للخير مواسم، وفي دهرنا نفحات. ورمضان موسم للخير يتقلب فيه المؤمن ـ تأسيا بنبيه ـ بين تعبدات الصيام والقرآن والقيام والصدقة والجهاد.
مقدمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على من أرسله ربه رحمة للعـالمـين، وداعـياً إلى الحق وإلى صراط مستقيم، نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم، أما بعد:
فإن الله – تعالى – خلق كل شيء فقدَّره تقديراً، واختصَّ الله بحكمته الباهرة وعلمه الذي وسع كل شيء أزماناً وأمكنة بمزيد من الفضل والشرف، وقد أخبرنا الله في كتابه وسنة رسوله، صلى الله عليه وسل، بما فضَّل من الأزمان والأوقات؛ لكي نبادر ونسارع إلى الخيرات فيها.
بين الخاسر والمحروم
والمحروم من يجعل جهده وسعيه في تلك الأزمان والأمكنة معادلاً لجهـده في غيرها من الأزمان والأمكنة؛ فلا يخصصها بمزيد من الاجتهاد في الخيرات التي هي ميدان التسابق والتي فيها الربح العظيم.
والخاسر من يحصر جهده في تلك الأزمان والأمكنة في الحصول على زهرة الحياة الدنيا التي لن يأتيه منها مهما اجتهد وسعى إلا ما قدَّر الله له.
وقد يجتمع شرف الزمان والمكان وفضلهما بالنسبة لأقوام دون آخرين، فينبغي لهم الاجتهاد والسعي في الخيرات أكثر ممن انفرد بجهة واحدة من الشرف والفضل.
وقد حضَّنا الله، تبارك وتعالى، على المنافسة في فعل الخير ومحاولة الوصول إلى أعلى المقامات فيها، وألا يقبل الإنسان لنفسه بالدون منها، فقال الله، تبارك وتعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْـخَيْرَاتِ﴾ [المائدة: 48].
استباق الخيرات
والاستباق: المبادرة والمسارعة، والأمر بالاستباق يعني: المنافسة في ذلك، وألا يَقنع المسلم بمجرد الفعل حتى يكون مسارعاً فيه منافساً لغيره في الإتيان به؛ حتى يكون في ذلك من السابقين، كما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «لا حسدَ إلا في اثنتين: رجلٍ آتاه الله مالاً فسلَّطه على هلكته في الحق، ورجلٍ آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها». (1أخرجه البخاري، رقم73. ومسلم، رقم 816)
وقد فسَّر أهل العلم “الحسدَ” في هذا الموضع بـ “المنافسة”؛ قال ابن حجر:
“وأما الحسد المذكور في الحديث فهو الغِبطة، وأطلق الحسد عليها مجازاً، وهي أن يتمنَّى أن يكون له مثل ما لغيره من غير أن يزول عنه، والحرص على هذا يسمى منافسة». (2فتح الباري لابن حجر (1/ 167))
والخيرات: كل ما يحبه الله، تعالى، ويرضاه من الأقوال والأفعال؛ سواء كان مما أمر الله به ورسوله، أو دعا إلى فعله ورغّب فيه وحضَّ عليه.
وقد جاء الأمر بالاستباق في الخيرات في موضعين من كتاب الله تعالى..
أولهما: قوله تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْـخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 148].
وثانيهما: قوله تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْـخَيْرَاتِ إلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ [المائدة: 48].
وإذا كانت المسارعة بالخيرات محمودة مطلوبة في كل آنٍ وحين وكل مكان؛ فإن حدوث ذلك في الأماكن المفضلة والأزمان الشريفة أكثر فضلاً وخيراً وأعظم أجراً.
التعرض لنفحات الله
قـد دخـل علـينا شهر رمضـان بفـضله وشـرفـه وهـو ما يستوجب علينا أن نتعرض فيه لنفحات الله علينا.
كما ندبنا لذلك رسولنا الكريم، صلى الله عليه وسلم، فقال: «افعلوا الخير دهركم، وتعرَّضوا لنفحات رحمة الله؛ فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده، وسلوا الله أن يستر عوراتكم، وأن يؤمِّن روعاتكم». (3المعجم الكبير للطبراني، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 1890)
وفي رواية شاهدة لذلك قوله: «إن لربكم في أيام دهركم نفحات فتعرَّضوا لها».
وقد فهم أصحاب النبي ـ رضي الله عنهم ـ منه، صلى الله عليه وسلم، ذلك فصاروا يرددونها. قال أبو الدرداء: «التمسوا الخير دهركم كله، وتعرَّضوا لنفحات رحمة الله؛ فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده، واسألوا الله أن يستر عوراتكم ويؤمِّن روعاتكم».
ولا يشك أحد أن “رمضان” كله؛ ليلَه ونهاره، من هذه الأزمـان الـتي تـهبُّ فـيها نفحات الله تعالى؛ لذا أكثر الرسول، صلى الله عليه وسلم، وكذلك المتابعون لطريقته ـ الصحابة فمن بعدهم ـ من التعرُّض لتلك النفحات؛ بحضور القلب ولزوم الذكر والدعاء وقراءة القرآن والصدقة والإحسان إلى خلق الله تعـالى، والصـلاة بالليـل والـناس نـيام، وكان لهم شأن فيه لم يكن لغيره من الأزمان.
صدقة كالريح المرسلة
تحدِّثنا الروايات الصحيحة أنه قد كان لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، في رمضان شأن يختلف عن كل أحواله في غيره من الشهور؛ فقد كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في كل أحيانه جواداً كريماً، لكن كرمه وجوده في رمضان كان في الذروة؛ قال عبد الله بن عباس، رضي الله تعالى عنهما:
«كان النبي، صلى الله عليه وسلم، أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل ـ عليه السلام ـ يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه النبي، صلى الله عليه وسلم، القرآن، فإذا لقيه جبريل ـ عليه السلام ـ كان أجود بالخير من الريح المرسلة». (4أخرجه البخاري، رقم 1902. ومسلم، رقم 2308)
فجوده ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالخير في رمضان يفوق الريح المرسلة بالخير في إسراعها وعمومها، ولولا أن الجود في رمضان تفوق منزلته على غير رمضان ما اختصه الرسول الأمين، صلى الله عليه وسلم، بذلك.
قال ابن حجر:
“الجود في الشرع إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي، وهو أعمّ من الصدقة، وأيضاً فرمضان موسم الخيرات؛ لأن نِعَم الله على عباده فيه زائدة على غيره، فكان النبي، صلى الله عليه وسلم، يُؤْثِر متابعة سنة الله في عباده”. (5فتح الباري، 1/ 31)
شأنٌ خاص مع القرآن
وكما كان الرسول، صلى الله عليه وسلم، في رمضان أجود ما يكون حتى يفوق الريح المرسلة؛ فكذلك كان تالياً للقرآن يتدارسه مع جبريل ـ عليه السلام ـ كل ليلة، وهو ما يبيِّن أهمية العناية بقراءة القرآن، وأن هذه العناية تبلغ ذروتها وحدَّها الأقصى في رمضان؛ فرمضان الشهر الذي أُنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، وحريٌّ بالمسلم في شهر القرآن أن يخصه بمزيد من القراءة.
وللسلف في قراءة القرآن شأن عجيب؛ فقد كان بعضهم يختم القرآن في عدة أيام، وبعضهم يختمه في ليلة أو ليلتين، فقرأ عثمان بن عفان، رضي الله عنه، القرآن في ركعة، وكان أُبيّ بن كعب، رضي الله تعالى عنه، يختم القرآن في ثماني ليالٍ، وكان تميم الداري، رضي الله عنه، يختمه في سبع.
وكان سعيد بن جبير يختم القرآن في كل ليلتين، وكان الأسود النخعي يختم القرآن في شهر رمضان في كل ليلتين.
وكان قتادة يختم القرآن في سبع، وإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاث، فإذا جاء العشر ختم كل ليلة، وكان الشافعي يختم القرآن في رمضان ستين ختمة وفي كل شهر ثلاثين ختمة.
ولا شك أن الالتزام بالهدي النبوي في أن لا يقرأ المسلم القرآن في أقل من ثلاث هو الأَوْلى، لكن هذه الأخبار تبيِّن مدى حرص السابقين على قراءة القرآن والعناية به.
قوامون لليل
وفـي شهـر الصيـام وقـراءة الـقرآن والقـيام كـان الرسول الكـريم، صلى الله عليه وسلم، يجتهد في رمضان غاية الاجتهاد في قيام الليل، وكلما جاءت الليالي الفضلى اشتد اجتهاده فيها عما سبقها من الليالي، فعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: «كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إذا دخل العشر أحيا الليل، وأيقظ أهلـه، وشـدَّ المـئـــزر». (6أخرجه البخاري، رقم 2024 ـ ومسلم، رقم 1174؛ واللفظ له).
فـهــو ـ صلى الله عليه وسلم ـ يجـتـهــد فـي رمضـان ما لا يجـــتــهـد في غيره، وكان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد فيما تقدَّم من رمضان، وإذا علمنا أن رسولنا، صلى الله عليه وسلم، كان يقوم في غير رمضان حتى تتفطر قدماه؛ فلنا أن نتصور ماذا تكون عليه الحال في رمضان حيث يجتمع فضل الصيام والتلاوة والقراءة والقيام.
وفي رمضان ليلةُ القدر، التي من وفَّقه الله لقيامها كانت له بمنزلة عمل ألف شهر، فهو عمل قليلٌ وجزاءٌ عميم عظيم من رب كريم رحيم، فقد قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «من قام ليلة القـدر إيمـاناً واحتساباً غُفر له ما تقدَّم من ذنبه». (7أخرجه البخاري، رقم 1768).
فهي بلا شك ليلة عظيمة من وفَّقه الله، تعالى، لقيامها جمع من الفضل والأجر ما لا يجمعه غيره في عشرات السنين.
الجهاد والصيام
والعناية بالعبادة في رمضان لا تعني أن يقصِّر المسلم فيما وجب عليه من الأمور؛ فإن غزوة بدر الكبرى التي نصر الله فيها الإيمان وجنده وخذل الشرك وأهله؛ لم تكن إلا في رمضان، وإنَّ فتح مكة الـذي سُمِّي “الفتح الأكبر” لم يحدث إلا في رمضان، وانتصار المسلمين على التتار لم يكن إلا في رمضان.
وكثير من المعارك الفاصلة في تاريخ الإسلام والمسلمين قد جرت في شهر رمضان، وأبلى المؤمنون فيها بلاءً حسناً ولم تُعِقْهم العبادة في هذا الشهر عن القيام بذلك.
نسأل الله بمنِّه وفـضله أن يرزقـنا بركة هـذا الشـهر، وأن يجعـلنا مـن الذيـن وفَّقـهم لقيـام ليلة القدر، ونسأله ـ تعالى ـ أن يجعلنا من المسارعين في الخيرات؛ وخاصة في مواسم الفضل والشرف.
خاتمة
ينبغي للمؤمن المطواع لربه تعالى أن يتلقى من ربه نعمه وعطاياه. والعطايا قد تكون دينية مثل هذا الشهر الكريم، بما فيه من مفاتيح للخير تفتح بسببها أبواب الجنة لكثرة الأعمال الصالحة.
فلا تكن خاسرا أو مغبونا. وكن لربك مطواعا وللخير مسارعا وللجنة مسابقا؛ فذلكم الفضل الذي يطلبه الطالبون.
………………………………
الهوامش:
- أخرجه البخاري، رقم73. ومسلم، رقم 816 .
- فتح الباري لابن حجر، (1/ 167).
- المعجم الكبير للطبراني، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 1890.
- أخرجه البخاري، رقم 1902. ومسلم، رقم 2308.
- فتح الباري، (1/ 31).
- أخرجه البخاري، رقم 2024. ومسلم، رقم 1174؛ واللفظ له.
- أخرجه البخاري، رقم 1768.
المصدر:
- راجع: محمد بن شاكر الشريف، موقع صيد الفوائد