ثمة احتياج شديد للأمة الى فتية كالسابقين؛ انحياز للعقيدة بوضوح واعتزاز، واستعلاء وترفع على مغريات الأرض وأعرافها. والعلم طريق الى ذلك.

مقدمة

ما ارتقت الأمة الإسلامية إلى ذروة المجد والعظمة إلا بفتية آمنوا بربهم فزادهم هدى؛ كان الإيمان يملأ صدورهم، والإسلام هو الذي يسيّر حياتهم، فرفعوا راية الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، فلما تخلى هؤلاء الفتية عن رسالتهم وتنازلوا عن قيمهم ومبادئهم هوَت أمة الإسلام من ذروة المجد والعظمة إلى حضيض الذل والهوان، ولكنها ما زالت خير أمةٍ أخرجت للناس، وما زال هناك فتية يعتزون بالإسلام ويدافعون عنه، وعلى أيديهم يكون النصر إن شاء الله.

صنيع الإيمان في قلوب الشبان

من هؤلاء الفتية..؟ وما شأنهم..؟ ولماذا اعتزلوا قومهم، وهجروا ديارهم، وفارقوا أهلهم..؟ لماذا تجردوا من زينة الأرض ومتاع الحياة؟ ما هي القضية التي تشغلهم.

إنهم أشداء في أجسامهم، أشداء في إيمانهم، أشداء في استنكار ما كان عليه القوم، كانوا بين خيارين: إما أن يرضوا بمتاع الحياة الدنيا وزخرفها، أو يفروا بدينهم وعقيدتهم، فاختاروا ما جعل لهم قيمة وشأناً، إنه الإيمان، قال عنهم سبحانه: ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ﴾.

إن الإيمان يصنع حياةً بعد موت، قال الله: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ [الأنعام:122]، ويصنع عزاً بعد ذل، قال الله: ﴿وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران:139]، ويصنع شجاعة وإقداماً بعد خوف وإحجام، قال الله: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ [آل عمران:173].

إن الإيمان يجعل للحياة طعماً، وللدنيا لوناً وللقلب ثباتاً، وللصدر انشراحاً، وللطاعة حلاوة، وللمعصية نكارة، والإيمان اطمئنان وإيثار، ولجوء إلى الله، واعتماد عليه، وأنس وسعادة به، وخلوة معه، ورحمة منه.

إن من آثار الإيمان وثمراته، تثبيت الله لأهله، قال الله: ﴿وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ [الكهف:14].

إن الاعتراف بالعبودية عزة يعتز بها أصحاب الكهف كما قال الله عنهم: ﴿إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [الكهف:14]، وأي عزة أعظم من أن تكون عبداً لله..؟

لقد أنكر أهل الإيمان هؤلاء الباطل، فقال الله تعالى على لسانهم: ﴿هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً﴾ [الكهف:15] أي باطل أعظم من الشرك بالله..؟ إن القلوب المؤمنة تعلم أن ما على الأرض إنما جُعل للابتلاء والامتحان، وأن نهاية هذا الكون إلى الفناء والزوال، قال الله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا﴾ [الكهف:7 – 8].

ذكر أكثر من واحد من السلف والخلف أن فتية الكهف كانوا أبناء ملوك، لكن الإيمان الراسخ أمام الفتن والشهوات يجعل أهل الإيمان في حرص على دينهم وعقيدتهم؛ لأن الدين غالٍ، ولا مجال لتعريضه للخطر، فأعز ما يملك المؤمن هو دينه وإيمانه، وليس التشريف في الآية لفتية الكهف فقط، بل لكل من سار على دربهم وطريقهم.

إن فتية اليوم في أمس الحاجة لسماع أخبار فتية الأمس، ونحن نستمد من الماضي قوة؛ لأن الماضي متصل بالحاضر، وإن كان فتية الأمس قد استطاعوا؛ فإن فتية اليوم أيضاً عندهم القدرة والاستطاعة على أن يفعلوا كما فعل فتيان الأمس، كيف لا والمصدر واحد، والمنبع واحد، قال الله: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء:92].

والشباب أقبلُ للحق، وأهدى للسبيل، ولقد كان أكثر المستجيبين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم هم الشباب، فكتاب الوحي هم الشباب، وحفَظة السنة هم الشباب، وسفراء الرسول صلى الله عليه وسلم هم الشباب، وشعراؤه صلى الله عليه وسلم هم الشباب، وقادة الجيوش يمنة ويسرة هم الشباب، فعلى أكتافهم تقوم الحضارات، وتنهض الأمم.

الفتية وطلب العلم

من صفات الفتية أنهم طلاب علم، فبالعلم يُعبد الله ويوحَّد، وبالعلم يقدَّس الله ويمجَد. وقد رفع الله أهل الإيمان والعلم على غيرهم درجة، كيف لا والعلم طريق من طرق الجنة، وطلاب العلم أخشى الناس لله من غيرهم، فهم ورثة الأنبياء، والله يقول: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه:114].

جاء في فضل العلم وأهله عن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يُرد الله به خيراً يفقهه في الدين». (1رواه البخاري (71)، ومسلم (1037))، وقال صلى الله عليه وسلم من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان: أحدهما عابد والآخر عالم، فقال عليه الصلاة والسلام: «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم»، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جُحرها وحتى الحوت في البحر ليصلون على مُعلم الناس الخير». (2رواه الترمذي (2685))

والأحاديث في فضل العلم وأهله كثيرة.

وروى الوليد بن مسلم قال: «شيّعنا الأوزاعي وقت انصرافنا من عنده، فأبعد في تشييعنا، فمشى معنا فرسخين أو ثلاثة، فقلنا له: أيها الشيخ! يصعب عليك المشي على كبر السن قال: امشوا واسكتوا، لو علمت أن لله قوماً يباهِي بهم أفضل منكم لمشيت معهم وشيعتهم، ولكنكم أفضل الناس». (3تاريخ دمشق لابن عساكر جـ 35 صـ 191)

وسئل ابن المبارك: لو أن الله أوحى إليك أنك سوف تموت العشية، فماذا تصنع اليوم..؟ قال: «أقوم وأطلب العلم».

صفات طالب العلم

حتى تكون من طلاب العلم وفتيانه لا بد من صفات وخصائص ومميزات تتحلى بها:

أولها: فتية العلم أصحاب همم عالية

كان أسد بن الفرات قد خرج من القيروان إلى الشرق سنة “مائة واثنين وسبعين”؛ فسمع الموطأ من مالك في المدينة، ثم رحل إلى العراق فسمع من أصحاب أبي حنيفة وتفقَّه عليهم وقد حضر مجلس محمد بن الحسن الشيباني وقال له: إني غريب، قليل النفقة، والسماع منك شرف، ولكن الطلبة من حولك كثير، فما حيلتي؟ فقال له محمد بن الحسن: استمع مع العراقيين بالنهار، وقد جعلت لك الليل وحدك، فتبيت عندي وتقرأ عليّ وأسمعك، قال أسد: فكنتُ أبيت عنده، وينزل إليّ، ويجعل بين يديه قدحاً فيه ماء، ثم يأخذ في القراءة؛ فإن أطال الليل ونعستُ ملأ يده ونضح وجهي بالماء فأنتبه، فكان ذلك دأبه طوال الليل، ودأبي معه حتى أتيت على ما أريد من السماع منه.

صدقوا حين قالوا:

“من طلب العلا سهر الليالي”.

قال ابن القيم رحمه الله: فإذا نام المسافر واستطال الطريق، فمتى يصل إلى المقصود..؟!

وقال ابن أبي حاتم: كنا بمصر سبعة أشهر في طلب العلم لم نحصل فيه على مرقدٍ؛ نهارنا ندور على الشيوخ، وفي الليل ننسخ ونقابل، فأَتينا يوماً أنا ورفيق لي شيخاً، فقالوا: هو عليل، فرأيت سمكة أعجبتنا فاشتريناها، فلما صرنا إلى البيت حضر وقت مجلس بعض الشيوخ، فمضينا، فلم تزل السمكة ثلاثة أيام، وكادت تنتن، فأكلناها نيئة ولم نتفرغ لنشويها، ثم قال: لا يستطاع العلم براحة الجسد.

ثانيها: الحرص على الوقت

إن أردت أن تكون من طلاب العلم وفتيته فلابد أن تحرص على الوقت، ولا تنشغل بتوافه الأمور، قال الله عنهم: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا﴾ [الفرقان:63]، هذا نهارهم.

أما ليلهم: ﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا﴾ [الفرقان:64 – 65]، وقال عنهم: ﴿وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾ [الفرقان:72] وكل باطل زور، ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ [الفرقان:72]، فلا ترى فتى العلم إلا في فرض يؤديه، أو خير يعمله.

رُوي أنه أُحضر فيل في المدينة المنورة، وكان مالك بن أنس يدرّس في المسجد، فقال قائل: حضر الفيل، فقام تلاميذ مالك ينظرون إلى الفيل وتركوا الشيخ، إلا يحيى بن يحيى الليثي الأندلسي، فقال له مالك: لِمَ لم تخرج لترى هذا الخلق العجيب وليس في بلادك مثله..؟ قال: إنما أتيت لآخذ علمك، ولم آت لأنظر إلى الفيل. (4سير أعلام النبلاء للذهبي (10/ص520))

ففتى العلم حريص على وقته، مترفع عن توافه الأمور، والعمر لا يقاس بالسنين ولكن بالإنجازات التي تنجز فيه.

ثالثها: العمل بالعلم

فمن أراد أن يكون من فتية العلم وطلابه فلا بد من أن يعمل بالعلم الذي تعلمه.

كتب الإمام الغزالي رحمه الله إلى أحد تلامذته حين طلب منه أن يقدم له نصيحة، فقال: يا ولدي! النصيحة سهلة، ولكن الصعب قبولها؛ لأنها في فم من لم يتعودها مرة المذاق، وإن من يحصل العلم ولا يعمل به تكون الحجة عليه أعظم، كما قال صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لا ينتفع بعلمه». (5الألباني السلسلة الضعيفة). وقالوا:

“العلم يهتف بالعمل، فإن أجاب حل، وإلا ارتحل”.

ولابد مع العمل من صدق وإخلاص.

خاتمة

هذا طريق لا بد من ولوجه، لحمل العلم، وتمثُّله، وإخراج إنسان جديد.

واليوم هتافنا لشباب الأمة أن دينكم ملجؤكم، وعقيدتكم انحيازكم. وهذا الليل ينتظركم ليبدد الله بكم ظلامه ويشرق بكم نوره.

……………………….

الهوامش:

  1. رواه البخاري (71) ، ومسلم (1037).
  2. رواه الترمذي (2685).
  3. تاريخ دمشق لابن عساكر جـ 35 صـ 191.
  4. سير أعلام النبلاء للذهبي (10/ص520).
  5. الألباني السلسلة الضعيفة.

المصدر:

  • خالد الراشد، خطبة جمعة مفرغة بتصرف يسير.

اقرأ أيضا:

0 0 votes
Article Rating

التعليقات غير متاحة