه فهو المسلم آنذاك.. نواليه اليوم، والى يوم القيامة، وفي الآخرة.

وعلى هذا كان أنبياء بني اسرائيل مسلمين ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ﴾.

ولما دعا سليمان بلقيس دعاها للإسلام ﴿أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ ولما آمنت بلقيس مع سليمان عليه السلام أعلنت أنها أسلمت ﴿قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.

الاسلام زمن المسيح عليه السلام

ولما أُرسل المسيح عليه السلام صار الإسلام هو إفراد الله بالعبادة وقبول الشريعة الناسخة معه، ولهذا أعلن الحواريون إسلامهم ﴿قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾؛ فمن بقي على شريعة موسى وردّ شريعة المسيح الناسخة فقد خرج عن الإسلام..

والمسلم آنذاك هو من أفرد الله تعالى بالعبادة وقبِل الشريعة الناسخة مع المسيح..

فمن نقض أحد هذين الأصلين، أو كليهما، في زمن المسيح نفسه وقبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فقد خرج عن الإسلام، وذلك أن من عبد المسيح من دون الله، أو بدّل أحكام المسيح فاستحل ما حرم الله، فقد خرج عن الإسلام في هذا الزمن..

من صدّق الله إسلامَه

أما من حافظ على توحيده، واعتقاده ببشرية المسيح وعبوديته لله ورسالته له، والْتزم الشريعة الناسخة معه، مع ما أبقاه المسيح من العمل بالتوراة؛ فهو المسلم قبْل الإسلام الخاص ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم..

وهؤلاء صدّقهم الله تعالى حين قالوا ﴿إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ﴾ وقال تعالى عنهم ﴿أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا﴾، كما جاء في سورة القصص..

وجاءت فيهم أيضا آيات سورة المائدة ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ﴾.

وجاء في علمائهم ﴿قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا﴾.

من كذّب الله ادعاءهم للإسلام

أما من عبد الصليب واستحل الخمر والخنزير فقد أكذبهم الله ورسوله في ادّعائهم الإسلام، فلما «قالوا يا محمد قد كنا مسلمين قبلك؛ فقال كذبتم يمنعكم من الإسلام ثلاث: قولكم اتخذ الله ولدا، وأكلكم الخنزير، وسجودكم للصليب»(2)

وأكذبهم الله تعالى؛ إذ لمّا ادعوا الإسلام فرض الله تعالى عليهم الحج ﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ فقالوا لا نحج، فقال تعالى ﴿وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾.

امتحان المدعين .. ودعوتهم لتحقيق حقيقة الدين

كما أن الله تعالى وصف لهم حقيقة الإسلام لمّا ادّعوها، فلما تراجعوا عنها أعلن أن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم هم المسلمون دونهم، وأنهم كفروا بما نطقت به الكتب وتتابعت عليه الرسل بقوله تعالى:

﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ يعني دونكم، أي أننا مسلمون حقّقنا حقيقة الإسلام التي جاء بها جميع الأنبياء بينما كفرتم بها لخروجكم عن حقيقتها..

فالإنتساب للأنبياء لا يُغني إن تخلفت الحقيقة.

أوجه الخروج عن الإسلام

ومن كان على الإسلام قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ولكن لمّا جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم رَد الشريعة الناسخة معه، حسدا أو بغيا أو كِبرا، فهذا قد كفر حينئذ.

ومن كان منحرفا عنها قبل بعثته بعبادة المسيح أو تبديل شريعته ثم كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ورد رسالته فقد ازداد كفرا آخر، وهو وجه آخر للكفر واستحقاق الغضب من الله..

وهذا معنى قوله تعالى عن اليهود ﴿فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ﴾ قال المفسرون: غضب لاحِق بسبب كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم مع غضب سابق بسبب كفرهم بالمسيح عليه السلام من قبل.

ولهذا جاء في الحديث «إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب» (3).

فالممقوتون هم من انحرفوا عن قاعدة الإسلام بالشرك أو تبديل الشرائع قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأما البقايا منهم فكانوا على التوحيد واتباع الشرائع الناسخة في زمنهم وهم المسلمون آنذاك، فلما بُعث رسول الله أسلموا دون تردد.. رضي الله عنهم.

الأمر بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم

وعلى هذا فبعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يوجد من هو مسلم على توحيد الأنبياء إلا من عبد الله وحده ولم يقل ببنوة أحد أو ألوهية من سواه، واتبع الشريعة الناسخة مع محمد صلى الله عليه وسلم فصدّقه واتبعه. وهذا يتضمن الإيمان بجميع الكتب والرسل قبله.

فكل من عبد غير الله، كمن عبد المسيح أو العزير أو غيرهما من أهل الصلاح، فهذا قد أشرك.

ارتباط الإيمان بالأنبياء؛ فمن كفر بأحدهم فقد كفر بنبيه

فمن كذّب بمحمد صلى الله عليه وسلم أو ردّ شريعته، فقد كفر، بل قد كفر بنبيّه قبل أن يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ولو كان بسبب التعصب لنبي ما؛ إذ ما أرسل الله تعالى نبيا قبل محمد صلى الله عليه وسلم إلا وأمره أن يؤمن بمحمد لو بعث وهو حيّ، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته أن يؤمنوا به إذا أُرسل صلى الله عليه وسلم..

فجميع الأمم السابقة ـ أصحاب الكتب ـ عندهم خبر ببعثة محمد، صلى الله عليه وسلم، وأمْرٌ باتباعه؛ فمن كذّب به فقد كذّب به وبنبيه، ومن ردّ أمره فقد ردّ أمره وأمر نبيه أيضا..

قال تعالى ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾.

ولهذا قال بعدها، في سياق مؤكدٍ للمعنى الذي نقرره هنا ﴿قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾.

الإيمان الشرعي منفي عن من لم يقبل الشريعة الناسخة

وعلى هذا فلا يقال أنهم مؤمنون، كما لا يقال على المشركين أنهم مؤمنون..

فالمشرك الوثني المعترف بوجود الله لكن لم يعبده بل عبد وسائط وأصنام تمثل قوى روحية في زعمه، وكذّب خبر الله وردّ أمره، فهذا قد كفر..

والمنحرف من أهل الكتاب الذي عبد غير الله فألّه نبيا أو زعم لله ولدا أو صاحبة، أو اعتقد حلول الله في مخلوق أو اتحاده به، أو كذب خبر الله ورسالة النبي، أو ردّ أمره الناسخ، فهذا قد كفر..

ولهذا جمع الله تعالى بين الوثنيين وكفار أهل الكتاب فقال ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ فجعل تعالى الكفار قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم نوعين: من أهل الكتاب والوثنيين.

الإيمان اللُغوي لا ينفع صاحبه

ولا يقال على الوثنيين أنهم مؤمنون، ولكن إذا لم يكونوا ملحدين منكرين لوجود الله، وكانوا مقرين بوجوده تعالى «توحيد الربوبية» وُصِف إقرارهم أنه إيمان مقيَد مختلط بالشرك، بمعنى أنه إقرار بالربوبية، كما قال تعالى ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ﴾.

وهذا ليس مدحا لهم بل هو ذم لهم إذ هو بيان وجه قيام الحجة عليهم؛ أنهم يعرفون الله ويقرون به ـ وهو معنى الإيمان المقيَّد هنا، وهو إيمان لغوي لا ينفع صاحبه لأنه ليس إيمانا شرعيا مقبولا ـ وهم مع هذا يعبدون غيره.

وكذا الأمر مع أهل الكتاب؛ لا يطلق عليهم اسم الإيمان الشرعي ولا الإسلام بل هم مشركون وكافرون..

وإذا ذُكر وجه إيمانهم ببعض الأنبياء أو بعض الكتب فيذكر معه وجه شركهم وكفرهم بعدم إفراد الله بالعبادة ولا تصديق أو قبول الشريعة الناسخة والرسالة الخاتمة مع معرفتهم بالحق؛ مع انحرافهم عما كان عليه أنبياؤهم؛ فهو أيضا حجة عليهم لا مدحا لهم..

السماع برسول الله حجة على صاحبه

وعلى هذا فلم يبق بعد رسالة محمد، صلى الله عليه وسلم، مسلم ولا مؤمن إلا من وحّد الله فأفرده بحقه الخالص في العبادة والتشريع..

ولا يتحقق هذا إلا بتصديق وقبول الرسالة الخاتمة مع محمد صلى الله عليه وسلم ما دام سمع به؛ إذ مجرد السماع به تقوم به الحجة؛ قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، ولا يهودي ولا نصراني، فمات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار»(4).

إيضاح معنى آية أشكلت على البعض

ولهذا كان معنى قوله تعالى  ﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ مقصودا به من آمن من أصحاب هذه الملل في زمنه بربه تعالى فوحده وأفرده بالعبادة والتزم الشريعة التي خوطب بها في ذلك الزمان.

والمقصود بالصابئين هنا قوم لهم كتاب وليس الصابئة المشركين الفلاسفة، إذ إن الصابئة نوعان.

فالملل الأربع هنا، وفي سورة المائدة، هي ملل لها كتب سماوية؛ فهي ملل انحرفت عن نبوات، بخلاف الملل الست في سورة الحج فهي حصر لجميع الملل سواء كان لهم كتاب أم لا.

وهذا الأمر هو أمر عقيدة، وهو محل إجماع المسلمين..

الخطر العقدي على من يدّعي إيمان اليهود والنصارى اليوم

وليس من أحد ينكر كفر من لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ولم يتبع شريعته ويفرد الله بالعبادة، لا ينكر كفر مَن هذا شأنه إلا من كذّب بخبر الله بكفرهم أو ردّه ورفضه؛ فيكفر هو بذلك؛ ولذلك كان من نواقض الإسلام

الثالث: من لم يكفّر المشركين أو شكّ في كفرهم أو صحح مذهبهم كفر.(5)

وكل هذا محل إجماع، ولا تلتف لدعاة الضلالة وعلماء السوء المتحرجين من هذا؛ بينما لا يتحرجون عن دماء المسلمين وأعراضهم، ولا عن دين الأمة أن يهان ويبدَّل، فهم على أبواب جهنم دعاة، يُلبسون الحق بالباطل..

فاستمسِك بالعروة الوثقى فلا مجاملة في الحق، ولا مجاملة على حساب الحق.. والله تعالى الهادي والعاصم.

……………………………………

هوامش:

  1. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، جـ2، ص 378-380.
  2. رواه أحمد والبخاري والنسائي.
  3. أحمد ومسلم والنسائي.
  4. صحيح مسلم، حديث رقم: 153.
  5. نواقض الاسلام العشرة، للشيخ محمد بن عبد الوهاب.

اقرأ أيضا:

  1. الإسـلام هويـة تجمـع الأمـة
  2. الإسـلام شريعـة تحكـم حيـاة الأمـة
  3. معنى «لا إله إلا الله». للإمام محمد بن عبد الوهاب
  4. أعظم نواقض الإسلام عشرة. للإمام محمد بن عبد الوهاب

التعليقات غير متاحة