تطلُع الإنسان الى الغيب والمجهول طبيعة فيه. والحقيقة الكبيرة أن العلم كله لله، والغيب له. ومن تدبر آفاق علم الله الشامل خضع لربه وراقبه وأصلح حاله حتى المصير.

مقدمة

يتشوق الإنسان دائماً إلى معرفة الغيب، يحب أن يعرف ماذا سيحدث له فى الغد القريب والغد البعيد.

وسواء كان هذا الغيب أملاً منشوداً يسعى الإنسان لتحقيقه، أو كان شيئاً مؤلماً يحب الإنسان أن ينجو منه، أو خيراً يحب أن يستزيد منه، أو شراً يحب أن يتخلص منه،… فهو دائم التطلع إلى معرفة هذا الغيب بأى شكل من الأشكال.

ومع ذلك فإنه لا يستطيع.

يلجأ أحياناً إلى تفسير ما يرى من رؤى وأحلام، لعلها تكشف له جانباً من الغيب المجهول.. ويلجأ أحياناً إلى أحاسيسه البطانية يحاول أن يستشف المجهول.

وقد يلجأ ـ إذا لم يعصمه دينه وإيمانه ـ إلى العرّافين والعرافات يحاول أن يستخلص من أفواههم شيئاً عن هذا الغيب.. ولكنه مهما فعل يعلم أنه عاجز عن معرفة الغيب، وأن كل محاولاته فى هذا السبيل ظنون وحدس لا تعتمد على علم، بل بعضها خداع محرَّم جاء الشارع الكريم يتوعد متعاطيه والمصدق به.

وعلى هذا يجب أن يؤمن الإنسان بقدرة الله الذى يعرف الغيب كله لأنه سبحانه هو العليم بكل ما فى السماوات وما فى الأرض، وكل ما حدث فى الماضى، ويحدث فى الحاضر والمستقبل، لأنه سبحانه هو منشئ الأحداث ومجريها فى الماضى والحاضر والمستقبل، فهى معلومة له بكل تفصيلاتها، حاضرة عنده سبحانه لا تغيب.

تذكير القرآن عندما يتبلد الحِس

من رحمة الله بهذا المخلوق الإنساني أنه لا يتركه لنفسه؛ ولا يدعه غارقا لا ينتبه ـ رغم تقصيره وغفلته ـ ولكنه تعالى يوقظه بآيات وحيه لينظر في الآفاق وفي نفسه..!

آفاق ومجالات العلم الإلهي الشامل

قد يتبلد الإنسان وينسى.. عندئذ يحركه القرآن من تبلده، ويذكّره من غفلته، بطريقة تهز الوجدان هزاً وتجعله لا يستطيع أن يفلت من التأثر:

﴿اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ ۖ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ * سَوَاءٌ مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ * لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ (الرعد : 8-11).

تدبر هذه الآية الأولى فى السياق: هل تصورت أبعادها..؟! راجع نفسك جيداً وتأكد من الأمر.

كلا! إنك لم تتصور كل أبعادها، وأغلب الظن أنك لن تستطيع..! هل تصورت ﴿مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ﴾..؟

إن السياق لم يحدد أىَّ الإناث بالذات، فالتعبير يشمل إناث الإنسان، وإناث الحيوان، وإناث الطير، وإناث الأسماك فى البحر، وإناث الحشرات والهوام. ومع ذلك فلنفترض أن السياق اقتصر على إناث الإنسان فحسب؛ فهل تصورت الأمر؟

هل تصورت (كَمْ) أنثى من إناث الإنسان على ظهر الأرض..؟! هل تستطيع أن تحصيهن عَدّاً..؟!

وهبْ أنك استطعت باستخدام كل الوسائل المتاحة لك أن تحصى كم أنثى هناك فى كل قارات الأرض، وسهولها وجبالها ووديانها وغاباتها وكهوفها ومغاراتها وقصورها وبيوتها وأكواخها وخيامها وجزرها النائية ومدنها المعمورة؛ فما الذى أحصيته..؟ إنه عدد الإناث الأحياء اليوم فى جيلك هذا الذى تعيش فيه..! فكيف بكل الإناث اللواتى عشن منذ بدء الخليقة حتى ذلك الجيل..؟ وكيف بكل الإناث اللواتى سيعشن من بعد إلى زمن لا يعلمه إلا الله..؟! هل يقدر على إحصائهن إلا الله..؟!

وهذه مرحلة واحدة من هذا الأمر الهائل الذى تصورت لأول وهلة أنك أحطت بأبعاده..!

العلم المتعلق بأجنة مستورة

فلننتقل ـ بخيالنا ـ إلى مرحلة تالية: ﴿اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ﴾.

هذه ﴿كُلُّ أُنثَىٰ﴾ تحمل فى بطنها جنيناً.. فهل تتبعت الأمر بخيالك لتعلم أى شىء هو الذى أحاط به علم الله؟! هل تتبعت بخيالك “أنواع المعلومات” التى يعلمها الله عن كل جنين من هذه الأجنة..؟!

ذكر أم أنثى..؟! ما لونه..؟ أبيض أم أسود أم أحمر أم أصفر..؟ ما شكله..؟ ما قسماته..؟ كيف أنفه..؟ كيف فمه..؟ كيف عيناه..؟ ما لون عينيه..؟ ما لون شعره..؟ جميل الطلعة أم غير جميل..؟ ما طوله..؟ ما حجمه..؟ فى أى مرحلة هو من مراحل نموه: نطفة..؟ أم علقة..؟ أم مضغة..؟ أم..؟ أم..؟

هل انتهت “أنواع المعلومات” عند هذا الحد..؟ كلا..! لم تنته بعد.

قد يقف خيالك هنا عاجزاً عن تتبع هذه المعلومات وإحصائها بالنسبة لكل جنين تحمله كل أنثى. ومع ذلك فإن علم الله الشامل، الذى يشملها جميعاً، لا يتوقف عند هذا الحد؛ بل يشمل “معلومات” أخرى قد لا تلتفت أنت إليها لأول وهلة.

ما اسم هذا الجنين حين يولد..؟ أى ما اسم كل جنين تحمله كل أنثى منذ بدء الخليقة إلى قيام الساعة..؟ ما عمره الذى سيقضيه فى الأرض..؟ هل سيولد حيا أم ميتاً..؟ وإن كان حياً فكم يعيش..؟ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ ۚ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ (الحج: 5).

ما درجة ذكائه..؟ ما خصاله التى يحملها..؟ طيب أم شرير..؟ شجاع أم جبان..؟ كريم أم بخيل..؟ ما قدَره المقدور له فى الأرض..؟ ما الأحداث التى تجري في حياته..؟

ثم أخيراً.. أشقي هو أم سعيد؛ أي مِن أصحاب النار أم من أصحاب النعيم..؟ (1عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال : حدثنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق: «إن أحدكم يجمع فى بطن أمه أربعين يوماً ثم يكون فى ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون فى ذلك مضغة مثل ذلك ثم يرسل الله الملك فينفخ فيه الروح ويمؤمر بأربع كلمات، يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقى أو سعيد…» رواه مسلم)

إن هذه (بعض) المعلومات التي يشملها علم الله الشامل بالنسبة لكل جنين تحمله كل أنثى من بدء الخليقة إلى قيام الساعة، وغيرها وغيرها كثير لا يحصيه إلا الله..

فهل تصورت الآن الأمر على حقيقته..؟! هل تصورت أبعاد هذه الحقيقة التى تذكرها الآية: ﴿اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ﴾..؟

﴿وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ﴾. يعلم ازديادها بالحمل وغيضها بتفريغ ما تحمل. وعد بخيالك مرة أخرى فتتبع كل أنثى، وحاول أن تتصور ـ مجرد تصور ـ ما يحيط به علم الله الشامل من حملها وولادتها، وكل مرحلة من مراحل الحمل شهراً بعد شهر حتى تضع حملها، وتكرار ذلك مع كل أنثى على حدة، وتكراره على نطاق الأرض كلها وما تحتويه من إناث..!

إطلاق العلم وعموم الخلق

﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ﴾. مرة أخرى هل تصورت أبعاد الأمر ﴿كُلُّ شَيْءٍ﴾ عنده بمقدار..

لقد تعب خيالك وكَدَّ ليتتبع شيئاً واحداً من كل شىء.. هو ﴿مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ﴾؛ فكيف إذا أراد خيالك أن يتتبع ﴿كُلُّ شَيْءٍ﴾..؟!

هل تطن أنك تستطيع..؟ أنت والبشر جميعاً فى كل الأرض..؟ ومع ذلك فعلم الله الشامل يعلم ﴿كُلُّ شَيْءٍ﴾. وليس هذا فحسب؛ بل إنه يخلق ﴿كُلُّ شَيْءٍ﴾ كذلك بمقدار.

وسواء كان معنى (المقدار) هنا هو “القدْر” الذى يخلق الله به كل شىء، أو هو “القدَر” المحدود لكل شىء، فإن الخيال البشري يعجز عن مجرد التصور فضلاً عن الإحاطة فضلاً عن الإحصاء..!

﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ﴾. وقد رأيتَ طرفاً واحداً من علم الله للغيب، لم يستطع خيالك تتبعه ولا إحصاءه، فكيف بالغيب كله والشهادة..؟

علمه بكم إذا أسررتم وأخفيتم

والناس حين يُسِرون القول يتصورون فى غفلتهم أحياناً أنهم يسرونه على الله..! وحين يستخْفون عن أعين الناس بأعمالهم أو سرائرهم يظنون أنهم يستخفون كذلك على الله..!

ولكن الله يشمل علمُه كل الغيب، يستوى عند المُسِرّ بالقول والجاهر به، والمستخفي والمستعلن على السواء.

﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ﴾. أى أن هناك ملائكة تتعقب كل أعماله وتسجلها عليه.

﴿مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ أى بأمر الله.

فأين يغيب شىء واحد من أعمال الإنسان عن علم الله..؟!

﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ (الأنعام : 59).

فأين يغيب شىء واحد من أعمال الإنسان عن علم الله؟!

﴿إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (لقمان : 34).

خاتمة

علم الله الشامل والمحيط حقيقة باهرة توجب رؤية مجالاتها وتدبر آفاقها، وانطلاق الشعور على إثر ذلك يراقب ربه في افعاله وأسراره، وأن يُجلَّ خالقه ويعظمه، ويعلم أنه مرئيّ مشهود، وأنه منظور اليه. وأن هناك من يدبر أمره من قبل مجيئه وهو مستسلم في بطن أمه، وهو يلاحظ ملايين الخلق يأتون من بعده يسلكون نفس السبيل..

فحُقَّ لقلبٍ يتلقى القرآن أن يتدبره ويعلم ما أنزل الله اليه وفيم خاطبه، وأن يجد أثر هذا الخطاب في قلبه وعمله وقوله، وفي طريقه ومنهجه.

……………………………….

الهوامش:

  1. عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال: حدثنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق: «إن أحدكم يجمع فى بطن أمه أربعين يوماً ثم يكون فى ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون فى ذلك مضغة مثل ذلك ثم يرسل الله الملك فينفخ فيه الروح ويمؤمر بأربع كلمات، يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقى أو سعيد…» رواه مسلم.

المصدر:

  • أ. محمد قطب. كتاب ركائز الإيمان، ص31-35.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة