تنضح النظم العلمانية ببيان معاداتها لشريعة الله، وتتوالى كلمات رموزهم ردا لأمر الله واستكبارا عليه وحربا لكل محاولة لإقامة دين رب العالمين. وهنا يتضح معنى “الاستسلام” لله أو لغيره.

مقدمة

في إطار معالجة وبيان حقيقة شبهة أن قبول القوانين الوضعية المبدلة ليست كفرا..

وبيان المصدر الرسمي للقوانين، والمصادر الفرعية، ودرجات الانحراف عن الشرع، ووضع الشريعة من ناحية الإلزام وتأخر رتبتها عندهم.. (المقال الأول).

وبيان كيفية إلغاء القوانين وسلطة مصادر “القانون بدرجاته” و”العرف” على إلغاء شريعة الله، وكيفية ترقية ما يرضون عنه من دين الله تعالى وبقاء ما لم يرضوه..! (المقال الثاني).

يوضح في هذا المقال معنى “إهدار اعتبار الشرع جملة” وبطلان القانون بنسبته للشريعة، واعتبارُه والحكم به إذا صدر عن غيره تعالى؛ مما يوضح معنى “الاستسلام” و”القبول” اللازم أن يكون لله لا لغيره، وإلا كان الشرك أو الكِبْر.

الإقرار الصريح بحق التشريع لغير الله

إن هذا الواقع قد تجاوز حد “التشريع المطلق” إلى “الإقرار الصريح بحق التشريع لغير الله”.

بحيث أن نصوص الشريعة لا تكتسب صفة القانون ـ عندهم ـ لو أرادوا العمل بها إلا بصدورها عمن يملك حق التشريع عندهم تعبيرًا عن إرادته.

وهذا فقط هو الذي يعطيها “صفة القانون” فشأنها في ذلك كشأن غيرها من العرف أو القانون الفرنسي أو آراء فقهاء القانون أو ما استقرت عليه المحاكم.

أما صدورها عن الله عزَّ وجلّ فلا يعطيها “صفة القانون” لأنه عندهم ليس مصدرًا للسلطات، وليس من حقه التشريع؛ بل استمرار صلة النص به يضع النص في مرتبة احتياطية ثانية، وانسلاخ نص آخر من نصوصه عنه والتحاقه بالتشريع الوضعي ـ كمصدر رسمي ـ له يعطيه “صفة القانون” ويُلزم القاضي الأخذ به؛ بينما يبقى الآخر في “المرتبة الثانية الاحتياطية” حيث لم يحظ بصدوره “تعبيرًا عن إرادة المشرع الوضعي” نيابة عن الأمة صاحبة الحق في السلطات وأظهر مظاهرها التشريع، ويمنع القاضي من مجرد النظر فيه مع وجود ما يحكم به في موضع النزاع من التشريع الأسمى ـ القانون الوضعي ـ نصًا أو روحًا أو نصًا غامضًا قابلاً للتفسير.

والعُرف يلغي أي مبدأ من مبادئ الشريعة الإسلامية لأنه أسمى منها مرتبة.

وكذلك القانون يلغي العرف ومبادئ الشريعة الإسلامية.

والدستور يلغي القانون .. فالسلطة التي وضعت الدستور هى التي تملك أن تلغي الدستور أو القانون، ولكن السلطة التي وضعت القانون لا يمكن أن تلغي الدستور، ولذلك فالقانون لا يلغي الدستور.

وكذلك السلطة التي وضعت القانون تلغي القانون أو العرف ولا تلغي الدستور.

والسلطة التي تضع العرف يمكنها أن تلغي عرفًا سابقًا بعرفٍ لاحق ويمكنها أن تلغي الشريعة ولا يمكنها أن تلغي القانون.

والسلطة التي وضعت الشريعة الإسلامية عندهم لا يمكنها أن تلغي العرف وإن أمكنها أن تلغي ـ الأقل منها مرتبة ـ القانون الطبيعي وقواعد العدالة.

وبعد كل هذا يقال أنهم لا يردون أمر الله..؟ سبحانك هذا بهتانٌ عظيمٌ.

حكم الله فيمن سبقوا بالتبديل

واليهود لم يقدموا شرع غير الله على شرع الله؛ وإنما استبدلوا حكمًا بحكم، وكان ذلك خوفَ القتل وحتى يتساوى الناس في العقوبة لعجزهم عن إقامة الحد على أبناء الملوك. وكانوا مع ذلك متحرجين من هذا الفعل يبحثون له عن مخرج يحاجون به عند الله يقولون أفتانا به نبيٌّ لك بُعث بالتخفيف..!

فانظر إلى الفرق بين الكفرين أليس كفر هؤلاء أفحش بكثير..؟ بل بكثير جدًا؛ ومع ذلك يقولون عنهم أنهم لا يردون أمر الله؟؟ إذا لم يكن هذا ردًا فكيف يكون الرد؟؟!!

وعندما قدم التتار الياسق على الحكم بالكتاب والسنة كفروا بإجماع المسلمين، والأمر واضح في تفسير ابن كثير وغيره.

ولربما يقولون “لقد قالوا عن الشريعة أنها مصدر رئيسي أو أساسي للتشريع”؟ ونقول هذا تفسير ما قالوه يا قوم من أفواههم فافهموه.

هل الأمر يحتاج إلى تعليق؟؟!

أمثلة على التصريح بتبديل الشريعة

ولذلك فإن محكمة النقض تبطل أي حكم للقاضي يخالف فيه القانون العادي أو الرئيسي أو يخالف فيه الدستور حتى ولو كان حكمًا متفقًا مع الشريعة الإسلامية أو مراعيًا لأسسها الأخلاقية قريبًا من قيمها أو مراعيًا لقيم المجتمع المتأثرة بالدين ولو إلى حد ما.

جاء في ”جريدة الأهرام“ بتاريخ (16 /1/ 8919 م)، (8 جمادي الثانية سنة 1409هـ) تحت عنوان «براءة لسهرة غير بريئة» كتبت نادية العسقلاني:

“حكمت محكمة النقض بإلغاء الحكم الصادر بحبس موظف 6 أشهر وبراءته من التهم المنسوبة إليه، قالت المحكمة أن المتهم اصطحب فتاة من الشارع إلى منزله لقضاء سهرة غير بريئة، وهذا لا يندرج تحت أي نص عقابي آخر، وإن الحكم المطعون فيه قد دانه بجريمة معاونة أنثى على ممارسة الفجور يكون قد أخطأ في تطبيق القانون بما يوجب نقضه والقضاء ببراءة الطاعن، أصدرت الحكم الدائرة الجنائية بمحكمة النقض برئاسة المستشار محمد وجدي عبد الصمد”. أهـ.

القانون واضح أنه لا جريمة في الزنا إذا لم يكن في الأمر اغتصاب، أو إغواء قاصر، أو اتجار، أو خيانة زوجية وكان بين بالغين متراضيين.

وجرائم “الدعارة” الشهيرة في أوساط مشاهير الفنانين وسيدات المجتمع ونجومه كان الحكم فيها بالبراءة بمجرد ثبوت التراضي وانتفاء الإتجار، وأن حرية الجنس على وجه جماعي في حفلات صاخبة ومتكررة في نطاق الشلة والأصدقاء هو نمط حياتهم العادي بعلم الأزواج والزوجات دونما اعتراض من أحد، ودون دخول عنصر الاتجار فيه بأي وجه.

وكان هذا هو الدفاع الذي حاز به المحامون البراءة للمتهمين في تلك القضايا.

ولو حكم القاضي بغير ذلك لأبطلت حكمَه محكمة النقض لمخالفته الدستور والقانون.

ومعروف أنه في حالة “الخيانة الزوجية” حتى مع ثبوت الزنا والإقرار به فإن من حق الزوج إسقاط الدعوى بالتنازل لأنه حقه هو، وليس حقًا لله كما ينصُّ الشرع، لأن الشرع غير معتبر عندهم وليس لله حق أصلاً عندهم في أي شيء يتصل بالتشريع.

هذه هى الحقيقة مهما تعاميتم عنها!!!

أبعد كل هذا مازالوا لا يردون أمرَ اللهِ وصدق الله العظيم ﴿أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ﴾ (القمر:43).

تصريحات أكابر المجرمين

وكذلك يقول فرج فودة في رده على خالد محمد خالد رادًا لدعوته بتحكيم الشريعة:

“بأن تطبيق الشريعة سوف يجعل من المواطن المسيحي مواطنًا من الدرجة الثانية لا تقبل له شهادة، ويزداد البعض تطرفًا بالقول بأنه لا ولاية له، وسوف يصبح غناء المطربات دعوة للزنى لا تستقيم مع إقامة حده، وسوف يصبح الرقص مجونًا، والتمثيل فسقًا، وتزيين المرأة تبرجًا من الجاهلية الأولى، ونحْت التماثيل كفرًا..”

إلى آخر ما يعف القلم عن ذكره هنا.

وكذلك “عبد الرحمن الشرقاوي” وتعرضه لهذا الأمر واستهجانه، واستهجان غيره؛ لما فعله “محمود عبد الحميد غراب” من تطبيق حكم شارب الخمر في الشريعة في قضايا عرضت عليه، وكيف أن هذا الحكم “مخالف للدستور” لتضمنه عقوبة بدنية، و”خرقه لميثاق القضاء والقوانين” التي أقسم اليمين على احترامها، وكيف يقدم المصدر الاحتياطي الثاني على المصدر الأساسي الأول؟؟!!

ومعلوم أن هذه الأحكام التي أصدرها لم تنفذ وعابوا عليه كيف يصدر أحكامًا يخالف بها الدستور، يعلم أنها لن تنفذ لخروجها عن القوانين ومخالفتها للدستور سيد الكل؟؟!!

ثم يقال بعد كل هذا أنهم لم يردُّوا أمر الله عليه هذا الذي لا ينتهي منه العجب ولا حول ولا قوة إلا بالله وإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.

خاتمة

هذه هي حقيقة الواقع ومكانة الشريعة في بناء هذه الأنظمة العلمانية التي تُهدر اعتبار الشرع، وتقدم عليه غيره، وتؤخّر مكانته وتجعل لكل من “الدستور” و”القانون العام” و”القانون الفرعي” و”العُرف”، تجعل لكل هذا سلطانا على “مباديء الشريعة” ـ وليس أحكامها ..! ـ لإلغائها.

هنا يجب استحضار معنى “الاستسلام” لله تعالى أو لغيره.

فقبول الشرائع، التي هي مجموعة الأحكام، والتي هي مجموعة “القوانين” بالمصطلح المعاصر، قبولها من الله تعالى تعبيرا عن إرادته تعالى ودينه المنزل، هذا هو أساس الإسلام وأصل الإيمان.

فهذه صورة مباشرة لـ “القبول” وتطبيق لها؛ فمهما تكلم الناس عن قبول شرع الله أو غيره تعالى فلن تكون ثمة صورة أوضح من هذه الصورة المباشرة.

ولا بد للمسلم من موقف رافض لأي شريعة صدرت من غير الله ـ أيا كانت تفصيلاتها ـ وموقف قبول لجميع ما أنزل الله تعالى ـ أيا كانت تفصيلاته ـ ما علم منها وما لم يعلم.

فمن استسلم لله ولغيره؛ بقبول بعض الأحكام من الله وبعضَها من غيره، فهو مشرك. ومن رد أحكام الله رأسا فهو مستكبر. والإسلام أن يستسلم لله لا لغيره، بأن يقبل شرع الله لا غيره.

ولهذا لا يقف ويمنع هذا التبديل إلا عقيدة أهل السنة أن الإيمان “تصديق الخبر وقبول الحكم” وإلا فمن كان اعتقاده أن الإيمان مجرد “التصديق”، أو “التصديق والإقرار” دون القبول؛ فمثل هؤلاء تسمح عقائدُهم بقبول العلمانية وأن تعيش بينهم ويترعرع نبتها الخبيث فتضل الأمة..!

نسأل الله تعالى أن يجعل للمسلمين فرجا عاجلا ومَخرجا من سيطرة شرائع غيره، وأن يرفع تعالى هذه الفتنة عن المسلمين، وأن يزيل هذه الغمة عن الأمة.

………………………………………………………………….

لقراءة البحث كاملا:

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة