من محاسن الشريعة المحمدية المباركة أنها تراعي الحال والمآل. وأنها تنظر الى نواتج الأعمال فتشرعها لتفتح بها طرقا للخير أو تمنعها لمنع مآلات مبغوضة تضر المكلَف في دينه أو دنياه.

مقدمة

لما كان العلم بفقه الموازنات والأولويات وفقه المآلات.. ضمن علوم ثلاثة ـ مر بيانها ـ لا بد من معرفتها للقدرة على الفقه في النوازل:

العلم بأسماء الله تعالى وصفاته والتعرّف اليه تعالى الجزء الأول، والعلم بالسنن الإلهية الجزء الثاني، والعلم بفقه الموازنات والأولويات وفقه المآلات الجزء الثالث، ثم أوضحنا أمثلة على الخلل في العلم بفقه الموازنات الجزء الرابع..

وقد أوضح الكاتب فقه التوازنات والأولويات.. وهنا يوضح فقه المآلات وضرورة اعتبار مآلات الأقوال والأفعال والإفتاء، وأن يكون مراعَى للمجتهد في اجتهاده، وفي هذا السياق تأتي قاعدة سد الذرائع وما ينبني عليها من الفقه، فيزداد العبد إقداما على العمل أو إحجاما عنه..

ثانيا: العلم بفقه المآلات

وهذا العلم من العلوم المهمة الشريفة التي تهدي صاحبها ـ بإذن الله تعالى ـ إلى السداد والصواب في الأحكام والمواقف، وفي الغفلة عنه وعدم العناية به يكون التخبط والشرور والعواقب السيئة، فتكثر المواقف والأحكام الخاطئة التي يتسرع فيها أصحابها كانت نتيجة ردود أفعال غير مدروس عواقبها ومآلاتها.

وإن عدم الأخذ بفقه المآلات أو التهاون فيه لا يتوقف ضرره على التخبط والأخطاء في مجال الأحكام الفقهية فحسب؛ بل قد يتجاوزه إلى العقائد وما قد تتضرر به عقيدة الولاء والبراء من جراء إغفال هذا العلم الشريف.

ومن تأمل ما جرى على الإسلام وأهله من الفتن الكبرى والصغرى، قديما وحديثا، يرى أن أغلبها جاء من إضاعة هذه الأصل . وأن الحاجة إلى الفقه فيه ماسة وضرورية لتخليص الأفكار والمواقف من النزعة الشكلية وردود الأفعال المتسرعة التي تشكل عقبة في المواجهات الفعالة. (1انظر في مآلات الأفعال: د. حسن ابراهيم: مجلة البيان عدد39)

وعن أثر ردود الأفعال على المآلات وأثر القرآن والسنة في تهذيبها وترشيدها يقول «د. جمال نادي» حفظه الله تعالى:

القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة جاءت بتوجيهات دقيقة جامعة مانعة في نشر الخير وإخراج الناس من الظلمات إلى النور وتربية الدعاة على أن تكون أفعالهم وردود أفعالهم وليدة التأني والتفكير في المآلات والعواقب، بدل الحماسة المفرطة التي توصل صاحبها إلى حد التهور أو السطحية التي تفضي بصاحبها إلى الهلاك

أقسام الناس في مراعاة المآلات

ثم قسّم الناس في مراعاتهم لمآلات الأفعال في ردود الأفعال من عدمها فقال:

الأول: أن يتخذ رد الفعل دون تفكير في نتائجه ومآلاته وما يحدثه من ردود أفعال ممكنة.

الثاني: أن يتخذ مع تفكيرٍ في بعض مآلاته دون الآخرى أو تغليب جانب من المآلات وإهمال أخرى.

الثالث: ان يتخذ مع تفكير جدي في كل أو جُلّ مآلاته الممكنة والمحتملة. (2انظر مقال: اسس العقل الدعوي. مجلة البيان عدد201)

قاعدة سد الذرائع

والعلم بفقه المآلات ينبني عليه قواعد شرعية؛ من أهمها: (قاعدة سد الذرائع) التي عظّم أهل العلم شأنها ووصفها الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى بأنها تمثل ربع الشريعة وذلك في قوله رحمه الله تعالى:

وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف، فإنه أمر ونهي. والأمر نوعان؛ أحدهما: مقصود لنفسه، والثاني: وسيلة إلى المقصود. والنهي نوعان؛ أحدهما: ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه، والثاني ما يكون وسيلة إلى المفسدة. فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين. (3إعلام الموقعين:3/ 208)

والأدلة على هذه القاعدة من القرآن الكريم كثيرة أشهرها:

قوله تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ (الأنعام:108)

وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أمثلة لهذه القاعدة أوصلها إلى تسعين وجها من القرآن والسنة واعتبار المآلات أصلا من أصول الفقه جارٍ على مقاصد الشريعة لأنه يحدد كثير من المواقف والممارسات متى نقْدُم، ومتى نُحْجم، متى نصرح ومتى نلمّح، متى نداري ومتى نواجه…الخ

ضرورة اعتبار المآلات في فتوى المجتهد

وينبه الشاطبي رحمه الله تعالى إلى ضرورة اعتبار المآلات في فتوى المجتهد فيقول:

النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة. وذلك أن المجتهد لا يجتهد على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو الإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه فعله. (4الموافقات 1/ 140)

ويقول أيضا:

هو مجال للمجتهد صعْب المورد إلا أنه عذب المذاق، محمود الغِبّ، جارٍ على مقاصد الشريعة. (5الموافقات :4/ 110)

ويعلق الأستاذ الريسوني على كلام الشاطبي فيقول:

أي أن المجتهد، حين يجتهد ويحكم ويفتي، عليه أن يقدر مآلات الأفعال التي هي محل حكمه وإفتائه، وأن يقدر عواقب حكمه وفتواه، وألا يعتبر أن مهمته تنحصر في “إعطاء الحكم الشرعي”؛ بل مهمته أن يحكم في الفعل وهو يستحضر مآله أو مآلاته، وأن يُصدر الحكم وهو ناظر إلى أثره أو آثاره.

فإذا لم يفعل، فهو إما قاصر عن درجة الاجتهاد أو مقصر فيها. وهذا فرع عن كون “الأحكام بمقاصدها”.

فعلى المجتهد الذي أقيم متكلما باسم الشرع، أن يكون حريصا أمينا على بلوغ الأحكام مقاصدها، وعلى  إفضاء التكاليف الشرعية إلى أحسن مآلاتها. (6انظر المقاصد عند الامام الشاطبي ص353)

أحوال الأعمال مع مآلاتها

والأعمال بالنسبة لمآلاتها أربعة أقسام:

الأول: ما يكون أداؤه يؤول إلى الفساد قطعيا: كمن حفر بئرا مكشوفة في طريق المسلمين فهذا ممنوع بالإجماع.

الثاني: ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادرا فهذا كزراعة العنب مع أنه قد يتخذ خمرا. فهذا حلال لا شك فيه.

الثالث: ما يكون أداؤه إلى المفسدة من باب غلبة الظن كبيع السلاح وقت الفتن وبيع العنب للخمار وهذا ممنوع أيضا.

الرابع: مايكون أداؤه إلى المفسدة دون غلبة الظن؛ كالبيوع التي تتخذ ذريعة للربا وهذا موضع خلاف. (7انظر أصول الفقه لأبي زهرة، ص289)

والمتأمل في فقه المآلات يرى أنه لا ينفك عن فقه الموازنات والأولويات التي سبق الحديث عنها حيث أن كثيرا منه مبني على قاعدة الترجيح بين المصالح والمفاسد، وأيهما أولى بالتقديم والارتكاب حسب درجة تحققهما في الواقع وحسب أهميتهما.

مثال إنكار المنكر

ومن ذلك إنكار المنكر وأن غايته إزالته أو تخفيفه أو حدوث المعروف، فإذا كان الإنكار سيؤدي إلى منكر أكبر منها فإنه لا يسوغ إنكاره.

ويتضح من هذا أن القواعد الشرعية مرتبطة بعضها ببعض والفقه في إنكار المنكر وما يؤول إليه يمكن إدخاله تحت فقه المآلات، كما أنه يدخل تحت قاعدة سد الذرائع كما سبق ذكره، ويمكن أن يندرج أيضا تحت قاعدة (تغيير الفتوى بتغير الحال والزمان والمكان).

وجوب تفطن المفتى لأغراض المستفتي

وهذا هو الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، يحذّر من مكر وخداع بعض المستفتين الذين يسعون إلى توجيه فتوى المفتي وتوظيفها في تحقيق المقاصد والمآلات التي يريدونها؛ فإن لم يتفطن المفتي إلى مآلات فتواه وإلى هذه المقاصد الفاسدة التي يريدها المخادعون في تحقيق مآربهم الفاسدة فإنه يَضل ويُضل.

قال رحمه الله تعالى:

يحرم عليه ـ أي على المفتي ـ إذا جاءته مسألة فيها تحيّل على إسقاط واجب أو تحليل محرم أو مكر أو خداع أن يعين المستفتى فيها ويرشده إلى مطلوبه أو يفتيه بالظاهر الذي يتوصل به إلى مقصوده..

بل ينبغي له أن يكون بصيرا بمكر الناس وخداعهم وأحوالهم، ولا ينبغي له أن يحسن الظن بهم بل يكون حذرا فطنا فقيها بأحوال الناس وأمورهم يؤازره فقهه في الشرع، وإن لم يكن كذلك زاغ وأزاغ.

وكم من مسألة ظاهرها ظاهر جميل وباطنها مكر وخداع وظلم! فالغِرُّ ينظر إلى ظاهرها ويقضى بجوازه، وذو البصيرة ينقد مقصدها وباطنها..

فالأول يروج عليه زَغل المسائل كما يروج على الجاهل بالنقد زَغل الدارهم.

والثاني يُخرج زيفها كما يخرج الناقد زيف النقود.

وكم من باطل  يخرجه الرجل بحسن لفظه وتنميقه وإبرازه في صورة حق، وكم من حق يخرجه بتهجينه وسوء تعبيره في صورة باطل! ومن له أدنى فطنة وخبرة لا يخفى عليه ذلك، بل هذا أغلب أحوال الناس ولكثرته وشهرته يستغنى عن الأمثلة.

بل من تأمل المقالات الباطلة والبدع كلها وجدها قد أخرجها أصحابها في قوالب مستحسنة وكسوها ألفاظا يقبلها من لم يعرف حقيقتها. (8أعلام الموقعين:4/ 229)

خاتمة

بهذا جاءت الشريعة المباركة؛ فلا تنظر للعمل الآني فقط بل تنظر الى نواتجه ومآلاته فحصّلت للمكلف مصالحه حالا ومآلا في الدنيا، ومآلا في الآخرة. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

…………………………………………

هوامش:

  1. انظر في مآلات الأفعال: د. حسن ابراهيم: مجلة البيان عدد39.
  2. انظر مقال: اسس العقل الدعوي. مجلة البيان عدد201.
  3. إعلام الموقعين:3/ 208.
  4. الموافقات 1/ 140.
  5. الموافقات :4/ 110.
  6. انظر المقاصد عند الامام الشاطبي ص353.
  7. انظر أصول الفقه لأبي زهرة، ص289.
  8. أعلام الموقعين:4/ 229.

لتحميل الدراسة كاملة على الرابط التالي:

اقرأ بقية أجزاء الدراسة:

فقه النوازل في ضوء الكتاب والسنة (1-7) علوم ضرورية، العلم بالأسماء والصفات

فقه النوازل في ضوء الكتاب والسنة (2-7) علوم ضرورية، العلم بالسنن الالهية

فقه النوازل في ضوء الكتاب والسنة (3-7) علوم ضرورية، فقه الموازنات والأولويات

فقه النوازل في ضوء الكتاب والسنة (4-7) أثر الخلل في العلم بفقه الموازنات

فقه النوازل في ضوء الكتاب والسنة (6-7) خطورة عدم اعتبار المآلات

فقه النوازل في ضوء الكتاب والسنة (7-7) أمثلة معاصرة لقاعدة النظر في المآلات

التعليقات غير متاحة