أخرج الله تعالى للبشرية نماذج كاملة للتأسي والاقتداء في العقيدة والمنهج، في الأخلاق والسلوك، في الدعوة والصبر، في التعبد والزهد في الدنيا واليقين في الآخرة.

مقدمة

إن مهمة الرسل عليهم الصلاة السلام مهمة عظيمة شريفة، يجب أن يعرفها الناس ويفقهوها، ويعرفوا حقوق هؤلاء الرسل الكرام ويتخذوها منهاجاً، يهتدون بهديه، وبخاصة من نسب نفسه إلى الدعوة إلى الله تعالى، حيث يتعين عليه دراسة حياة رسل الله عز وجل ليترسم طريقهم إن أراد الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة.

ولما كانت حياتهم عليهم الصلاة والسلام هي حياة الكمّل من الناس، الذين اختارهم الله عز وجل عن علم وحكمة، واصطفاهم على البشر؛ كان لا بد أن نتعرف على هذه الحياة المباركة، التي صُنعت على عين الله تبارك وتعالى، كما كان لزاماً على من أراد لنفسه النجاة في الدنيا والآخرة فَرْداً كان أو جماعة أن يدرس هذه الحياة المباركة، وبخاصة في عصور الغربة والغرباء كعصرنا الحاضر؛ علّها أن تكون نبراساً لحياتنا، ونجاة لأمتنا مما هي فيه في كثير من البلدان من واقع أليم.

دروس من حياة الأنبياء

ويمكن إبراز أهمية دراسة حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من خلال أمور كثيرة، أهمها ما يلي:

التعبد لله بالتأسي بهم

لأننا مأمورون من الله عز وجل بالاقتداء بهم والتأسي بهديهم، وفي ذلك طاعة لله سبحانه وعبادة له قبل كل شيء، ومن هذه الآيات ما ذكره الله عز وجل في سورة الأنعام من شأن بعض أنبيائه ورسله، ثم ختم هذه الآيات بأمر الرسول، صلى الله عليه وسلم، بالاقتداء بهديهم، والأمر له، صلى الله عليه وسلم، أمر لأمته، قال الله تعالى: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَإسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى العَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أُوْلَئِكَ الَذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُوْلَئِكَ الَذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 83 90].

قال الطبري رحمه الله تعالى عند الآية الأخيرة: ﴿أُوْلَئِكَ الَذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾:

“يقول الله تعالى ذكره: ﴿أُوْلَئِكَ﴾ هؤلاء القوم الذين وكلنا بآياتنا وليسوا بها بكافرين، هم الذين هداهم الله لدين الحق، وحفْظ ما وُكلوا بحفظه من آيات كتابه والقيام بحدوده، واتباع حلاله وحرامه، والعمل بما فيه من أمر الله، والانتهاء عما فيه من نهيه، فوفقهم جل ثناؤه لذلك، ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾، يقول تعالى ذكره: فبالعمل الذي عملوا، والمنهاج الذي سلكوا، وبالهدى الذي هديناهم، والتوفيق الذي وفقناهم ﴿اقْتَدِهْ﴾ يا محمد، أي: فاعمل وخذ به واسلكه، فإنه عمل لله فيه رضاً، ومنهاج من سلكه اهتدى”. (1تفسير الطبري، ت: شاكر، عند الآية (90) من سورة الأنعام)

والأمر له، صلى الله عليه وسلم، أمر لأمته، لقوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾ [الأحزاب: 21].

وقال صاحب المنار رحمه الله تعالى:

“فمعنى الجملة على هذا: أولئك الأنبياء الثمانية عشر الذين ذكرت أسماؤهم في الآيات المتلوة آنفاً والموصوفون في الآية الأخيرة بإيتاء الله إياهم الكتاب والحكم والنبوة، هم الذين هداهم الله تعالى الهداية الكاملة، فبهداهم دون ما يغايره ويخالفه من أعمال غيرهم وهفوات بعضهم اقتد أيها الرسول فيما يتناوله كسبك وعملك، مما بعثت به من تبليغ الدعوة وإقامة الحجة، والصبر على التكذيب والجحود وإيذاء أهل العناد والجحود، ومقلدة الآباء والجدود، وإعطاء كل حال حقها من مكارم الأخلاق وأحاسن الأعمال، كالصبر والشكر، والشجاعة والحلم، والإيثار والزهد، والسخاء والبذل، والحكم … بالعدل”. (2تفسير المنار، عند الآية (90) من سورة الأنعام)

تكرير للتقرير

ومن الآيات التي ورد فيها أيضاً الأمر بالاقتداء بهدي الأنبياء: قوله تعالى:

﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إلاَّ قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإلَيْكَ أَنَبْنَا وَإلَيْكَ المَصِيرُ﴾ [الممتحنة: 4].

قال الشوكاني رحمه الله تعالى:

“وقوله تعالى: ﴿فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ متعلق بأسوة أو بحسنة، أو هو نعْت لأسوة، أو حال من الضمير المستتر في “حسنة”، أو خبر “كان”، و ﴿لَكُمْ﴾ للبيان، ﴿وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ هم أصحابه المؤمنون، وقال ابن زيد: هم الأنبياء”. (3فتح القدير، 5/ 206)

ومن الآيات الواردة في الأمر بالاهتداء بهدي الأنبياء ما شرعه الله عز وجل في سورة الفاتحة في كل صلاة أن ندعوه سبحانه بأن يهدينا صراطهم المستقيم، وذلك في قوله تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾، وأول من يدخل في وصف المنعَم عليهم هم أنبياء الله تعالى وأتباعهم؛ وذلك لقوله تعالى بعد أن ذكر جملة من الأنبياء الكرام في سورة مريم: ﴿أُوْلَئِكَ الَذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إبْرَاهِيمَ وَإسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِياً﴾ [مريم: 58].

حياة معصومة

أن حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هي الحياة المعصومة، خاصة فيما يتعلق بالعقيدة، وما أُمروا بتبليغه؛ ذلك لأن الله تعالى اجتباهم واصطفاهم عن علم وحكمة؛ قال تعالى: ﴿وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا﴾، وقال سبحانه عن إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم الصلاة والسلام: ﴿إنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ﴾ [ص: 46-47].

وقال عن نبيه موسى عليه الصلاة والسلام: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ [طه: 39]، وقال عن علمه سبحانه بمن يختار من رسله: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: 124]، وقال سبحانه: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ﴾ [الحج: 75]، والآيات في ذلك كثيرة.

والحاصل منها: أن من اصطفاه الله عز وجل واجتباه لرسالته هم أولى بالاتباع والاقتداء؛ وذلك لحفظ الله عز وجل لهم وعصمته لهم من الزلل والانحراف، ولو وقع منهم الخطأ لم يُقَرّوا على ذلك، فحرِيٌّ بمن هذه صفاتهم أن يُقتدى بهم، وتُدرس حياتهم، ويُتعرف على هديهم؛ وذلك لضمان الاهتداء وعدم الانحراف، لهداية الله عز وجل لهم وعصمته لهم، فيتم الاقتداء من المقتدين وهم في غاية الاطمئنان على صحة ما يأخذونه ويقتدون به وسلامته من الانحراف.

أفضل النماذج البشرية

في دراسة حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أكبر العظات والعبر للدعاة إلى الله عز وجل في كل مكان وزمان؛ سواءً ما يتعلق بالإيمان العظيم والتوحيد الصادق الذي عليه أنبياء الله عز وجل، أو فيما يتعلق بأخلاقهم وسلوكهم، أو بهَدْيهم ومنهجهم، وصبرهم في الدعوة، والصراع مع الباطل وأهله.

وإبراز هذه الجوانب من حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هو من أهم أغراض ورود قصص الأنبياء في القرآن الكريم؛ حيث لم تأت لمجرد التسلية والمعرفة التاريخية فقط؛ وإنما جاءت للاقتداء والتأسي بتوحيدهم لله والدعوة إليه، والتعزِّي بحياتهم وصبرهم وجهادهم؛ حتى لا تفتر عزائم الدعاة ويضعف صبرهم، فلهم في هذا السلف المبارك أكبر عزاء وقدوة في الثبات وشحذ الهمم.

خاتمة

في منهج التأسي ومأخذ الاقتداء بهم يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:

“وفي قصص هذه الأمور عبرة للمؤمنين بهم؛ فإنهم لا بد أن يبتلوا بما هو أكثر من ذلك ولا ييأسوا إذا ابتلوا بذلك، ويعلموا أنه قد ابتُلي به من هو خير منهم، وكانت العاقبة إلى خير، فليتيقن المرتاب، ويتب المذنب، ويقْوَ إيمان المؤمنين، فبها يصح الاتساء بالأنبياء”. (4مجموع الفتاوى، 15/ 178)

………………………….

الهوامش:

  1. تفسير الطبري، ت: شاكر، عند الآية (90) من سورة الأنعام.
  2. تفسير المنار، عند الآية (90) من سورة الأنعام.
  3. فتح القدير، 5/ 206.
  4. مجموع الفتاوى، 15/ 178.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة