يعرف أهل الكتاب حقيقة هذا الدين، وينطلقون في عدواته من علم لا من جهل، وثناؤهم لا يعني فوزهم ولا عقلهم، وعلى المسلمين القيام بأمر دينهم.

مقدمة

أخبرنا ربنا تعالى في كتابه بحقائق الوجود، وطرفا من الغيب، وحقائق النفوس والحياة والأحياء، وما تكنه صدور العدو من مواقف ودوافع، ومشاعر واتجاهات.

ومن هذا ما أخبرنا تعالى عن حقيقة كبيرة ومفاجئة عن نفوس أهل الكتاب، وهم يعرفون الحق كما يعرفون أبناءهم لكنهم يرفضونه عن بينة، ويدرسونه ليحاربوه؛ فسبحان مقلب القلوب.

يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: 20].

الدروس المستفادة من هذه الآية

الدرس الأول: العداوة عن علم

أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ولاسيما علماؤهم ومثقفوهم ومستشرقوهم يعرفون دين الإسلام، ويعرفون رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم، والكتاب الذي أنزل على رسوله معرفة تفصيلية، كما يعرفون أبناءهم؛ أي: يعرفون أنه الحق، ولكنهم يكتمون ذلك العلم، ويستكبرون، ويستنكفون أن يدخلوا في دين الله عز وجل، أي: أن هذه العداوة لم تنشأ عن جهل بدين الإسلام، وإنما عن علم بحقيقة هذا الدين، ولكنهم يحسدون أهله حقدًا وإباء واستكبارًا.

الدرس الثاني: يبحثون عن مقتل

كما نخرج من مفهوم هذه الآية: أن عداوة الكفار للمسلمين وكيدهم لهم، إنما هي عداوة استراتيجية متجذرة في أعماق التاريخ، ولقد حذرَنا الله عز وجل في مواطن كثيرة من كتابه الكريم من هذه العداوة، كما في قوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ۚ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [آل عمران: 118].

وفي قوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ [الممتحنة: 1].

ولم تظهر هذه العداوة بشكلها الواضح الجلي، كما تظهر في زماننا اليوم، الذي يشن فيه الكفار والمنافقون بجميع مللهم حربًا عالمية حاقدة على الإسلام وأهله الصادقين المتبعين لسلف الأمة، التي انطلق فيها الكَفَرة في حربهم من عدة محاور، وعلى أصعدة مختلفة، سواء على الصعيد العسكري بالقتل والتعذيب والسجن والتشريد، واحتلال البلاد ومقدَّراتها، أو على الصعيد الفكري ببثّ الشبهات وهدم أركان العقيدة وأصولها، أو على الصعيد الاقتصادي بتجويع المسلمين والاستيلاء على مقدراتهم وإضعاف اقتصادهم وتجفيف المنابع الداعمة للدعوة والجهاد في سبيل الله تعالى، أو على الصعيد الأخلاقي بنشر الشهوات والرذائل والإباحية، وتغريب مجتمعات المسلمين وبيوتهم.

يقول سيد قطب رحمه الله تعالى عن عداوتهم وكيدهم لهذا الدين:

“إن أهل الكتاب يعرفون أن هذا الكتاب حق من عند الله، ويعرفون ـ من ثَمَّ ـ ما فيه من سلطان وقوة ومن خير وصلاح.

ويحسبون كل حساب لهذا الكتاب وأهله، يعلمون جيدًا أن الأرض لا تسعهم وتسع أهل هذا الدين.

ويعرفون أن الجاهلية التي صاروا إليها وصارت إليها أوضاع قومهم وأخلاقهم وأنظمتهم، لا يمكن أن يهادنها هذا الدين أو يبقى عليها. وأنها ـ من ثَمَّ ـ معركة لا تهدأ حتى تخلو الجاهلية عن هذه الأرض.

إن أهل الكتاب يعلمون جيدًا هذه الحقيقة في هذا الدين، ويعرفونه بها كما يعرفون أبناءهم.. ويبحثون بجد كيف يستطيعون أن يفسدوا القوة الموجِّهة في هذا الدين؛ كيف يلقون بالريب والشكوك في قلوب أهله..؟ كيف يحرّفون الكلم فيه عن مواضعه..؟

إن أهل الكتاب يدرسون هذا الدين دراسة جادة عميقة فاحصة، لا لأنهم يبحثون عن الحقيقة، كما يتوهم السذج من أهل هذا الدين؛ كلا إنما هم يقومون بهذه الدراسة الجادة العميقة الفاحصة؛ لأنهم يبحثون عن مقتل لهذا الدين.

وهم من أجل هذه الأهداف والملابسات يعرفونه كما يعرفون أبناءهم”. (1«في ظلال القرآن» (2/ 1061) باختصار)

الدرس الثالث: نحن أَوْلى بالمعرفة

إذا كان أهل الكتاب يدرسون هذا الدين ويعرفون أهله المتسمكون به على الحقيقة، كما يعرفون أبناءهم، وهدفهم هدم هذا الدين؛ فإن واجبنا نحن المسلمين أن نكون أولى بهذه المعرفة، وأن يكون علمنا بديننا ومعرفتنا بأصوله وخصائصه ومقوماته أَوْلى، وأوْلى من أهل الكتاب، ليزداد حبنا لديننا وتزداد تضحياتنا في الدعوة إليه، والجهاد في سبيله، وإنقاذ البشرية، وإسعادهم بالعيش في ظلاله، والتقرب إلى الله عز وجل بالتسليم لأخباره وأحكامه بالتصديق والقبول والانقياد.

كما يجب علينا الاستزادة من معرفة سبيل المجرمين وكيدهم وعداوتهم لنا ولديننا.

الدرس الرابع: المعرفة لا تكفي؛ فأين الانقياد..؟

إن معرفة رموز الكفار ومثقفيهم بدين الإسلام الحق، ثم هم لا يؤمنون به، ولا يدخلون فيه، دليل على أن الإيمان لا يكفي فيه مجرد الإقرار والتصديق به، وإنما يجب أن ينضم إلى ذلك: القبول والانقياد والإذعان له.

فهؤلاء هم أهل الكتاب يعرفون هذا الدين، ويذكرون محاسنه، ويصدّق بعضهم بأنه دين حق، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم رسول من عند الله، ولكنهم يرفضون الدخول فيه؛ فهل يدخلهم هذا في الإسلام؟

كلا، لا يًدخلهم هذا الإقرار في دين الإسلام، لاستكبارهم وإبائهم أن يقبلوه، وأن تذعن له قلوبهم وتنقاد له.

الدرس الخامس: أين العقلاء..؟!

يتوهم بعض المسلمين، ومنهم ـ وللأسف ـ بعض المثققين والكُتاب من أبناء المسلمين، أن من أهل الكتاب ولاسيما المستشرقون منهم، الذين يبحثون ويكتبون عن الإسلام وعقائده وأحكامه وتاريخه، بأن منهم عقلاء ومنصفين! وذلك حين يرون من باحث أو مستشرق ثناءه على جانب من جوانب الدين الإسلامي..!

وهذا في الحقيقة منهم سذاجة وابتلاع للسم والطعم، إذ لا يمكن وصف إنسان يعرف الحق المتمثل في هذا الدين، ثم لا يدخل فيه وينقاد له، بل يبقى على كفره واستكباره؛ بأنه عاقل؛ بل لا أسفه ولا أخسر منه، ولا يمكن أن يكون بموقفه هذا عاقلًا أو منصفًا، إذ كيف يقال عن إنسان يعلم الحق والعاقبة الطيبة لأهله المؤمنين به في الدنيا والآخرة، ثم يبقى على باطله، وهو يعلم عاقبة السوء لأهله في الدنيا والآخرة..؟

قــال اللَّـه عزوجل: ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة: 130]. وقال سبحانه: ﴿أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ ۚ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [الرعد: 19].

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى:

“فلا يُسمى عاقلًا إلا من عرف الخير فطلبه، والشر فتركه؛ ولهذا قال أصحاب النار: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [الملك: 10].

وقال عن المنافقين: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ﴾ [الحشر: 14].

ومَن فعل ما يعلم أنه يضره فمثل هذا ما له عقل”. (2«مجموع الفتاوى» (7/ 24))

وقال سفيان بن عيينة، رحمه الله تعالى:

“ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشر، إنما العاقل الذي إذا رأى الخير اتبعه، وإذا رأى الشر اجتنبه”. (3«حلية الأولياء» (8/ 339))

وعلى هذا؛ فإن من الخطأ ما يطلقه اليوم بعض كتاب المسلمين عن بعض مفكرى الغرب والمستشرقين بأن منهم منصفين وعقلاء، وكان ينبغي أن يقال: إن منهم أذكياء ونابغين، أما أن يوصفوا بالعقل وهم يعرفون الإسلام كما يعرفون أبناءهم ثم لا يؤمنون به؛ فإنهم بذلك يحكمون على أنفسهم بالسفه وعدم العقل؛ حين تركوا ما يعلمون فيه من خيرهم، وبقوا على ما يعلمون فيه ضرره عليهم في الدنيا والآخرة، ومثل هذا لا يمكن أن يكون عاقلًا أبدًا.

الدرس السادس: ميزان الربح والخسارة

ومن فوائد هذه الآية بيان الميزان الشرعي لحقيقة الخسران والربح؛ حيث قال الله عز وجل في ختام هذه الآية: ﴿الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام:12].

ففي هذه الآية يعرفنا الله عز وجل على ميزان “الخسران” الحقيقي، ألا وهو خسارة الإنسان لنفسه بعدم الإيمان، وما يترتب على ذلك من خلودها في نار جهنم؛ فأي خسارة أعظم من ذلك..؟!

قال الله تعالى: ﴿فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ ۗ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ۚ ذَٰلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ ۚ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ﴾ [الزمر: 15-16].

كـما بـيّن لنـا سبحانه المـيزان الحقـيقي للـربح والفـوز، كما في قوله: ﴿وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التغابن: 9].

ومن قوله صلى الله عليه وسلم: «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها». (4مسلم، برقم (725))، وقوله صلى الله عليه وسلم لصهيب الرومي رضي الله عنه لما ترك ماله للمشركين في مكة، وهاجر إلى رسول الله في المدينة: «ربح البيع أبا يحيى». (5«كنز العمال» (2/ 4279) رقم (4279)، وعزاه ابن عساكر إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، ورواه ابن أبي نعيم في «الحلية» (1/ 151)، وانظر «تفسير ابن كثير» (1/ 565))

وبالنظر إلى هذا الميزان الشرعي للربح والخسارة يتبيَّن لنا ما يضاده من الموازين الأرضية البشرية؛ لأن الشيء يُعرف بضده، والأصل الذي تنطلق منه هذه المعايير هو نظرة هذه الموازين إلى أن الدنيا وزخرفها والتكاثر فيها هي ميزان الربح والخسارة، فمن حصل على النصيب الأكبر منها فهو الرابح، ومَن حُرِمها فهو الخاسر، وسواء كانت هذه الدنيا مالًا، أو متاعًا، أو أولادًا، أو جاهًا، أو منصبًا، أو أيَّ شيء من متاع الحياة الدنيا.

قال الله عن أصحاب هذه الموازين: ﴿وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ [سبأ: 35].

وقال عن المخدوعين بدنيا قارون: ﴿قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [القصص: 79].

خاتمة

معرفة هذا الدين لا تكفي، فإنه هو الحق وكل من عرفه فلا بد أن يدرك جوانب الحق والقوة والأصالة فيه، ويدرك الأصل الرباني له.

ولكن أن يعرفه العدو أكثر من أهله فهذا قصور شديد من أهله، لأنه يعرف ليحارب ونحن نعرف لنقوم به؛ فنحن أولى. فلا بد من أن تكون هناك ضميمة الانقياد والقيام بأمر الله، وإيصال هذا الدين بلا غبش الى العالمين.

نعم يزداد الناس يقينا مع توالي أدلة الحق على القلب، وعندما ينطق العدو نفسه بهذا؛ لكنه عدو يجب الحذر منه، ويجب أن نقوم نحن بما أمر الله.

………………………

الهوامش

  1. «في ظلال القرآن» (2/ 1061) باختصار.
  2. «مجموع الفتاوى» (7/ 24).
  3. «حلية الأولياء» (8/ 339).
  4. مسلم، برقم (725).
  5. «كنز العمال» (2/ 4279) رقم (4279)، وعزاه ابن عساكر إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، ورواه ابن أبي نعيم في «الحلية» (1/ 151)، وانظر «تفسير ابن كثير» (1/ 565).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة