يحتاج الناس أن يعرفوا حقيقة موقع “الدين” وموقع “شريعة الله” تعالى في التقنين الحديث ليعرفوا لمن هم خاضعون؟ لربهم أم لأرباب شتى..؟!

دركات الانحراف

بعد بيان شبهة أن قبول القوانين المبدلة “الوضعية” ليست كفرا، وبيان خطورة الشبهة وآثارها البشعة، ثم بيان “دركات” الانحراف عن شرع الله تعالى وبيان فُحْش هذه الدركات، وما هو منها مخرج من الملة وما هو غير مخرج..

ثم بيان المصدر الرسمي للقانون والمصدر المادي، وهي نقطة محورية تماما لمعرفة من أين يكتسب القانون إلزامه، لأن مصدر الإلزام هو من له الدينونة والخضوع.. وذلك في (المقال الأول).

وعلى هذا تبين وضع القانون العام الذي يخضع له الناس، وفي هذا المقال يوضح مكانة بقية مصادر التشريع ومن بينها “شريعة الله تعالى”..!

وضع مصادر التشريع الأخرى

والمقصود بذلك معرفة مكانة “العرف، مبادئ الشريعة الإسلامية، قوانين العدالة” بالنسبة إلى التشريع.

جاء في كتاب ”نظرية القانون للدكتور فؤاد عبد الباقي“:

“وعلى القاضي إذا ما عُرض عليه نزاع معين تحتم عليه في سبيل فضِّه أن يبحث في نصوص التشريع؛ فإذا وجد من بينها نصًا يسْري بلفظه ـ أو بروحه ـ على الحالة المعروضة عليه التزم تطبيقه، وما كان له أن يلجأ إلى مصادر القانون الأخرى.

أما إذا وجد أن التشريع لا يتضمن حكمًا للنزاع المعروض عليه هنا ـ وهنا فقط  ـ يجب عليه أن يبحث في مصادر القانون الأخرى وفق الترتيب الذي تحدده الفقرة الثانية من المادة الأولى.

وإن وُجد نص تشريعي لكنه غامض أو مبهم فلا يسوغ الانتقال منه مباشرة إلى المصادر الأخرى الاحتياطية بحجة غموض في النص التشريعي. وإنما يتحتم أولاً أن يفسر هذا النص ليعرف معناه، فإذا أدى بنا هذا التفسير إلى أن النص ينطبق على النزاع بألفاظه أو روحه تحتم تطبيقه، وامتنع الانتقال إلى المصادر الأخرى غير التشريعية. أما إذا أدى بنا تفسير النص إلى أنه لا يحكم الحالة المعروضة وجب القول بأن التشريع ساكت عن حكم النزاع ويتحتم الانتقال إلى غيره من المصادر.

مكانة “العُـرف”

يلي التشريع في المرتبة، وهو مصدر احتياطي له بمعنى أنه يجب على القاضي ألا يطبق “العُرف” إلا إذا افتقد النص التشريعي، وامتنع عليه أن يلجأ إلى المصدرين الآخرين؛ وهما “مبادئ الشريعة الإسلامية” و”قواعد القانون الطبيعي والعدالة”، إلا إذا سكت العرف بدوره عن حكم النزاع؛ فالعرف مصدر احتياطي للتشريع.

وهو مصدر احتياطي له في المرتبة الأولى.

مكانة “مبادئ الشريعة الإسلامية”

لم يكن المشروع التمهيدي لقانوننا المدني يذكر “مبادئ الشريعة الإسلامية” باعتبارها “مصدرًا رسميًا” ولكنه كان يعتبرها مجرد “مصدر استئناسي”.

وفي لجنة مراجعة المشروع التمهيدي رؤى بناء على اقتراح أستاذنا السنهوري جعْل مبادئ الشريعة الإسلامية “مصدرًا رسميًا لقانوننا المصري يجئ بعد العرف وقبل القانون الطبيعي”.

وتضمنت ذلك الفقرة الثانية من المادة الأولى من المشروع التي تنص بأنه: «إذا افتقد القاضي نصًا في التشريع، وحكمًا في العرف؛ فصل في النزاع بمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية الأكثر ملاءمة لنصوص القانون ـ القانون المدني ـ  دون تقيد بمذهب معين؛ فإن لم توجد فبمقتضى مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة».

وحين عرض هذا النص على لجنة القانون المدني لمجلس الشيوخ حذفت منه عبارة: «الأكثر ملائمة لنصوص هذا القانون دون تقيد بمذهب معين»، لأن فكرة الملائمة مفهومة دون النص عليها إذ أن “مبادئ” الشريعة الإسلامية لن تُطبق إلا إذا سكت التشريع تمامًا عن حكم النزاع بنصه أو بروح.

ولأن عبارة: «دون تقيد بمذهب معين»، لا فائدة منها لأن الرجوع إلى “المبادئ العامة للشريعة” وهي واحدة لا تختلف باختلاف المذاهب فهي “مصدر احتياطي في الدرجة الثانية”.

ويُلاحظ أن ما يعتبر مصدرًا رسميًا لقانوننا هو المبادئ العامة للشريعة الإسلامية أي القواعد الأساسية التي تقوم عليها، أما الأحكام التفصيلية لتلك الشريعة فلا تعتبر مصدرًا رسميًا.

مكانة “الديــن”

بقي للدين أثره البالغ في قانوننا المصري إلى أن جاء “محمد عليّ” يحكم مصر إذ حتى هذا الوقت كانت الشريعة الإسلامية تطبق في تنظيم أمور المصريين.

ومن عهد محمد عليّ بدأ “القانون الفرنسي” يدخل مصر؛ لا سيما فيما يتعلق منه بالتجارة والقانون الجنائي، وأخذ تأثير الشريعة الإسلامية ينكمش رويدًا رويدًا؛ كلما أدخلت مصر قاعدة من قواعد القانون الفرنسي.

وانتهى الأمر في عهد “إسماعيل” بأن صدرت التقنينات المصرية الأولى، آخذة الأغلبية من أحكامها عن القانون الفرنسي، والقليلَ النادر منها عن الشريعة الإسلامية.

وهكذا زال أثر الشريعة الإسلامية في قانوننا المصري بالنسبة إلى ما نظّمته التقنينات الصادرة وقت ذاك.

بيد أن هذه التقنينات لم تتناول تنظيم “مسائل الأحوال الشخصية” ومن ثَمَّ بقى للدين أثره فيها، كلٌّ يخضع لقانون الدين والملة التي ينتمي إليها.

ويلاحَظ أن “مسائل الأحوال الشخصية” التي تخضع في تنظيمها “للدين” قد ضاقت دائرتها بعد أن تضمن التشريع تنظيم أمور كثيرة منها؛ فقد صدر قانون ينظم الميراث، وآخر ينظم الوصية، وثالث ينظم الهبة..

وفي كل هذه الأمور زال أثر الدين باعتباره مصدرًا رسميًا بالنسبة إليها وأصبح هذا المصدر هو التشريع.

وقد استُمِدَت أحكام هذه التشريعات من الشريعة الإسلامية، ولذلك فتعتبر تلك الشريعة “مصدرًا ماديًا” في هذ المجال، ويبقى من “مسائل الأحوال الشخصية” التي ينظمها الدين”:

الزواج والطلاق والرضاعة والحضانة والنفقة… إلى غير ذلك من المسائل الخاصة بعلاقة الفرد بأفراد أسرته.

و”الدين” يعتبر بالنسبة إلى مسائل الأحوال الشخصية “مصدرًا رسميًا أصليًا” بمعنى أن القاضي يطبق مباشرة القاعدة التي يقضي بها الدين، وذلك بخلاف الحال بالنسبة إلى الشريعة الإسلامية باعتبارها “مصدرًا رسميًا للقانون في الأحوال العادية” إذ هي في هذا المجال “مصدر احتياطي للتشريع” يأتي في المرتبة الثانية بعد العرف.

سلطة القاضي في مراقبة دستورية القوانين

وقبل أن نبين سلطة القاضي في مراقبة دستورية القوانين يجب علينا أن نبادر إلى القول بأن مسألة مخالفة القاعدة القانونية للدستور لا تثور إلا بالنسبة إلى القواعد القانونية الناشئة عن التشريع العادي وتلك الناشئة عن التشريع الفرعي الذي يتضمن اللوائح أو المراسيم والقرارات؛ ذلك أن الدستور هو نوع من أنواع التشريع كما بيَّنا والتشريع يَجُبُّ عند التطبيق غيره من المصادر.

ويترتب على ذلك أنه إذا وجدت قاعدة دستورية تقضي بأمر معين امتنع على القاضي أن يتجاوزها إلى غيرها من القواعد الناشئة عن العرف أو عن “مبادئ الشريعة الإسلامية” أو عن قواعد القانون الطبيعي والعدالة.

وهكذا لا تُعرض للقاضي فرصة النظر فيما إذا كانت “قواعد العرف” أو “مبادئ الشريعة” أو “قواعد القانون الطبيعي” تخالف الدستور أو تتمشى معه.

ومن ثم نجد مراقبة القاضي دستورية القواعد القانونية الناشئة عن المصادر الثلاثة السابقة محلولة من تلقاء نفسها؛ لأن القاضي يطبق دائمًا ما يقضي به الدستور دون أن ينظر حتى إذا كانت القواعد السابقة موجودة أم لا؟” (1)

التشريع الفرعي

يقول دكتور فؤاد عبد الباقي ”نظرية القانون“:

“إذ لعل أهم الأسباب التي رجع إليها إجماع الفقه (2) والقضاء على منح المحاكم سلطة مراقبة دستورية التشريعات الفرعية أن هذه التشريعات تُجريها السلطة التنفيذية، وليس لهذه السلطة في نفوس الناس من “التعظيم والإجلال” ما للسلطة التشريعية (..!)

وباعتبار أن هذه السلطة الأخيرة تمثل “الأمة” قام في ذهن الكثيرين أنه لا يصح أن يُجعل من القضاء رقيبًا عليها؛ لأنها تعبر عن الأمة فيما تقول.

أما وهذا الاعتبار غير متوافر فيما تصدره “السلطة التنفيذية” من التشريعات الفرعية؛ فلم يشعر أحد بالحرج من أن يسلَّم للقضاء أن يراقبها.

على أن هناك رأيًا آخر هو: أن فوق السلطتين التشريعية والقضائية سلطة أعلي منهما هي التي خلقتهما وهى سلطة الدستور الذي وضعته الأمة ليُسِّير دفة أمورها.

وإذا كانت المحاكم ملزمة بتطبيق ما تنصه السلطة التشريعية فإنها أكثر التزامًا باحترام أحكام الدستور، ولا يوجد قانون بالمعنى الصحيح إلا إذا أصدرته السلطة التشريعية في الحدود التي رسمها لها الدستور.

وكلتا السلطتين ـ لهذا الاعتبار ـ مشتركتان في الخضوع لـ “سيد الكل”؛ ألا وهو الدستور.

وإذا وجد القاضي نفسه أمام تشريعين يخالف أحدهما الآخر وأحد هذين التشريعين أعلي مرتبة من الثاني امتنع عن تطبيق التشريع الأدنى في سبيل احترام التشريع الأسمي، وهو الدستور.

فإهمال القانون المخالف للدستور لا يرجع إلى القاضي وإنما يرجع إلى سيادة الدستور التي يجب أن يحني الجميع أمامه رؤوسهم “صادعين” “صاغرين” حتى السلطة التشريعية فيما تضعه من قوانين.

إلغاء القوانين

وقد نص المشرع على نوعَي الإلغاء الصريح والضمني في ”المادة 2“ مدني التي تقول بأنه:

“لا يجوز إلغاء نص تشريعي إلا بتشريع لاحِق ينص صراحة على هذا الإلغاء أو يشتمل على نص يتعارض مع نص التشريع القديم أو ينظم من جديد الموضوع الذي سبق أن قرر قواعده ذلك التشريع”.

وأساس هذا الإلغاء الضمني أن الشارع (3) وقد أصدر رغبتين متعارضتين وجب علينا أن نأخذ رغبته الأخيرة. والسلطة التي تملك إلغاء قانون معين هى تلك التي تملك خلقه أو خلق قانون أعلي منه مرتبة.

وقد سبق أن رأينا أن “القواعد القانونية” ليست على درجة واحدة؛ وإنما تختلف باختلاف مراتبها.. ففي القمة توجد “القواعد القانونية” التي يرجع مصدرها إلى التشريع، وتليها القواعد العرفية.

ثم يجئ بعد ذلك “مبادئ الشريعة الإسلامية”.

وينتهي المطاف بقواعد القانون الطبيعي والعدالة وهكذا.

فالتشريع أعلي مصادر القانون مرتبة فلا يلغيه إلا تشريع مثله وقد جاءت ”المادة 2“ معبرة عن هذا المعنى حيث تقول:

“لا يجوز إلغاء نص تشريعي إلا بتشريع لاحق”

فالعرف لا يلغي التشريع لأنه أدني منه مرتبة، ولا فرق في ذلك بين أنواع التشريع المختلفة أي: سواء كنا بصدد تشريع دستوري أو بصدد تشريع عادي أو بصدد تشريع فرعي كلائحة أو قرار. والتشريع يلغي العرف لأنه أسمي منه مرتبة وهو يلغي أيضًا أي مبدأ من مبادئ الشريعة الإسلامية وأية قاعدة من قواعد القانون الطبيعي، والعرف اللاحق يلغي العرف القديم». أهـ

حقيقة وضع الشريعة

ثم يقال بعد ذلك أنهم لا يردون أمر الله ولا يردون شرع الله؟!

أي وقاحة وجرأة على الافتراء أكثر من ذلك؟!

سبحانك هذا بهتانٌ عظيم وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولي إذا لم تستح فاصنع ما شئت».

فشريعة الله تأتي لديهم بعد العرف، والعرف بدوره بعد القانون بدرجاته الثلاثة، ولا يذهب للشريعة إلا إذا افتقد لما يحكم به في الدستور والقانون واللوائح والقرارات والمراسيم، بل وفي العرف.

وحُكْم القاضي بشريعة الله مع وجود حكم مخالف لها في هذه الدرجات يُبطل حكمه.

والحكم بالشريعة على فرض افتقاد ما يحكم به فيما تقدمها لا يكون بنصوصها بل في مبادئها العامة، وهذه تمنع الذهاب الى نصوص الشريعة واحترامها.

اللهم إنا نُشهدك على البراءة من هذا، وأنّا لا ندين إلا لك يا أرحم الراحمين.

………………………………………………….

  1. لا يراقب مخالفة القانون للشريعة، لأن مخالفة الشريعة غير مؤثر في قوة القانون وإلزامه.
  2. يقصد به فقه القانون الوضعي.
  3. يقصد الشارع الوضعي.

لقراءة البحث كاملا:

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة