ثمة حِكم ومصالح شرع الله من أجلها الصيام، التقوى رأسها وثمة خيرات أُخر. وما بين الترك لله، والعمل من أجله؛ يتقلب المؤمن في تعبداته.
مقدمة
رمضان من مواسم الخيرات التي امتن الله تعالى بها على عباده، ليقوّى إيمانهم، وتزداد فيه تقواهم، وتتعمق صلتهم بربهم، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183].
والمتأمل في النصوص الشرعية الواردة في الصيام، التي تتحدث عن حِكَم الصيام وغاياته في الشريعة وفي واقعنا معاشر المسلمين يجد بوناً كبيراً لدى أكثر عامة الأمة وكثير من شباب الصحوة بين الواقع والواجب.
وسأحاول بإذن الله تعالى أن أتلمّس أبرز الأسباب التي أدت إلى هذا التباين، معرجاً على شيء مما ييسر الله تعالى له من طرق العلاج.
أسباب التباين بين الواقع والواجب
هناك أسباب كثيرة من أبرزها:
الجهل بأهداف وحِكَم الصيام وغاياته
يعد الجهل بأهداف وحِكم الصيام وغاياته في الشريعة لدى كثير من المسلمين، وقيامهم بالتطبيق تقليداً ومسايرة للمجتمع من دون التأمل والدراسة من أبرز أسباب هذا التباين، يقول الشيخ الدوسري:
“فإن لم يكن البشر واعين لحكمة التشريع الإلهي وثمراته في الدنيا قبل الآخرة، فإنهم لن يطبقوه على تمامه، أو على الوجه الصحيح”. (1صفوة الآثار والمفاهيم 3/ 82)، ويمكن إيجاز أهم تلك الحِكم فيما يلي:
تحقيق التقوى
تعد التقوى من أبرز حكم الصيام؛ يقول الرازي:
“إن الصوم يورث التقوى لِما فيه من انكسار الشهوة وانقماع الهوى؛ فإنه يردع عن الأشر والبطر والفواحش، ويهوّن لذات الدنيا ورياستها، وذلك لأن الصوم يكسر شهوة البطن والفرج؛ فمن أكثر منه هان عليه أمر هذين، وخفّت عليه مؤونتهما، فكان ذلك رادعاً له عن ارتكاب المحارم والفواحش، ومهوّناً عليه أمر الرياسة في الدنيا، وذلك جامع لأسباب التقوى..”. (2مفاتيح الغيب 5/ 70)
التربية على الصبر وقوة الإرادة
التربية على الصبر من أبرز مرامي الصيام حتى سمَّى النبي، صلى الله عليه وسلم، شهر الصيام: بشهر الصبر إذ في الصوم:
“تربية لقوة الإرادة على كبح جماح الشهوات وأنانية النفوس، ليقوّى صاحبها على ترك مألوفاته أكلاً أو شرباً أو متاعاً، فيكون قويّ الإرادة في الإقدام على أوامر الله، وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم التي من أعظمها حمل الرسالة المحمدية والدفع بها إلى الأمام، ساخراً بما أمامه من كل مشقة وصعوبة..
والصوم يمثّل ضرباً من ضروب الصبر، الذي هو الثبات في القيام بالواجب في كل شأن من شؤون الحياة”. (3تفسير المنار 2/ 45)
إذ يصبّر فيه الإنسان نفسَه على طاعة الله تعالى بالوقوف عند حدوده فعلاً وتركاً؛ قال تعالى بعد أن ذكر شيئاً من أحكام الصيام ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾ [البقرة: 187]، كما يضبطها ويمنعها عن لذّاتها طواعيةً وامتثالاً لأمر الله تعالى وطلباً لثوابه، وفي ذلك من التربية على قوة العزيمة والإرادة ما يجعل الإنسان متحكماً في أهوائه وشهواته.
التربية على الاستسلام والخضوع لله تعالى
يربي الصيامُ المسلم على ضبط نفسه الأمارة بالسوء، ويمكّنه من السيطرة عليها والإمساك بزمامها، بحيث لايكون مستسلماً لها بل مستسلماً لأوامر ربه خاضعاً منقاداً لنواهيه، مؤْثراً لمحابِّه سبحانه، مقدماً لها على رغائب الجسد وشهواته.
إنشاء الخوف من الله تعالى ومراقبته
الصيام عبادة خالصة بين العبد وربه، ولذا فإنه يربي في المسلم الخوف من الله تعالى ومراقبته والتطلع لثوابه، إذ بإمكانه أن يُظهر الصيام أمام الخلق وهو غير صائم أصلاً، سواء أكان عن طريق تناول شيء من المفطرات، أو بمجرد فقدان النية، وإن أمسك عنها طوال النهار؛ وفي ذلك من ظهور صدق الإيمان وكمال العبودية وقوة المحبة لله تعالى ورجاء ما عنده ما جعل جزاء الصيام عند الله تعالى أعظم من جزاء جل العبادات، قال الله تعالى في الحديث القدسي: «كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ماشاء الله عزوجلّ، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي.. ». (4مسلم 2/ 807، ح/ 1151). قال ابن القيم:
“والعباد قد يطّلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة، وأما كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده فهو أمر لا يطلع عليه بشر، وذلك حقيقة الصوم”. (5زاد المعاد 2/ 29)
لمّ شعث القلب، والتفكر في ملكوت الله تعالى
لما كان فضول الطعام والشراب والكلام والمنام ومخالطة الأنام مما يزيد القلب شعثاً ويشتته في كل وادٍ، ويقطعه عن سيره إلى الله تعالى، أو يُضعفه أو يعوقه ويوقفه، اقتضت رحمة الله تعالى بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب، ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات وشرع لهم من العبادات أثناءه من اعتكاف وقيام ودعاء وتلاوة قرآن ما يذهب فضول الكلام والمنام ومخالطة الأنام.
كما أن القلب في حال الصيام يتفرغ للتفكر في آيات الله تعالى وملكوته، لأن الإفراط في تناول الشهوات يستوجب الغفلة، وربما يقسي القلب ويعمي عن الحق، قال ابن رجب:
“وخلوّ الباطن من الطعام والشراب ينوّر القلب ويوجب رقَّته ويزيل قسوته ويخليه للذكر والفكر”. (6لطائف المعارف ص 290)
معرفة العباد لما هم فيه من نعم، وتذكر الأغنياء لحال إخوانهم الفقراء
يحصل للأغنياء نتيجة امتناعهم عن الطعام والشراب في نهار الصيام مشقة، فيوجب ذلك لهم معرفة قدر نعمة الله تعالى عليهم بالغنى؛ حيث مكنهم من تلك النعم طوال العام مع ابتلاء عبادٍ له آخرين بالحرمان؛ مما يستوجب الشكر لله تعالى على ذلك.
كما أن الفقراء ينظرون في العطايا التي يعطاها العباد خلال هذا الشهر من خلوّ الذهن للتفكر والعبادة والذكر نتيجة الجوع وخلوّ البطن، ويرون أن حالهم مقاربة لذلك في غالب العام، وأنهم مؤهَّلون لاستغلال تلك النعم طوال الوقت مما يستدعي شكرها.
كما أن الصيام يجعل الأغنياء يتذكرون حال من حولهم من إخوانهم الفقراء، ويدعوهم إلى رحمة المحتاجين ومواساتهم بما يمكن من ذلك.
قوة الأجساد وصحتها
الأصل في مشروعية الصيام أنه يقوّي الإيمان ويُكسب العبدَ التقوى التي تحجزه عن المعاصي والآثام؛ إلا أن له حِكماً وفوائد أخر، من أبرزها ما اتضح في عصرنا من تقويته للأجساد وأثره في صحتها بالوقاية من العلل والأمراض الجسمية والنفسية.
تعليق الصيام بالتروك فقط
يعتقد كثير من الناس أن الصيام جملة من التروك فقط، متناسين أن الله تعالى شرع الصيام وشرع معه جملة من الأعمال التي تتظافر لتحقيق غايات الصوم وآثاره المرجوة منه.
أمثلة للأعمال المشروعة مع الصيام
لعل من أبرز تلك الأعمال التي دلت عليها النصوص:
قيام الليل
قال صلى الله عليه وسلم: «من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ماتقدم من ذنبه». (7مسلم 1/ 523، ح/ 759)
العمرة
قال صلى الله عليه وسلم: «عمرة في رمضان كحجة معي». (8الحاكم 1/ 483 وصححه الألباني في الإرواء ح 1587)
تفطير الصائمين
قال صلى الله عليه وسلم: «من فطّر صائماً كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئاً». (9أحمد 2/ 174 وصححه الألباني في الإرواء ح/6415)
قراءة القرآن وختمه
قال صلى الله عليه وسلم: «الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشراب فشفِعْني فيه، ويقول القرآن منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان». (10أحمد وصححه الألباني في الإرواء ح/3882) وثبت أن النبي، صلى الله عليه وسلم، كان يلقاه جبريل في كل سنة في رمضان، فيعرض عليه النبي، صلى الله عليه وسلم، القرآن.
الصدقة
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أجود الناس بالخير، وكان أجود مايكون في شهر رمضان». (11مسلم 4/ 1803، ح/2308) قال الشافعي:
“أحب للرجل الزيادة بالجود في شهر رمضان اقتداء بالرسول، صلى الله عليه وسلم؛ لحاجة الناس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل كثير منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم”.
الاعتكاف
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يعتكف العشر الأواخر من رمضان». (12مسلم 2/ 830، ح/ 1171) قال الزهري:
“عجباً للمسلمين تركوا الاعتكاف، مع أن النبي، صلى الله عليه وسلم، ما ترَكه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله عز وجل”.
الدعاء
حيث ذكر الله تعالى في ثنايا آيات الصيام قوله: ﴿وَإذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ﴾ [البقرة: 186] ليرغب الصائم في كثرة الدعاء، وقال: «ثلاث دعوات مستجابات: دعوة الصائم، ودعوة المظلوم، ودعوة المسافر». (13صحيح الجامع، ح/ 3030)
التوبة
رمضان موسم التوبة والعودة إلى الله عز وجل وذلك لعظيم جوده تعالى وفضله في كل وقت، وفي هذا الشهر خاصة، حيث تُصفَّد الشياطين. (14انظر مسلم ك2/ 875، ح/1079) وله سبحانه في كل ليلة من رمضان عتقاء من النار، بالإضافة إلى تهيؤ الإنسان بالصوم وسائر العبادات لذلك، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: «رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له».
الاجتهاد في العمل مطلقاً في العشر الأواخر
عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان، صلى الله عليه وسلم، إذا دخل العشر أحيا الليل، وأيقظ أهله وجد وشد المئزر». (15مسلم 2/ 832، ح/1174) وقالت رضي الله عنها أيضاً: «كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يجتهد في العشر الأواخر مالايجتهد في غيره». (16مسلم 2/ 832، ح/1175)
والأفعال المشروعة في رمضان كثيرة، فالمفترض في حق المسلم أن يحرص على شغل وقته بما يعود عليه بالنفع أكثر عند لقاء الله عز وجل.
عدم استشعار أثر المعاصي على الصيام
الذنوب سبب حرمان الله للعبد من الاستفادة من الصيام وتحقيقه التقوى فيه، قال تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾ [الشورى: 30]
ولذا فإن الصوم ينقص ثوابه بالمعاصي وإن لم يبطل بها، فقد لايحصل الصائم على ثواب مع تحمله التعب بالجوع والعطش لأنه لم يصم الصيام المطلوب.
وقد وردت عدة أحاديث تبين ذلك المعنى وتجليه منها قوله: «رُب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر». (17أحمد 2/ 373، وانظر صحيح الجامع، ح/3488) وقال: «ليس الصيام من الأكل والشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابك أحد، أو جهل عليك، فقل: إني صائم». (18الحاكم 1/ 420، صحيح الجامع، ح/5376)، وقال، صلى الله عليه وسلم: «من لم يدَع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه». (19البخاري مع الفتح 4/ 116، ح/1903)
خاتمة
تلك نظرة عامة لفريضة الله في الصيام، راجين أن يلتفت المؤمنون الى رسالة تلك الفريضة ويخرجوا منها بما أراده الله لنا وبنا من الخير.
………………………….
هوامش:
- صفوة الآثار والمفاهيم 3/ 82.
- مفاتيح الغيب 5/ 70.
- تفسير المنار 2/ 45.
- مسلم 2/ 807، ح/ 1151.
- زاد المعاد 2/ 29.
- لطائف المعارف ص 290.
- مسلم 1/ 523، ح/ 759.
- الحاكم 1/ 483 وصححه الألباني في الإرواء ح 1587.
- أحمد 2/ 174 وصححه الألباني في الإرواء ح/6415.
- أحمد وصححه الألباني في الإرواء ح/3882.
- مسلم 4/ 1803، ح/2308.
- مسلم 2/ 830، ح/ 1171.
- صحيح الجامع، ح/ 3030.
- انظر مسلم ك2/ 875، ح/1079.
- مسلم 2/ 832، ح/1174.
- مسلم 2/ 832، ح/1175.
- أحمد 2/ 373، وانظر صحيح الجامع، ح/3488.
- الحاكم 1/ 420، صحيح الجامع، ح/5376.
- البخاري مع الفتح 4/ 116، ح/1903.
المصدر:
- فيصل بن علي البعداني، مجلة البيان، العدد 97.