تتحقق العلمانية في صورة رد أمر الله وتبديل الشرائع، وهذا مخالف تماما لشأن مطلق المعصية، ومع هذا يلبّس البعض فيجعلها في حكم المعاصي؛ بل المباح؛ بينما للقوانين معناها وإلزامها، وتستلزم تبديل حكم الله.

تحديد موضوع الشبهة

يقول بعض الملبّسين والمضللين:

حقًا إن الإيمان الذي هو أول ما يجب على المكلف، ولا تقبل ولا تصح الأعمال إلا به، ولا بد فيه من تصديق الخبر مع قبول الحكم، وأن الكفر يأتي من تكذيب الخبر، أو رد الأمر.

إلى هنا والكلام حقّ.

ولكن الباطل الذي يتلبس به هو قولهم أن

“هذه القوانين الوضعية ليست ردًّا لأمر الله عليه”.

فماذا تكون إذن؟!

نزعوا عن الحكم مناطه، فعلى أي شيء يتنزل؟؟ ويستدلون ببيان العلماء؟؟ أيُ علماء؟! وأيُ بيان؟!

أفلا يتوبون إلى اللهِ ويستغفرونه..؟

غرَّهم حلم اللهِ عليهم فمضوا في غيِّهم يعمهون، وهو استدراج لهم من الله لو يفقهون، ليشهدوا على أنفسهم بالضلال والتلبيس، وليستزلهم الشيطانُ بما كسبوا؛ نعوذُ بالله من الفتنة.

خطورة الشبهة

وخطورة الشبهة أنها تدافع عن الأوضاع العلمانية وقوانينها وتبديلها لأحكام الله وتنحيتها لشريعة الله وإلغائها لوجود وفاعلية الشريعة ومنع هيمنتها على الحياة، وحرمان الناس من رؤية منهج الله حاكما فاعلا بقوانينه وقيمه وأحكامه وصبغته..

ويبقى الناس يظنون أنهم يستوفون ما أمرهم الله؛ بينما من يقبل حكم غير الله يهدم أصل دينه ويُبطل توحيده لربه تعالى..

ومن العلمانية يدخل الغرب ويستولي على هذه الأنظمة ويحكم الأمة من خلالها.

فمن يدافع عن هذه الأوضاع يدافع عن استمرار هيمنة الغرب الصليبي على الأمة وعلى مناهج تعليمها وإعلامها وعقليتها وأفكارها، وعلى استمرار عملية تغريبها، وعلى ضياع مقدراتها الى يد العدو وعلى تمكين المشروع الصهيوني بفساده.

من يحافظ على هذه الأوضاع ويدافع عنها هو من يحافظ على استمرار قهر المسلمين وتشريد العلماء وسجن الدعاة واعتقال العقول المخلصة للأمة.

لهذا كان من الضروري الرد على هذه الشبهة وبيان حقيقة الواقع.

دركات الانحراف عن شرع الله

ونقـول: الانحراف عن شرع اللهِ له خمس دركات متفاوتة في الفحش وهي:

1) إهدار اعتبار الشرع جملة

بإبطال حكم الشرع وتقديم القانون عليه.

2) تبديل الشرائع

باستبدال الدين المحْكَم بالدين المنسوخ، أو المبدل في بعض الشرائع دون بعضها الآخر.

وهو كقول اليهود في الاستعاضة عن “الرجم” بـ “الجلد والتحميم”، فقالوا: “نجتمع على أمر نجعله في الشريف والوضيع فينا”؛ فاجتمعوا على “الجلد والتحميم” مع بقاء التزامهم بغيره من الأحكام، وهو من الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعض، كاستحلالهم القتل وتحريمهم السبي لبني إسرائيل مع وجوب الفداء.

3) الردة عن الشرائع

وهي الإباء من قبول الفرائض، واستحلال المحرمات

وهذه “الدركات” الثلاث كفر صريح مخرج عن الملة، أفحشها الأول، ويليه في الفُحش الثاني، ثم الثالث.

أما الرابع والخامس فهما:

4) الامتناع عن الشرائع

من غير التزام بغيرها أو تبديل لها أو ردة عنها.

5) الحكم بغير ما أنزل اللهُ

ولو في جزئية واحدة في بعض ما يَرِد عليه ميلاً مع الهوى بسبب الجهل والجور، مع بقاء التزامه بالشرع جملة وتفصيلاً لا يخرج عنه.

وهاتان الدركتان داخل نطاق الإسلام، وإن كانت الأولى تكاد أن تخرج صاحبها عن الإسلام، وهي مفضية إلى ذلك مؤدّية إليه إذا تمادى فيها ولم يجد من يردعه عن غيِّه بالسيف ويقوِّم اعوجاجه.

والثانية متفاوتة لا يخلو منها أحد إلا من شاء الله.

موقع القوانين من هذه الدركات

إن هذه القوانين الوضعية، والأنظمة العلمانية التي تقوم عليها هذه القوانين، وأنظمة الحكم والقائمين بها التي تساندها، وتفرضها، وتذبُّ عنها، وتقاتل دونها؛ راجعة بجملتها إلى “أحط دركات الكفر” وهي:

“إهدار اعتبار الشرع جملة”

بإبطال حكم الشرع وتقديم القانون عليه وإليكم بيان ذلك:

مصادر القانون في بلادنا

جاء في كتاب ”نظرية القانون للدكتور فؤاد عبد الباقي“:

القانون في ميلاده:

المصادر المادية للقانون

يقصد بـ “المصادر المادية” تلك التي تغترف منها مادة القانون وهذه المصادر متعددة متنوعة، فقد تأتي إلينا مادة القانون من “حاجات الأمة” كما هي الحال الغالب.

ومثال ذلك: ما اقتضته ظروف بلدنا من وجوب تحديد الملكية الزراعية بمائتي فدان للشخص الواحد فمادة القاعدة القانونية التي نصت على هذا الحكم مستقاة من صميم حاجات وطننا.

وقد تستمد مادة القانون من “السوابق التاريخية” التي مرت بها الأمة، أو مرت بها أمة أجنبية، ويسمى هذا النوع من المصادر بـ “المصادر التاريخية”.

وقد استمد قانوننا المصري “أغلب” أحكامه من القانون الفرنسي و”القليل” من الشريعة الإسلامية.

وعلى ذلك يعتبر “القانون الفرنسي” و”الشريعة الإسلامية” مصدرين “تاريخيين” لقانوننا بالنسبة للأحكام التي استقاها من كل منهما.

وقد يستمد المشرع مادة القانون من “استقرار المحاكم على أمر معين”، وهنا يكون المصدر المادي هو “القضاء”، والأمثلة على ذلك كثيرة في قانوننا المدني الجديد حيث أُخذ بكثير من الآراء التي استقرت عليها محاكمنا في ظل القانون القديم. وقد يستمد القانون في النهاية مادته من آراء الفقهاء “فقهاء القانون”، التي يوردونها في مؤلفاتهم وهنا يكون “الفقه” هو المصدر المادي.

وخلاصـة هذا أن “المصادر المادية” وهي التي تغترف منها مادة القانون متعددة ومتنوعة، ولا تفيد هذه المصادر في معرفة ما إذا كانت هناك قاعدة قانونية أم لا، لأن القاعدة لا تعتبر قانونية إلا إذا توافر لها عنصر “الإلزام” الذي يضفيه عليها “المصدر الرسمي”.

المصادر الرسمية للقانون

والمصادر الرسمية لقانوننا المصري هي:

“التشريع، العرف، مبادئ الشريعة الإسلامية، مبادئ القانون الطبيعي، وقواعد العدالة”.

وليست هذه المصادر على درجة واحدة من الأهمية.

فالتشريع هو المصدر الأساسي السابق في أهميته؛ في حين أن المصادر الأخرى لا تعدو أن تكون مصادر قانونية احتياطية لا يُلجأ إليها إلا إذا سكت التشريع عن حكم النزاع، ولا يوجد ثمة ما يمنع من أن تتطور القاعدة القانونية بالنسبة إلى مصدرها الرسمي؛ فقد توجد هناك “قاعدة قانونية” مصدرها “العرف” ثم تصير بعد ذلك قاعدة قانونية مصدرها “التشريع”، وهنالك يستحيل العرف إلى “مصدر مادي” للقاعدة القانونية بعد أن كان “مصدرًا رسميًا” لها.

وتغيير المصدر الرسمي للقاعدة القانونية لا يؤثر في “ذات إلزامها” وإنما يؤثر في “درجة هذا الإلزام”؛ فالقاعدة العرفية التي تصبح تشريعًا هي في الحالتين ملزمة ولكن انتقالها إلى رحاب التشريع يجعلها ملزمة من الدرجة الأولى في حين أنها كانت ـ وهي عرفية ـ ملزمة بالدرجة الثانية.

وهذه المصادر الرسمية وهي: التشريع، والعرف، ومبادئ الشريعة، ومبادئ القانون الطبيعي؛ “مصادر عامة”.

ويوجد إلى جانب هذه المصادر العامة “مصدر خاص” بدائرة محدودة من العلاقات القانونية وهي متعلقة بالأحوال الشخصية بالنسبة للمصريين هذا المصدر الخاص هو “الدين”؛ فالدين مصدر من مصادر القانون في نطاق محدود وهو نطاق الأحوال الشخصية.

درجات قوة المصادر الرسمية

ثم يتكلم عن درجات المصادر الرسمية فيقول:

التشريع

وهو المصدر الرسمي الغالب للقانون في عصرنا الحاضر، ويقصد بالتشريع باعتباره مصدرًا للقانون: “سن القواعد القانونية بواسطة السلطة التي يمنحها الدستور الاختصاص بذلك”.

يشغل “التشريع” الآن بالنسبة إلى مصادر القانون مكان الصدارة، فالأغلبية الساحقة من القواعد القانونية ترجع في مصدرها إليه، إذ قد تقلص ظل المصادر الأخرى، وعلى رأسها “العرف”؛ إلى درجة أن أصبحت أهميتها بالغة التفاهة (1) واقتصر دورها على أن تسد النقص في التشريع في الأحوال القليلة النادرة التي سكت فيها التشريع عن حكم النزاع المعروض أمام القاضي، وليس هذا حال مصر وحدها بل أيضًا حال كل الدول الأخرى “الراقية”..!

جاء في هذا الكتاب عن “الشريعة” أيضًا أنه إذا انفصلت قاعدة من قواعد الشريعة عن الشريعة الإسلامية “كمصدر رسمي” لها “ارتقت” ـ كما يقولون ـ من الدرجة الثالثة “الأدنى” إلى الدرجة الأولى “الأرقى” من الإلزام

وذلك لانتقالها إلى “التشريع” كـ “مصدر رسمي” لها واستحالة الشريعة إلى مجرد “مصدر مادي” تاريخي لها.(2)

جاء تحت عنوان ”أنواع التشريع“:

  • “يوجد في القمة “التشريع الدستوري” ويسمى أحيانًا بالتشريع الأساسي.
  • ويلي التشريع الدستوري “التشريع العادي” أو ما يُسمى بالتشريع الرئيسي وهو الذي يصدر من السلطة التشريعية العادية أي تلك التي يكل إليها الدستور أمر سن القوانين.
  • “التشريع الفرعي” وهو الذي تباشره السلطة التنفيذية ويشمل اللوائح، القرارات، المراسيم.

ويترتب على تدرج هذه الأنواع الثلاثة في الأهمية أنه لا يصح للتشريع “الأدنى مرتبة” أن يخالف التشريع الذي يعلوه، فلا يصح أن يخالف التشريع العادي تشريعًا دستوريًا، ولا يسوغ للتشريع الفرعي أن يخالف التشريع العادي ولا التشريع الدستوري.

درجات الإلزام

القانون مادة ملزمة لمن تخاطبه وليست نصيحة، بل أمر ممن له سلطة موجّه الى الخاضع لهذه السلطة.

والقانون يكتسب إلزامه ممن له سلطة التشريع ومن يتوجه له الناس بالخضوع.

وفي الإسلام لا بد أن يكون مصدر تلقي الشرائع واستخراج القوانين من رب العالمين من خلال نصوص الوحيين، والاجتهاد على هذه النصوص.

أما إخضاع الناس لتشريعات صادرة من غير الله؛ فهو إخضاع الناس للدينونة لغير الله، واضطراب الحياة وفسادها وضياع خصوصية الأمة.

وترتيب درجات الإلزام بالقانون هو فضيحة، فالشريعة تأتي في الرتبة الثالثة، بعد التشريع العام، والعرف، ولهذا يجعلون المادة ارتقت عندما تُنتزع من الشريعة الى التشريع العادي أو العام.

فلينظر المسلمون الى أي واقع يعيشون..؟ وكيف يلقون الله لو رضوا بهذا الحال ولم يبرؤوا من هذا التبديل..؟

…………………………………………………

هوامش:

  1. وأقـول: انظروا إلى وضع الشريعة عندهم، فهي تدخل مع العرف، وقواعد العدالة، والعرف سابق عليها في الأهمية. الثلاثة يدخلون تحت هذا الوصف كمصادر أهميتها بالغة التفاهة.
  2. يقصد بقول “استحالة” تحول الشريعة من مصدر رسمي لتصبح مصدرا ماديا.

لقراءة البحث كاملا:

المصدر:

  • البلاغ المبين، الشيخ عبد المجيد الشاذلي، ص1120-1127.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة