العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة

انحراف الأمة في تصور مفهوم العبادة

من أخطر الانحرافات التي وقعت فيها الأجيال المتأخرة من المسلمين – بعد انحرافهم في فهم لا إله إلا الله – انحرافهم في تصور مفهوم العبادة.

وحين يعقد الإنسان مقارنة بين المفهوم الشامل الواسع العميق الذي كانت الأجيال الأولى من المسلمين تفهمه من أمر العبادة، والمفهوم الهزيل الضئيل الذي تفهمه الأجيال المعاصرة، لا يستغرب كيف هَوَت هذه الأمة من عليائها لتصبح في هذا الحضيض الذي تعيشه اليوم، وكيف هبطت من مقام القيادة والريادة للبشرية كلها، لتصبح ذلك الغثاء الذي تتداعى عليه الأمم تنهشه من كل جانب، كما تنهش الفريسة الذئاب. ويعلم الإنسان في الوقت ذاته الطريق الذي ينبغي أن تسلكه الصحوة الإسلامية وهي تجاهد لرفع هذا الغثاء من حضيضه الذي يعيش فيه، ليعود كما أراده الله أن يكون: «خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاس» سورة آل عمران [۱۱۰].

مفهوم العبادة عند الأجيال الأولى وشموله

كان المفهوم الصحيح للعبادة في حس الأجيال الأولى أن عبادة الله هي غاية الوجود الإنساني كله، كما فهموا من قوله تعالى: «وَمَا خَلَقتُ ٱلجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلَّا لِیَعبُدُونِ» سورة الذاريات [56].

إن هذه الآية الكريمة كانت تمثل في حسهم معنى هائلا جدا، وعميقا جدا، وشاملا لكل حياة الإنسان. فالقرآن نازل بلغتهم، وهم يفهمون إيحاءات تلك اللغة، ويدركون أسرار بلاغتها. فيدركون من معنى الآية أن غاية الوجود الإنساني كله محصورة في العبادة لا تتعداها إلى شيء غيرها على الإطلاق. فالنفي والاستثناء هما أقوى صور الحصر والقصر في اللسان العربي. ومعناهما النفي البات من جهة والحصر الكامل من الجهة الأخرى: نفي أي غاية للوجود البشري غير عبادة الله، وحصر غاية هذا الوجود كله في عبادة الله!

وكانوا إلى جانب ذلك يحسون إحساسا صادقا بعظمة الله – جل جلاله – فيحسون تبعا لذلك بما ينبغي للعبد -في مقام عبوديته – تجاه الله – في مقام ألوهيته – من إخلاص العبودية له. وإخلاص العبادة.. سواء.

ومن ثم لم ينحصر مفهوم العبادة في حسهم في نطاق الشعائر التعبدية وحدها، كما انحصر في حس الأجيال المتأخرة التي جاءت بفهم للإسلام غريب عن الإسلام.

عبادة الإنسان لا يمكن أن تنحصر فقط في الشعائر التعبدية

إن شعائر التعبد لا يمكن بداهة أن تكون هي كل “العبادة” المطلوبة من الإنسان. فمادامت غاية الوجود الإنساني كما تنص الآية الكريمة محصورة في عبادة الله، فأنى يستطيع الإنسان أن يوفي العبادة المطلوبة بالشعائر التعبدية فحسب؟!

كم تستغرق الشعائر من اليوم والليلة؟ وكم تستغرق من عمر الانسان؟

وبقية العمر؟ وبقية الطاقة؟ وبقية الوقت؟ أين تنفق وأين تذهب؟ تنفق في العبادة أم في غير العبادة؟ وإن كانت في غير العبادة فكيف تتحقق غاية الوجود الإنساني التي حصرتها الآية حصرا كاملا في عبادة الله؟ وكيف يجوز للإنسان – من عند نفسه – أن يجعل لوجوده – أو لجزء من وجوده – غاية لم يأذن بها الله؟

إن الإنسان لا يستطيع – مهما حاول – أن يقضي واجب العبادة المفروض عليه نحو الله من خلال الشعائر التعبدية وحدها، من صلاة وصيام وزكاة وحج..

ليس الإنسان ملكا.. ولن يكون.

والملائكة – وحدهم فيما نعلم – هم ذلك الخلق النوراني الشفيف الذي يسبح الليل والنهار لا يفتر: «وَمَن عِندَهُۥ لَا یَستَكبِرُونَ عَن عِبَادَتِهِۦ وَلَا یَستَحسِرُونَ * یُسَبِّحُونَ ٱلَّیلَ وَٱلنَّهَارَ لَا یَفتُرُونَ» سورة الأنبياء [۱۹ – ۲۰] وهم – وحدهم – الذين لا يعصون الله في أمر من الأمور: «لَّا یَعصُونَ ٱللَّهَ مَاۤ أَمَرَهُم وَیَفعَلُونَ مَا یُؤمَرُونَ» سورة التحريم [6].

أما الإنسان، ذلك الكائن المخلوق من قبضة من طين الأرض ونفخة من روح الله، المشتمل – إلى جانب روحه الشفيفة – على جسد يكدح وينزع، ويأكل ويشرب، ويتعب وينام، وعقل يفكر في تدبير مطالب الحياة الحسية والمعنوية، ويسرح بخواطره في شتى المجالات، فإنه لا يستطيع أن يعبد الله على طريقة الملائكة التي تسبح الليل والنهار لا تفتر، ولا تنشغل عن التسبيح..

ولو شاء الله أن يكلف الإنسان العبادة على طريقة الملائكة لمنحه طاقة الملائكة في التسبيح الدائم بغير فتور، ولركبه منذ البدء تركيبا آخر، لا يفتر ولا يكل ولا يمل، لأن الله من رحمته لا يكلف نفسا إلا وسعها، ويجعل العبادة المفروضة على كل كائن من خلقه متناسبة مع طبيعة ذلك الكائن، ومع حدود طاقاته..

والكون كله – بما فيه من كائنات – عابد لربه بأمر ربه ” فيما عدا العصاة من الجن والإنس”.. وكل على طريقته الخاصة كما هيأه الله:

«وَإِن مِّن شَیءٍ إِلَّا یُسَبِّحُ بِحَمدِهِۦ وَلَـٰكِن لَّا تَفقَهُونَ تَسبِیحَهُم» سورة الإسراء [44].

«أَلَم تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ یَسجُدُ لَهُۥ مَن فِی ٱلسَّمَـٰوَ اتِ وَمَن فِی ٱلأَرضِ وَٱلشَّمسُ وَٱلقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَاۤبُّ وَكَثِیر مِّنَ ٱلنَّاسِ..» سورة الحج [۱۸].

«ثُمَّ ٱستَوَىٰۤ إِلَى ٱلسَّمَاۤءِ وَهِیَ دُخَان فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرضِ ٱئتِیَا طَوعًا أَو كَرهًا قَالَتَاۤ أَتَینَا طَاۤىِٕعِینَ» سورة فصلت [۱۱].

ولكن الله – سبحانه وتعالى – قد شاء أن يخلق الإنسان على نمط متفرد بين جميع الكائنات..

«ذَ لِكَ عَـٰلِمُ ٱلغَیبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ ٱلعَزِیزُ ٱلرَّحِیمُ  * ٱلَّذِیۤ أَحسَنَ كُلَّ شَیءٍ خَلَقَهُۥۖ وَبَدَأَ خَلقَ ٱلإِنسَـٰنِ مِن طِین * ثُمَّ جَعَلَ نَسلَهُۥ مِن سُلَـٰلَة مِّن مَّاۤء مَّهِین * ثُمَّ سَوَّىٰهُ وَنَفَخَ فِیهِ مِن رُّوحِهِۦۖ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمعَ وَٱلأَبصَـٰرَ وَٱلأَفـِٔدَةَۚ قَلِیلا مَّا تَشكُرُونَ» سورة السجدة [6-9].

فعدد مواهبه، وعلمه من العلم ما يناسب المهمة التي خلقه من أجلها«وَإِذ قَالَ رَبُّكَ لِلمَلَـٰۤىِٕكَةِ إِنِّی جَاعِل فِی ٱلأَرضِ خَلِیفَة» سورة البقرة [۳۰]

«وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلأَسمَاۤءَ كُلَّهَا» سورة البقرة [31].

وسخر له من الأدوات ما يعينه على هذا الأمر: «وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِی ٱلسَّمَـٰوَ اتِ وَمَا فِی ٱلأَرضِ جَمِیعًا مِّنهُ» سورة الجاثية [۱۳].

وهيأه من خلال ذلك كله لحمل الأمانة التي أشفقت من حملها السماوات والأرض:«إِنَّا عَرَضنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَـٰوَ اتِ وَٱلأَرضِ وَٱلجِبَالِ فَأَبَینَ أَن یَحمِلنَهَا وَأَشفَقنَ مِنهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنسَـٰنُ..» سورة الأحزاب [۷۲].

وهو في ذلك كله – ومن ذلك كله – في كبد دائم وفي كدح:«لَقَد خَلَقنَا ٱلإِنسَـٰنَ فِی كَبَدٍ» سورة البلد [4].

«یَـٰۤأَیُّهَا ٱلإِنسَـٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدحًا فَمُلَـٰقِیهِ» سورة الانشقاق [6].

ثم إن الله فرض عليه عبادة تناسب تكوينه وتناسب مهمته: تناسب طاقاته المتنوعة، والكبد الذي يعانيه، والكدح الذي يلازمه، وتناسب في الوقت ذاته مواهبه التي اُختص بها بين الكائنات، ومجالات نشاطه الواسعة، والأمانة التي يحملها.. عبادة لا تعنته في شيء، ولا تكلفه مالا يطيق، وتتسع في الوقت ذاته حتى تشمل وجوده كله وعمره كله من لحظة التكليف إلى لحظة الموت، لا تند عنها لحظة واحدة من لحظات الوعي، ولا لمحة ولا خاطر ولا لون من ألوان النشاط: «قُل إِنَّ صَلَاتِی وَنُسُكِی وَمَحیَایَ وَمَمَاتِی لِلَّهِ رَبِّ ٱلعَـٰلَمِینَ * لَا شَرِیكَ لَهُ..» سورة الأنعام [162 – 163].

تلك هي العبادة التي كلف بها الإنسان، تشمل الصلاة والنسك – أي الشعائر التعبدية – وتشمل معها كل الحياة.. وكذلك فهم الجيل الأول – رضوان الله عليهم – معنى العبادة…

لم يحصروها قط في داخل الشعائر التعبدية، بحيث تصبح اللحظات التي يقومون فيها بأداء الشعائر التعبدية هي وحدها لحظات العبادة، وتكون بقية حياتهم “خارج العبادة”!

إنما كان في حسهم أن حياتهم كلها عبادة، وأن الشعائر إنما هي لحظات مركزة، يتزود الإنسان فيها بالطاقة الروحية التي تعينه على أداء بقية العبادة المطلوبة منه، ولذلك كانوا يحتفلون بها احتفالا خاصا، كما يحتفل المسافر بالزاد الذي يعينه على الطريق، وباللحظة التي يحصل فيها على الزاد.

كانوا كما وصفهم ربهم: «یَذكُرُونَ ٱللَّهَ قِیَـٰمًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِم» سورة آل عمران [191]. أي في جميع أحوالهم..

وكما قلنا في أكثر من موضع، لم يكن ذكرهم مجرد الذكر باللسان، ولا مجرد الذكر بالقلب، إنما كان إلى جانب هذا وذاك عملا يؤدى بروح العبادة لله.

فأما الذكر على طريقة الطقطقة بالمسابح فلم يؤثر عنهم – رضوان الله عليهم -.

وأما الذكر على طريقة الخلوة التعبدية التي يغيب فيها الإنسان عن الواقع المحسوس، وينقطع عن الدنيا من أجل أن يخلو إلى ربه، فينقطع بذلك عن العمل في واقع الأرض.. فهذا أيضا لم يؤثر عن ذلك الجيل الفريد..

ولما هم بذلك قوم من المسلمين نهاهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيما رواه الشيخان: «جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إلى بُيُوتِ أزْوَاجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يَسْأَلُونَ عن عِبَادَةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقالوا: وأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟! قدْ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ، قالَ أحَدُهُمْ: أمَّا أنَا فإنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أبَدًا، وقالَ آخَرُ: أنَا أصُومُ الدَّهْرَ ولَا أُفْطِرُ، وقالَ آخَرُ: أنَا أعْتَزِلُ النِّسَاءَ فلا أتَزَوَّجُ أبَدًا، فَجَاءَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إليهِم، فَقالَ: أنْتُمُ الَّذِينَ قُلتُمْ كَذَا وكَذَا؟! أَمَا واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ له، لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي.»..

شمول عبادة الله لكل حياة الإنسان المسلم ومماته

إنما كانوا يقومون بالعبادة وهم يمارسون الحياة في شتى مجالاتها، وكانت عبادتهم الكبرى هي العمل في شتى مجالات الحياة. كانوا يذكرون الله فيسألون أنفسهم: هل هم في الموضع الذي يرضى الله عنه أم فيما يسخط الله؟ فإن كانوا في موضع الرضى حمدوا الله، وإن كانوا على غير ذلك استغفروا الله وتابوا إليه: «وَٱلَّذِینَ إِذَا فَعَلُوا فَـٰحِشَةً أَو ظَلَمُوۤا أَنفُسَهُم ذَكَرُوا ٱللَّهَ فَٱستَغفَرُوا لِذُنُوبِهِم وَمَن یَغفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَم یُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُم یَعلَمُونَ * أُولَـٰۤىِٕكَ جَزَاۤؤُهُم مَّغفِرَة مِّن رَّبِّهِم وَجَنَّـٰت تَجرِی مِن تَحتِهَا ٱلأَنهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَا وَنِعمَ أَجرُ ٱلعَـٰمِلِینَ» سورة آل عمران [135- 136].

وكانوا يذكرون الله فيسألون أنفسهم: ماذا يريد الله منا في هذه اللحظة؟ أي: ما التكليف المفروض علينا في هذه اللحظة؟ فإذا كان التكليف: «فَلیُقَـٰتِل فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِینَ یَشرُونَ ٱلحَیَوٰةَ ٱلدُّنیَا بِٱلـَٔاخِرَةِ» سورة النساء [74]. كان ذكر الله مؤديا إلى القيام بالجهاد في سبيل الله.

وإذا كان التكليف: «وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلمَعرُوفِ» سورة النساء [۱۹]. كان ذكر الله مؤديا إلى القيام بهذا الواجب الذي أمر به الله تجاه الزوجات.

وإذا كان التكليف: «قُوۤا أَنفُسَكُم وَأَهلِیكُم نَارا» سورة التحريم [6]. كان ذكر الله مؤديا إلى القيام بتربية الأهل والأولاد على النهج الرباني الذي يضبط سلوكهم بالضوابط الربانية، ويوجه مشاعرهم وأفكارهم وأعمالهم إلى ما يرضي الله.

وإذا كان التكليف: «فَٱمشُوا فِی مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزقِهِۦۖ وَإِلَیهِ ٱلنُّشُورُ» سورة الملك [15]. كان مقتضى ذكر الله هو المشي في مناكب الأرض وابتغاء رزق الله في حدود الحلال الذي أحله الله، لأنه إليه. النشور، فيحاسب الناس على ما اجترحوا في الحياة الدنيا.

وإذا كان التكليف: «طَلَبُ العِلمِ فَرِيضَة»1 [أخرجه ابن ماجه]. كان مقتضى ذكر الله هو السعي إلى طلب العلم من أجل عمارة الأرض بمقتضى المنهج الرباني، سواء كان العلم هو العلم الشرعي الذي يعرف به الإنسان الحلال والحرام، والمباح والمندوب المكروه، أو العلم بما في الكون من طاقات، لتحقيق التسخير الرباني الذي سخر الله به ما في السماوات والأرض للإنسان: «وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِی ٱلسَّمَـٰوَ تِ وَمَا فِی ٱلأَرضِ جَمِیعًا مِّنهُ» سورة الجاثية [۱۳]. وهو تسخير لا يتم إلا بجهد علمي يبذله الإنسان في التعرف على خواص المادة ومدخرات الطاقة في الكون، وجهد بدني يبذله في تحويل الخامات والطاقات إلى عمران يحقق حاجات الناس في الأرض، كما يحقق لهم فوق ذلك الجمال والزينة التي أباحها الله..

وقد مرت بنا في الفصل السابق تلك الآيات التي وصفهم فيها ربهم، والدلالة الواضحة لتلك الآيات:

«إِنَّ فِی خَلقِ ٱلسَّمَـٰوَ اتِ وَٱلأَرضِ وَٱختِلَـٰفِ ٱلَّیلِ وَٱلنَّهَارِ لَـَٔایَـٰتٍ لِّأُولِی ٱلأَلبَـٰبِ * ٱلَّذِینَ یَذكُرُونَ ٱللَّهَ قِیَـٰمًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِم وَیَتَفَكَّرُونَ فِی خَلقِ ٱلسَّمَـٰوَ اتِ وَٱلأَرضِ رَبَّنَا مَا خَلَقتَ هَـٰذَا بَـٰطِلًا سُبحَـٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ * رَبَّنَاۤ إِنَّكَ مَن تُدخِلِ ٱلنَّارَ فَقَد أَخزَیتَهُۥۖ وَمَا لِلظَّـٰلِمِینَ مِن أَنصَار* رَّبَّنَاۤ إِنَّنَا سَمِعنَا مُنَادِیًا یُنَادِی لِلإِیمَـٰنِ أَن ءَامِنُوا بِرَبِّكُم فَـَٔامَنَّا رَبَّنَا فَٱغفِر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّر عَنَّا سَیِّـَٔاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلأَبرَارِ * رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخزِنَا یَومَ ٱلقِیَـٰمَةِ إِنَّكَ لَا تُخلِفُ ٱلمِیعَادَ* فَٱستَجَابَ لَهُم رَبُّهُم أَنِّی لَاۤ أُضِیعُ عَمَلَ عَـٰمِل مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَو أُنثَىٰ بَعضُكُم مِّن بَعض فَٱلَّذِینَ هَاجَرُوا وَأُخرِجُوا مِن دِیَـٰرِهِم وَأُوذُوا فِی سَبِیلِی وَقَـٰتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنهُم سَیِّـَٔاتِهِم وَلَأُدخِلَنَّهُم جَنَّـٰتٍ تَجرِی مِن تَحتِهَا ٱلأَنهَـٰرُ ثَوَابًا مِّن عِندِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسنُ ٱلثَّوَابِ» سورة آل عمران [195-۱۹۰].

ودلالتها – كما أشرنا من قبل – أن الله سبحانه قد استجاب للتفكر والتدبر والدعاء والضراعة حين تحول هذا كله إلى عمل في واقع الحياة.

ومن مثل هذه التوجيهات المبثوثة في كتاب الله، ومن تعليم الرسول – صلى الله عليه وسلم – فهم المؤمنون من الجيل الأول والأجيال التالية له، أن العبادة المطلوبة لا تنحصر في الشعائر التعبدية، وأنها أوسع من ذلك وأشمل..

وفهموا أن الصلاة والنسك – أي الشعائر – إنما هي المنطلق الذي. ينطلق منه الإنسان ليقوم ببقية العبادة، التي تشمل الحياة كلها، بل الموت كذلك!

والموت في حد ذاته لا يمكن أن يكون عبادة بطبيعة الحال لأنه لا خيار للإنسان فيه. ولكن المقصود في قوله تعالى: «وَمَحیَایَ وَمَمَاتِی لِلَّهِ رَبِّ ٱلعَـٰلَمِینَ * لَا شَرِیكَ لَهُ» هو أن يموت الإنسان غير مشرك بالله، وذلك هو الحد الأدنى الذي يكون به الإنسان – في موته – عابدًا لله. أما الحد الأعلى فهو أن يكون موته استشهادا في سبيل الله.. وتلك قمة العبادة..

وبهذا النهج وحده.. أي بأداء تلك العبادة الشاملة المتكاملة، التي تشمل الحياة والموت، تتحقق غاية الوجود الإنساني، ويكون الإنسان قد قام – قدر جهده – بالعبادة المطلوبة تجاه الله..

اعتياد المسلمون المعاصرون على تضييق مفهوم العبادة

ولقد يبدو هذا المعنى غريبا في حس «المسلم المعاصر»، أو معتسفا، بعد إذ تعودنا منذ أجيال أن ننظر إلى الشعائر التعبدية على أنها هي كل العبادة المطلوبة من المسلم، وأنه إذا أداها فقد أدى كل ما عليه من العبادة، ولم يعد لأحد أن يطالبه بالمزيد!

ولكن مرجعنا في تحديد المفاهيم الإسلامية ينبغي أن يكون هو الكتاب والسنة، والصورة التطبيقية الصحيحة للكتاب والسنة كما مارسها الجيل الأول – رضوان الله عليهم – الذين شهد لهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بأنهم خير القرون قاطبة:«خَيرُكُم قَرنِي، ثُمَّ الَّذِي يَلِيه» أخرجه الشيخان.

هذا هو المرجع.. وليس ما طرأ على المسلمين خلال مسيرتهم التاريخية الطويلة من قصور أو انحراف..

ووقوع القصور أو الانحراف خلال تلك المسيرة الطويلة أمر قد لا يستغرب من البشر من أبناء آدم:«وَلَقَد عَهِدنَاۤ إِلَىٰۤ ءَادَمَ مِن قَبلُ فَنَسِیَ وَلَم نَجِد لَهُۥ عَزمًا» سورة طه [115]

ولكن العجب – في الغربة التي يعيشها الإسلام اليوم – أن تتبدل بالصورة الصحيحة صورة خاطئة، ثم نُصر على أنها هي الصورة الصحيحة! فإذا جاء أحد يعرض علينا الصورة الصحيحة كما هي في الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح، اتهمناه بالغلو، وامتنعنا عن التصحيح!

الهوامش:

  1. [أخرجه ابن ماجه].

اقرأ أيضًا:

التعليقات غير متاحة