الاستهانة بأولى خطوات الانحراف وخيم العاقبة وخطر تنهار معه الحضارات وتنحدر معه الأخلاق وتسقط به موانع ومعاقل. فمن التقوى والحسم والأخذ على اليد من البداية هو التصرف الأصوب.

حديث عظيم القدْر

يقول الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم: «ما أسكر كثيره فقليله حرام». (1رواه أبو داود)

لعل ظاهر اللفظ يوحي بأن الخمر وحدها هي المقصودة بالحديث؛ ولكني ألمح أنه قاعدة تشريعية شاملة، تنطبق على الممنوع كله والحرام كله، وتنطبق على الخمر والربا، والسرقة والغصب، والغمز واللمز، والغيبة والنميمة، والكذب والنفاق.. وعلى الجريمة الخُلقية خاصة..!

وقليل الخمر لا يسكر. وقليل كل شيء لا ضرر فيه..

ما شَرْبة خمر..؟ ما كأس بين الحين والآخر..؟ في الحفلات مثلاً والأفراح..؟!

وما كذبة بين الحين والحين بيضاء أو غير بيضاء..؟

وما القروش القليلة يختلسها من مبلغ ضخم لا يمكن أن تؤثر فيه..؟

وما الضرر في قليل من النفاق تسير به الأمور و”تشحَّم” عجلة الحياة فلا يقع فيها احتكاك ولا صدام..؟

وما نظرة عابرة إلى فتاة..؟ أو ابتسامة..؟ أو كلمات..؟ أو شيء قليل من المداعبة لا يبلغ حد الجريمة.. قُبلة أو ضمة أو ما أشبه؟

فلتكن الجريمة..! جريمة عابرة.. تتم في الظلام، خِلسة، لا يعلم بها أحد، ولا تؤثر في خط سير الحياة.. هل تنهدّ الدنيا إذا حدث ذلك أو تنهار الأخلاق..؟

كذلك تبدو الأمور للوهلة الأولى؛ سهلة هينة لا تستلزم التشديد ولا توجب الاهتمام..!

كذلك قصة كل جريمة من جرائم الأخلاق.. قصة الكذب والخداع والنفاق والغش والتدليس، قصة الغيبة والنميمة ونهش الأعراض وكشف العورات، قصة الرشوة والظلم والفساد، قصة القعود عن نصرة الحق والجهاد في سبيله، قصة الترف والسرف والفجور والمجون.

وهي على الأخص قصة ” التقاليد فيما يختص بالرجل والمرأة والاختلاط والجريمة..

يبدأ المجتمع ” نظيفاً ” متحفظاً لا يسمح بالاختلاط ولا يتهاون في الجريمة. ولا نقصد ” بالنظافة ” أنه مجتمع من الملائكة الأطهار قد خلا من الجريمة. فهذا شيء لم يحدث في التاريخ..!

في هذا المجتمع النظيف توجد حالات فردية غير نظيفة؛ ولكنها قليلة ومستترة وعدواها محدودة؛ وذلك نتيجة الحرص الدائم الذي يبذله المجتمع في عملية التنظيف.

ولكنه في وقت من الأوقات يتراخى.. وعندئذ يأخذ الوباء في الانتشار التدريجي البطيء. وفي حالة الأوبئة الجسمية ينتشر المرض بسرعة وبطريقة ملموسة مميتة.

ومن هنا يهبّ الناس للوقاية والكفاح في أسرع وقت ويتساندون ويتكاتفون لوقف الوباء.

ولكن الأوبئة النفسية ذات طبيعة أخرى؛ فالنفس بطبيعتها استجابة من الجسم. والمناعة النفسية اللاشعورية ـ حين توجد ـ تستطيع أن تقاوم المرض أو على الأقل تخفف حدّته القاتلة مدى أجيال.

عواقب الانحراف ونهاية الخط

ولذلك فالفساد الخُلقي بطيء المفعول جداً. وقد تمر أجيال كاملة على مجتمع منحل الأخلاق قبل أن ينهار؛ بل إن الانحلال قد يستشري في جيل من الأجيال الأخيرة إلى حد يعييك فيه البحث عن جماعة واحدة فاضلة. ومع ذلك فقد لا تقع الكارثة في هذا الجيل بالذات. ومن ثم يغرى الناس بالظن أن كل النذر خرافة، وأنهم مستمتعون بكل ما يشتهون، ثم ناجون مما كانوا يحذرون..!

ولكن سنة الله في النهاية تتحقق..! لم تتخلف مرة واحدة في التاريخ..!

لم يحدث أن استمتع الناس بشهواتهم الزائدة إلى غير حد، ثم استمروا إلى الأبد أقوياء متماسكين قادرين على الحياة..!

وهذه صفحة التاريخ مفتوحة لمن يريد..

صفحة اليونان القديمة وروما القديمة وفارس القديمة، والعالم الإسلامي حين غرق في الشهوات، ثم صفحة الغرب في جاهليته المعاصرة.

تبدأ الجريمة بسيطة خفيفة لطيفة؛ ولكن الجيل الأول مع ذلك لا يسرف في الجريمة، ولا يصل إلى الإدمان المجنون.

هنالك الشخص الواقف في داخل النفس بالمرصاد، ومعه العصا ينذر ويحذر ويهدد بعظائم الأمور. وهنالك التقاليد التي تربط المجتمع ولا يسهل الخروج عليها دفعة واحدة. ومن ثم لا تحدث الجريمة كاملة في أول جيل، وإنما ” يتبحبح ” الناس قليلاً ويفكون القيود.

ويمضي المجتمع في طريقه منتشياً لا يحس بالخطر، ولا خطر ـ حتى الآن ـ هناك.

ويظن المجتمع ـ نظرياً ـ أنه قادر على ذلك إلى غير نهاية. قادر على أن يفك القيود ومع ذلك لا يقع في الجريمة أو لا يصل إلى الإسراف المعيب.

وهو مخلص في عقيدته تلك الضالة لأنه يقيس على نفسه ويغفل حقيقة الأمور.

تراجع الأجيال

يغفل الضوابط الخفية التي أنشأها في أعماق نفسه الجيل السابق المتحفظ. والتي لن يخلفها هو للجيل المقبل لأنه غير مؤمن بها، يظنها تشدداً بلا ضرورة ولا لزوم..!

ينسى الرجل أنه قد رأى أمه متحفظة لا تختلط بالرجال، ورآها مكتسية لا يتعرى من جسمها شيء، ومن ثم تقاومه هذه الصورة على غير وعي منه وهو يدعو فتاة غريبة إلى الاختلاط به، ويدعوها إلى تعرية نفسها أو جسدها ليستمتع به.

نعم تقاومه حتى وهو مندفع الشهوة، فلا يسرف، ولا يتبجح بالإثم.

والفتاة التي رأت أمها متحشمة وزرعت في نفسها النفور من العري ـ النفسي والجسدي ـ تتحفظ كذلك ـ بوعي منها وبغير وعي ـ حتى وهي تهمّ بالانزلاق، فلا تسرف ولا تتبجح بالإثم.

ثم يتراجع هذا الجيل..

ويجيء جيل جديد تربية الأم التي ذاقت في شبابها “متعة” التحلل البسيط من القيود، والأب كذلك.

الأم والأب اللذان ذاقا شيئاً من المتعة ولم يسقطا السقوط الكامل ـ والأم خاصة ـ لن ينظرا إلى التقاليد ” المتزمتة ” بعين الاحترام.

علام التشدد..؟ ألم ينفلتا هما من هذا التشدد ولم يحدث شيء..؟ “فليتبحبح” الأولاد “قليلاً” ولا ضير..! ومن ثم ينشأ الجيل الجديد وقد ضعف الشخص الواقف في داخل النفس بالمرصاد، ولانت العصا فلم تعد تترك أثراً في الضمير، وتفككت التقاليد فلم تعد تمنع المحظور.

ويتراجع هذا الجيل..

ويأتي جيل يرى أمه قد تعرَّت، من شيء من الثياب وشيء مماثل من الفضيلة (والجسم والنفس صنوان في هذه الأمور..!)

الولد الذي يرى أمه عارية لا تثور في نفسه نخوة الرجولة والحرص على الأعراض، فقد زالت في نفسه حرمة الجسد، وصار نهباً يباح للعيون، وبعد ذلك لما هو أكثر من العيون.

والبنت التي ترى أمها عارية لا تؤمن بالقيد.

ويلتقي هؤلاء الأولاد والبنات، يلتقون على شهوة الجسد الفائرة، ويلتقون بلا ضابط ولا حدود، وتتم الدورة المحتومة، والهاوية في آخر الطريق.

والبشرية ـ حين تُترك وشأنها ـ قليلاً ما تتذكر، وقليلاً ما تتدبر عبرة التاريخ..!

كل جيل يدفعه الغرور من ناحية، والنشوة الفائرة من ناحية أخرى؛ فيظن أن تجربته جديدة لم تمر على أحد من قبل، وأنه ليس مقيَداً بسنة التاريخ.

تبريرات الأجيال

ما أسهل ما يقول لنفسه: إن الأمة الفلانية قد انهارت لكذا، أو الشخص الفلاني قد تحطم لكيت؛ أما أنا فلن أقع في غلطته ولن يحدث لي ما حدث هناك. لن يفلت مني الزمام. لن أدع شيئاً يغلبني. سأصحو قبل أن أبلغ الهاوية. أنا شيء آخر غير الناس من قبل.

ويجيء ” العلم ” في القرن العشرين فينفخ في الناس نفخة كاذبة. يخيِّل لهم أنهم خلْقٌ غير ما مر من الأجيال في التاريخ كله. خَلْقٌ لا تنطبق عليه سُنة ولا يخضع لسابقة. إنه عصر الذرة وعصر الصاروخ. عصر يكتب تاريخه بنفسه، يُنشئه على مزاجه، يخلُقُ جديداً كل يوم؛ يفتح آفاقاً لم تتفتح من قبل؛ ” يقهر ” الطبيعة ويسخرها بعد أن كانت هي التي تقهره وتسيّره مرغماً في طريق لم يختره لنفسه ولا يد له في تكييفه..!

كذلك ينفخ ” العلم ” في نفوس الناس، أو ينفخ فيهم شيطان الغرور: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ﴾ [يس:60 – 62].

نعم. حين تُترك البشرية وشأنها فقليلاً ما تتذكر، وقليلاً ما تتدبر عِبرة التاريخ.

إنهم لا يرون ـ ولا يريدون أن يصدقوا ـ أن هذا الطوفان الهائل من الفساد قد بدأ من نقطة الصفر..! من النقطة التي ينفرج فيها ذراعا الزاوية، فرجة بسيطة للغاية في مبدإ الأمر، ثم تتسع الشقة كلما مضى الزمن وتتابعت الأجيال.

لا يرون ـ ولا يريدون أن يصدقوا ـ أن الكأس الأولى تتبعها الثانية. والقُبلة الأولى تفتح الطريق للجريمة.

لا يرون ـ ولا يريدون أن يصدقوا ـ أن البشرية لم تقف يوماً عند “القليل الذي لا يضر”، ما دامت تبيحه على أنه أمر واقع، وأنه لا يضر..! وإنما تجاوزته حتماً إلى الكثير الذي يغرق كالطوفان.

لا يرون ـ ولا يريدون أن يصدقوا ـ أن المجتمع ـ وهو النهر الذي يشرب منه الجميع ـ لا يمكن أن يظل بمنأى عن التلوث بينما الأقذار تلقى على الدوام فيه، ولا يمكن أن يظل الشاربون على سلامتهم وهم يشربون الأقذار.

بصيرة الإسلام

ولكن الإسلام يصدق هذا لأنه يراه.

الإسلام كلمة الله في الأرض. والله هو الذي خلق الخلق وهو أدرى بما فطرهم عليه: ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك:14].

وقد حرص الإسلام حرصاً شديداً على هذا الأمر، لأنه يرى ـ بالعين البصيرة النافذة ـ تسلسل البشرية وتعاقب الأجيال وتماثل النتيجة عند تماثل الأسباب.

يرى الزاوية التي تبدأ من نقطة الصفر. ثم تبعد الشقة بين ذراعيها بُعْدَ ما بين الأبيض والأسود، والحلال والحرام.

وكذلك يصنع الإسلام في وقاية البشرية.. يقف لكل جريمة مفردة ليحاول منعها من الانتشار، ولا يستهين بها مهما تكن من الضآلة في مبدأ الأمر.

يقف لها داخل الضمير. فالمناعة تنبت من داخل النفس. ينظف هذا الضمير ويهذبه ويربطه بالله: «تعبد الله كأنك تراه».

ويقف لها في المجتمع بإقامة التقاليد التي تجعل الفضيلة عادة وتجعل الجريمة منكرة مرهوبة.

ثم يقف لها بالتشريع الذي يعاقب على الجريمة.

وقد أمر الله بمنع الفاحشة ووضَع لذلك الحدود.

ثم جاء الرسول، صلى الله عليه وسلم، يضع الشرح المفصل للحدود حين قال: «ما أسكر كثيره فقليله حرام».

ولم يكن صلى الله عليه وسلم متشدداً، متزمتاً بلا ضرورة.

إنما كانت الحكمة الخالصة التي فتح لها قلبَه اللطيفُ الخبير.

قُدرة الإسلام

هكذا تبدأ الأمور من العقيدة والاستسلام لله، ثم تهذيب النص وتربية الضمير، ثم العادات والأوضاع الاجتماعية تكون مانعا من الهبوط ودافعا الى الخير وليست عائقا، ثم حدود الله والروادع الزاجرة.

والإسلام قادر في أي لحظة حينما نَصْدُق في الأخذ به وإقامة منهجه في أن ينقذنا ويضعنا على الطريق. وبداية الطريق سمو شاهق بالنسبة الى الجاهلية اليوم.

…………………….

الهوامش:

  1. رواه أبو داود.

المصدر:

  • أ. محمد قطب، “قبسات من الرسول”، ص67-76 بتصرف يسير.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة