من أصلح سريرته جدَّ في الطلب، واشغل بعيبه، وعظَّم الحرمات، وظهرت عليه علامات الصلاح، وتخلَّص من آفات النفس وعيوبها، واجتهد في ذلك.

علامة صِدْق

مما يثمر وينفع يوم لقاء الله تعالى إصلاح السرائر، وهو علامة على صدق الطلب والرجاء لله والدار الآخرة. ولهذا لوازم عملية وتوجهات لازمة تمنع الادعاء والمخادعة للنفس، وتثمر الخير للعبد.

من دلالات صلاح السريرة

ترك ما لا يعني والانشغال بالنفس وإصلاحها

وهذا من علامات صلاح الباطن، حيث إن صاحب السريرة الصالحة لا تراه إلا منشغلا بنفسه وإصلاحها معرضا عن عيوب الناس، فعنده من الإصلاحات لنفسه ما يشغله عن غيره. وتراه في إصلاح حاله مرکّزا على قلبه وسريرته ساعيا في إصلاح ما فسد منها باذلا جهده في التخلص من الآفات التي تفسدها.

وهذا من علامات توفيق الله عز وجل لعبده المؤمن، ومن علامات الخذلان أن تجد العبد منشغلا بعيوب الناس وآفاتهم ناسيا نفسه وآفاتها.

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى وهو يفصل في حكمة الله تعالى في قضائه وتخليته بين العبد والذنب:

“ومنها: أنه يوجب له الإمساك عن عيوب الناس والفكر فيها، فإنه في شغل بعيب نفسه، فطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وويل لمن نسي عيبه وتفرغ لعيوب الناس. هذا من علامة الشقاوة كما أن الأول من أمارات السعادة”. (1مفتاح دار السعادة: (1/ 310))

وقال في موطن آخر:

“فمن عرف نفسه اشتغل بإصلاحها عن عيوب الناس، ومن عرف ربه اشتغل به عن هوى نفسه، أنفع العمل أن تغيب فيه عن الناس بالإخلاص وعن نفسك بشهود المنة فلا ترى فيه نفسك ولا ترى الخلق”. (2الفوائد: (ص 93))

وهذا لا يعني ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإهمال دعوة الناس، وإنما المقصود أن لا تنسيه دعوة الناس إصلاح نفسه والاهتمام بها ونسیان آفاتها الظاهرة والباطنة.

أصحاب السريرة الصالحة إذا رُؤوا ذكر الله عز وجل

جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ألا أخبركم بخياركم» قالوا بلى. قال: «الذين إذا رؤوا ذكر الله. أفلا أخبركم بشراركم». قالوا: بلى. قال: «المشاؤون بالنميمة المفسدون بين الأحبة الباغون للبرآء العيب». (3انظر صحيح الأدب المفرد، حيث حسنه الألباني: (246))

وهؤلاء الذين تُذکر رؤيتُهم ذِكرَ الله عز وجل لا شك أنهم المؤمنون باطنا وظاهرا الذين صلحت سرائرهم، فألقى الله عز وجل النور والسمت الحسن على ظواهرهم ووجوههم، فأحبهم الناس، وهذا مصداق قول الله عز وجل في وصفه لأصحاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك في قوله: ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ [الفتح: 29]. يقول الإمام ابن کثیر رحمه الله تعالى عند هذه الآية:

“قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: سیماهم في وجوههم يعني السمت الحسن. وقال مجاهد وغير واحد: يعني الخشوع والتواضع…

وقال السُدّي: الصلاة تحسّن وجوههم. وقال بعض السلف: من کثُرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار… وقال بعضهم: إن للحسنة نورا في القلب، وضياء في الوجه وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الناس. وقال أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه: «ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه».

والغرض أن الشيء الكامن في النفس يظهر على صفحات الوجه، فالمؤمن إذا كانت سريرته صحيحة مع الله أصلح الله ظاهره للناس، کما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: من أصلح سريرته أصلح الله علانيته … فالصحابة خلصت نياتهم وحسنت أعمالهم، فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم”. (4تفسير ابن كثير: (7/ 342-343) باختصار، ط الشعب)

وقال سيد قطب رحمه الله تعالى أيضا عند هذه الآية:

“..واللقطة الرابعة تثبت أثر العبادة الظاهرة والتطلع المضمر في ملامحهم، ونضحها على سماتهم.

﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾.

سيماهم في وجوههم من الوضاءة والإشراق والصفاء والشفافية، ومن ذبول العبادة الحي الوضيء اللطيف… فهو أثر هذا الخشوع. أثره في ملامح الوجه، حيث تتوارى الخيلاء والكبرياء والفراهة، ويحل مكانها التواضع النبيل، والشفافية الصافية، والوضاءة الهادئة، والذبول الخفيف الذي يزيد وجه المؤمن وضاءة وصباحة ونبلا”. (5في ظلال القرآن: (6/ 3332) باختصار)

تعظيم الله عز وجل وتعظيم حرماته والخوف منه

 

يقول الله عز وجل: ﴿ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32].

فمن علامات تقوى القلب وصلاح السريرة تعظيم شعائر الله وحرماته، وذلك بتعظيم أوامره بفعلها ونواهيه باجتنابها، والمبادرة السريعة بالتوبة من الذنوب، والحياء من الله عز وجل، وهذا من علامة صحة المحبة لله تعالى؛ وضد ذلك الاستهانة بحرمات الله عز وجل، والجرأة عليها، وعدم الخوف والوجل عند تعديها، فإن هذا كله يدل على فساد في الباطن ومرض في القلب.

يقول ابن القيم رحمه الله تعالى:

“ولو تمكن وقار الله وعظمته في قلب العبد لما تجرأ على معاصيه، وربما اغتر المغتر، وقال: إنه يحملني على المعاصي حسن الرجا، وطمعي في عفوه، لا ضعف عظمته في قلبي، وهذا من مغالطة النفس، فإن عظمة الله تعالى و جلاله في قلب العبد تقتضي تعظیم حرماته، وتعظيم حرماته تحول بينه وبين الذنوب. المتجرئون على معاصيه ما قدَروا الله حقَّ قدره، وكيف يقدره حق قدره، أو يعظمه ويكبره، ويرجو وقاره ويجله من يهون عليه أمره ونهيه..؟

هذا من أمحل المحال، وأبين الباطل. وكفى بالعاصي عقوبة أن يضمحل من قلبه تعظيم الله جل جلاله، وتعظيم حرماته، ويهون عليه حقه”. (6الجواب الكافي: (99))

الغيرة على محارم الله

ومن علامات تعظيم حرمات الله عز وجل الدالة على صلاح السريرة: الغيرة على محارم الله عز وجل إذا انتُهكت، والغضب لله تعالى حينما تتعدى حدوده؛ لأن هذا من شواهد محبته سبحانه وتعالى، وفي ذلك يقول ابن عقيل في الفنون:

“فأين رائحة الإيمان منك وأنت لا يتغير وجهك فضلا عن أن تتكلم ومخالفة الله سبحانه وتعالى واقعة من كل مُعاشر ومُجاور، فلا تزال معاصي الله عز وجل والكفر یزید، وحريم الشرع ينتهك، فلا إنكار ولا منكر، ولا مفارقة المرتكب ذلك ولا هجران له، وهذا غاية برد القلب وسکون النفس، وما كان ذلك في قلب قط شيء من إيمان، لأن الغيرة أقل شواهد المحبة والاعتقاد”. (7الآداب الشرعية: (1/ 95))

ويجلّي الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى هذه الحقيقة بقوله:

“ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، وبما كان عليه هو وأصحابه رأى أن أكثر من يشار إليهم بالدين، هم أقل الناس دینا والله المستعان..! وأيُّ دين وأيُّ خير فيمن يرى محارم الله تنتهك، وحدوده تُضاع، ودينه يترك، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب عنها، وهو بارد القلب ساکت اللسان، شیطان أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شیطان ناطق..؟

وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم وریاساتهم، فلا مبالاة بما جرى على الدين؟ وخيارهم المتخزن المتلمظ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل وتبذل وجد واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه. وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله، ومقت الله لهم قد بُلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون، وهم لا يشعرون، وهو موت القلوب، فإن القلب كلما كانت حياته أتم، كان غضبه لله ورسوله أقوى، وانتصاره للدين أكمل”. (8أعلام الموقعين: ( 2/ 164-165))

التصديق بالخبر والإذعان للأمر

وهذه العلامة يعرفها العبد من نفسه، فإذا وجدها فليحمد الله تعالى، لأن هذا هو وصف القلب السليم والسريرة الصالحة. وإن وجد ضد ذلك سواء من اعتراض على الخبر بشبهة، أو رد للأمر بشهوة فليبادر إلى إصلاح هذا الفساد وتصفية القلب قبل أن يتمكن من القلب فيهلكه ويحق الخسران على صاحبه والعياذ بالله.

معنى تصديق الخبر

والتصديق بالخبر يعني التسليم لأخبار الله لك، التي جاءت في كتابه سبحانه وتعالى، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الأخبار الماضية أو المستقبلية أو الغيوب، التي حجبت العقول عن إدراكها، فيؤمن بها، ويصدق بها دون أدنى شبهة أو اعتراض.

معنى التسليم للأمر

أما التسليم والإذعان للحكم فهو نوعان:

الأول: التسليم لأحكام الله الشرعية والإذعان لها، واليقين بأنها الخير والمصلحة سواء علمت الحكمة منها أم لم تعلم. قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا﴾ [الأحزاب:36]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65].

 

الثاني: التسليم لأحكام الله الكونية القدرية، واليقين بأن فيها الحكمة البالغة سواء ظهر ذلك للعقول أم لم يظهر، ولا يتعارض مع التسليم لأحكام الله القدرية، مدافعة ما أمكن مدافعته منها؛ بل إن الله عز وجل أمرنا بمدافعة أقداره بأقداره؛ کمدافعة المرض بالعلاج والجوع بالأكل، فإن لم يأذن الله عز وجل بدفعها لحكمة يعلمها فيجب حينئذ التسليم والرضا بقدَر الله عز وجل وقضائه، والحذر من أن يكون في القلب أدني شبهة، من شأنها إساءة الظن بالله عز وجل، أو الاعتراض على حُكمه فإن هذا من فساد السريرة.

عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: «ذروة الإيمان: الصبر للحكم، والرضى بالقدر، والإخلاص في التوكل، والاستسلام للرب عز وجل». (9حلية الأولياء: (1/ 216))

سلامة القلب من الغش

ومن لوازم الرضى والتسليم لأحكام الله عز وجل القدرية سلامة القلب من الغش والدغل والغل. وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله تعالى:

“إن الرضى يفتح له باب السلامة . فيجعل قلبه سلیما نقيا من الغش والدغل والغل. ولا ينجو من عذاب الله إلا من أتى الله بقلب سليم. كذلك وتستحيل سلامة القلب مع السخط وعدم الرضى. وكلما كان العبد أشد رضى كان قلبه أسلم. فالخبث والدغل والغش: قرين السخط. وسلامة القلب وبره ونصحه: قرين الرضى. وكذلك الحسد: هو من ثمرات السخط. وسلامة القلب منه من ثمرات الرضى”. (10مدارج السالكين: 2/ 201)

………………………

الهوامش:

  1. مفتاح دار السعادة : (1/ 310).
  2. الفوائد: (ص 93).
  3. انظر صحيح الأدب المفرد، حيث حسنه الألباني: (246).
  4. تفسير ابن كثير: (7/ 342 – 343) باختصار، ط الشعب.
  5. في ظلال القرآن: (6/ 3332) باختصار.
  6. الجواب الكافي: (99).
  7. الآداب الشرعية: (1/ 95).
  8. أعلام الموقعين: ( 2/ 164-165).
  9. حلية الأولياء: (1/ 216).
  10. مدارج السالكين: 2/ 201.

المصدر:

  • فضيلة الشيخ/ عبد العزيز الجُليّل، كتاب “يوم تبلى السرائر” ، ص105-117.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة