العلم بالله تعالى يثمر خوفه وخشيته، وكلما زاد علم العبد بربه زاد تجريده للتوحيد وتكمليه للعبودية. وفي الأنبياء أسوة؛ إذ يرغب الإنسان أن يرى الكمال متحققا.
مقدمة
جوانب الاقتداء بأنبياء الله، عليهم السلام، متعددة. وأبرزها وأولها علمهم بالله تعالى وعمق هذا العلم، وما يترتب عليه من الخشية والخوف والتعظيم. إنهم خير القلوب، وهم محل الأسوة والقدوة؛ ولذا ننظر في علمهم وخشيتهم وتعظيمهم، وننظر في الأمثلة الفذة التي قدّموها، لتدفع المؤمنين لسلوك الطريق.
عمق العلم بالله، وأثره في كمال التوحيد
إن أعلم الناس بالله عز وجل هم أنبياؤه ورسله عليهم الصلاة والسلام، وهذا العلم به سبحانه وبأسمائه وصفاته العُلا هو الذي أوجد هذه الخشية العظيمة والإيمان الصادق والتوحيد الكامل لله عز وجل؛ لأنه كلما كان العبد أعلم وأعرف بربه سبحانه كلما كان أشد خوفاً وتعظيماً وعبادة ومحبة وإخلاصاً له، والعكس بالعكس.
وإن مما اختص الله سبحانه به رسله، ومما منّ به عليهم تكميل هذا العلم العظيم في نفوسهم، والذي هو أشرف العلوم وأزكاها.
وإن المسلم مأمور بطلب هذا العلم الشريف قدر استطاعته اقتداءً بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ ولو أنه لن يصل إلى علمهم ولا إيمانهم، لكنه بذلك يقترب منهم ويسعد بثمار هذا العلم العظيم في قلبه وسلوكه وحياته كلها.
الأدلة على شرف العلم بالأسماء الله وصفاته
ومن الأدلة على شرف هذا العلم ما يلي:
قول الله تعالى: عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام في دعوته لأبيه: ﴿يَا أَبَتِ إنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ العِلْمِ مَا لَمْ يَاًتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِياً﴾ [مريم: 43]، وقوله تعالى عن يعقوب عليه الصلاة والسلام: ﴿وَإنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 68].
وقوله تعالى عن يعقوب عليه الصلاة والسلام: ﴿قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 96].
وقوله تعالى عن نوح عليه الصلاة والسلام أنه قال لقومه: ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 62].
وهذا موسى عليه الصلاة والسلام، مع ما آتاه الله عز وجل من العلم العظيم، فإنه لم يكتف به، وإنما طلب المزيد.. وقصة سفره عليه الصلاة والسلام إلى الخضر عليه السلام ليتعلم منه معروفة، وقد قصها الله عز وجل علينا في كتابه الكريم، والشاهد منها قوله تعالى: ﴿قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً﴾ [الكهف: 66]، (1للشيخ السعدي رحمه الله تعالى عند هذه القصة كلام نفيس، فليرجع إليه)
وقوله تعالى لنبيه محمد: ﴿قُلْ إنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الفَاصِلِينَ﴾ [الأنعام: 57].
وقوله عن نفسه عندما تنزّه بعض الصحابة عن شيء رخص فيه الرسول، فُبلِّغ ذلك إليه، فخطب، فحمد الله، ثم قال: «ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؟! فوالله إني لأعلمهم بالله، وأشدهم له خشية». (2البخاري، ح/6101، ك/ الأدب، ومسلم، ح/2356، ك/ الفضائل)
الآثار على نفوس الأنبياء
وبعد سرد هذه الأدلة والتي هي على سبيل المثال لا الحصر ننظر في أثر هذه البينات العظيمة في نفوس الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، الناشئة عن هذا العلم الشريف بالله عز وجل وبأسمائه الحسنى وصفاته العلا، لعلنا نهتدي بهذه الآثار الإيمانية المباركة ونسعى للتأسي بهم.
ومن هذه الآثار ما يلي:
أولا: شدة تعظيمهم لله عز وجل وخوفهم منه
فعلى الرغم من اصطفاء الله سبحانه لهم وحبه لهم وقربهم منه.. فإن هذه المزايا لم تزدهم لربهم إلا تعظيماً، ومحبة، وخوفاً منه سبحانه، وخشية.
وهذه سنة الله سبحانه؛ فكلما ازداد العبد معرفة بربه كلما عظّمه في نفسه، وخاف منه سبحانه خوف المحب لحبيبه؛ خوفاً يقرب إلى الله عز وجل، وخوفاً يهضم العبد عنده نفسه ويحقّرها ولا يرى لها فضلاً ولا طوعاً، وإنما يراها أهلاً للظلم والخطيئة والضعف إن لم يوفّق الله تعالى صاحبها ويعينه عليها.
وهكذا كان شأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والأمثلة في ذلك كثيرة، منها:
مناجاة نوح عليه الصلاة والسلام لربه بشأن ابنه
وقد جاء ذلك في قصة نوح مع قومه في سورة هود، حيث يقول الله تعالى: ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وإلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الخَاسِرِينَ﴾ [هود: 45-47]، ويظهر من هذه الآيات علم نوح عليه الصلاة والسلام بربه عز وجل، والذي أثمر عنده هذا الأدب العظيم مع ربه والخوف منه سبحانه؛ فتراه وهو يدعو ربه بشأن ابنه الهالك مع الكافرين يختم دعاءه بقوله: ﴿وَأَنتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ﴾، ولم يقل: وأنت أرحم الراحمين، وهذا من كمال علمه عليه الصلاة والسلام بأسماء الله البالغة التي اقتضت أن يكون ابن نوح مع الهالكين ولم يكن مع الناجين، ولذلك: ختم نوح عليه السلام دعاءه بقوله: ﴿وَأَنتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ﴾.
كما يظهر في هذه المناجاة خوف نوح عليه السلام من ربه، واتهامه لنفسه بالظلم، وطلبه المغفرة من ربه سبحانه ؛ وذلك في قوله: ﴿وإلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الخَاسِرِينَ﴾ .. الله أكبر! هذا نوح عليه السلام الذي أمضى مئات السنين في دعوة قومه، وصبَر وصابَر، وناله من الأذى والاستهزاء الشيء العظيم، ومع ذلك يختم دعوته بطلب المغفرة والرحمة من ربه سبحانه: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إلاَّ تَبَاراً﴾ [نوح: 28].
فماذا نقول نحن المفرطين الظالمين الجاهلين..؟! سبحانك قد ظلمنا أنفسنا ظلماً كثيراً، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
وهذا إمام الحنفاء وخليل الرحمن يخاف من ذنوبه ويسأل ربه المغفرة والستر، ويطلب من ربه سبحانه أن يلحقه بالصالحين، وكأنه ليس منهم..!! يقول الله تعالى: ﴿وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لأَبِي إنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ * وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: 82-89].
إذن: فما حالنا نحن المقصرين..؟ ماذا عسانا أن نقول..؟! إنه ليس أمامنا إلا أن نحذو حذو هذا الركب المبارك المطهر ونقول ما أوصى به الرسول أبا بكر الصديق رضي الله عنه عندما سأله أن يعلمه دعاءً يدعو به في صلاته، فقال: «قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم». (3البخاري، ح/834، ك/ الأذان، ومسلم، ح/2705، ك/ الذكر والدعاء)
تعظيم نبينا محمد لربه سبحانه وخوفه منه
ونختم هذه الأمثلة من تعظيم الأنبياء لربهم سبحانه وخوفهم منه ببعض الشواهد من تعظيم نبينا محمد لربه وخوفه منه، مع أنه سيد المرسلين، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.. ولا غرابة في ذلك؛ فهو كما قال عن نفسه: «فوالله إني لأعلمهم بالله، وأشدهم له خشية». (4البخاري، ح/6101، ك/ الأدب، ومسلم، ح/2356، ك/ الفضائل)
ومما ورد عنه في هذا الشأن:
عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً». (5البخاري، ح/6486، ك/ الرقاق، ومسلم، ح/2359، ك/ الفضائل)؛ ولذلك: ما رؤي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مستجمعاً ضاحكاً قط؛ إنما كان يتبسم.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إذا عصفت الريح قال: «اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به»، قالت: وإذ تخيّلَت السماء تغير لونه، وخرج ودخل، وأقبل وأدبر، فإذا أمطرت سُرّي عنه، فعرفت ذلك عائشة؛ فسألته، فقال: «لعله يا عائشة كما قال قوم عاد: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾». (6رواه مسلم، ك/ الاستسقاء، باب التعوذ عند رؤية الريح والغيم، ح/ 899)
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على أصحابه وهم يختصمون في القَدَر، فكأنما يفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب، فقال: «بهذا أُمِرتم؟ أو لهذا خُلِقتم؟ تضربون القرآن بعضه ببعض. بهذا هلكت الأمم قبلكم». (7صحيح سنن ابن ماجة، ح/ 69، 1/ 21)
خاتمة
هذا مسلك خيرة خلق الله وصفوتهم من خلقه؛ حتى لا يصيب العُجْبُ قلوبا وأقواما هم أحق بالتذلل والضراعة واتهام النفس منهم للثقة بالنفوس والإعجاب بها..!
……………………………….
الهوامش:
- للشيخ السعدي رحمه الله تعالى عند هذه القصة كلام نفيس، فليرجع إليه
- البخاري، ح/6101، ك/ الأدب، ومسلم، ح/2356، ك/ الفضائل.
- البخاري، ح/834، ك/ الأذان، ومسلم، ح/2705، ك/ الذكر والدعاء.
- البخاري، ح/6101، ك/ الأدب، ومسلم، ح/2356، ك/ الفضائل.
- البخاري، ح/6486، ك/ الرقاق، ومسلم، ح/2359، ك/ الفضائل.
- رواه مسلم، ك/ الاستسقاء، باب التعوذ عند رؤية الريح والغيم، ح/ 899.
- صحيح سنن ابن ماجة، ح/ 69، 1/ 21.