ظلم كبير أن يقابِل الخلق ربوبية ربهم لهم بالشرك به، وخسارة كبيرة للمسلمين أن يسمحوا لأنظمة تتمسح بالاسلام أن تخدعهم عن دينهم.

مقدمة

تضمنت آيات الله تعالى جلاء الحق وبيانه، وفي طريق بيانها للحق فهي تكشف زيف الباطل وتنير ظلمات كثيرة وتُبطل عقائد منحرفة عديدة.

إن العقيدة الصحيحة هي فحوى آيات الكتاب العزيز، وخاصة آيات سورة الأنعام، والعقيدة الصحيحة هي الحق الأصيل الواصل الى السماء والمبثوث في بنية الكون والمتجذر في داخل الفطرة.

ولهذا فمن الصعب اجتيال الناس عنه؛ ومن ثم تقوم حروب طويلة تعتمد على التزييف والخداع لمن يقبل ذلك، كما تعتمد على الوحشية والاجتثاث لمن لا ينخدع للباطل.

وهنا نذكر بعض الوقفات العقدية والتربوية المستفادة من بعض الآيات في سورة الأنعام عند قوله تعالى في فاتحة السورة: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ۖ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ [الأنعام: 1].

أقوال المفسرين

يقول السعدي رحمه الله تعالى عند هذه الآية:

“هذا إخبار عن حمده والثناء عليه بصفات الكمال، ونعوت العظمة والجلال عمومًا، وعلى هذه المذكورات خصوصًا، فحمِد نفسه على خلقه السموات والأرض، الدالة على كمال قدرته، وسعة علمه ورحمته، وعموم حكمته، وانفراده بالخلق والتدبير، وعلى جعْله الظلمات والنور.

وذلك شامل للحسي من ذلك، كالليل والنهار، والشمس والقمر.

والمعنوي، كظلمات الجهل، والشك، والشرك، والمعصية، والغفلة، ونور العلم والإيمان، واليقين، والطاعة.

وهذا كله يدل دلالة قاطعة أنه تعالى هو المستحق للعبادة، وإخلاص الدين له، ومع هذا الدليل بوضوح البرهان ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ أي: يعدلون به سواه، يسوونهم به في العبادة والتعظيم، مع أنهم لم يساووا الله في شيء من الكمال، وهم فقراء عاجزون ناقصون من كل وجه…

وذكَر الله الظلمات بالجمع لكثرة موادها وتنوع طرقها، ووحَّد النور لكون الصراط الموصلة إلى الله واحدة لا تعدد فيها وهي الصراط المتضمنة للعلم بالحق والعمل به؛ كما قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: 153]. (1تفسير السعدي، (صـ 250)، باختصار)

ويقول سيد قطب رحمه الله تعالى عند هذه الآية:

“إنها اللمسات الأولى.. تبدأ بالحمد لله ثناء عليه، وتسبيحًا له، واعترافًا بأحقيته للحمد والثناء، على ألوهيته المتجلية في الخلق والإنشاء.. بذلك تصل بين الألوهية المحمودة وخصيصتها الأولى الخلق.. وتبدأ بالخلق في أضخم مجالي الوجود؛ السموات والأرض.. ثم في أضخم الظواهر الناشئة عن خلق السموات والأرض وفق تدبير مقصود؛ الظلمات والنور.

فهي اللمسة العريضة التي تشمل الأجرام الضخمة في الكون المنظور، والمسافات الهائلة بين تلك الأجرام، والظواهر الشاملة الناشئة عن دورتها في الأفلاك.. لتعجب من قوم يرون صفحة الوجود الضخمة الهائلة الشاملة تنطق بقدرة الخالق العظيم، كما تنطق بتدبيره الحكيم، وهم بعد ذلك كله لا يؤمنون ولا يوحدون ولا يحمدون؛ بل يجعلون لله شركاء يعدلونهم به ويساوونه”. (2في ظلال القرآن، (2/ 1031))

الدروس المستنبطة من هذه الآية

بعد الوقوف على معنى الآية من خلال النقلين السابقين نستطيع أن نستنبط من تفسيرها الدروس التالية:

وحدة طريق الحق

طريق الحق المؤدي إلى الله عز وجل واحد، وطرق الضلال المنحرفة عن صراط الله كثيرة.

تنزيه الله وحمده

“الحمد” معنى جامع لمحبة الله عز وجل وتعظيمه والثناء عليه بما هو أهله من صفات الكمال والجلال. وهذا يتضمن تنزيهه سبحانه عن كل سوء ونقص.

الإشارة الى أصول الهداية

استفتح الله عز وجل هذه السورة العظيمة بحمده والثناء عليه وتعظيمه لما تضمنته هذه السورة من أصول الهداية إلى الحق، ودحض حجج الملاحدة والمشركين وإبطالها؛ فهو سبحانه المحمود على هذه الآلاء والنعم وبما له من صفات الكمال والجلال.

الرد على طوائف منحرفة

تضمنت هذه الآية الكريمة على قِصَرها الرد على ثلاث طوائف كفرية.

الرد على “الدهرية”

ففي قوله سبحانه: ﴿الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ رد على الملاحدة الدهريين، الذين يقولون بقِدم العالم، وأن ليس هناك خالق ولا مدبر.

الرد على المجوس

وفي قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾، رد على المجوس المشركين القائلين بأن للكون خالقين، إله النور وإله الظلمة، فبين سبحانه أنه خالق السموات والأرض والظلمات والنور؛ يقول ابن عطية في تفسيره: ولفظ الآية أيضًا يشير إلى “المانوية”، ويقال “الماننية” العابدين للنور، القائلين أن الخير من فعل النور، وأن الشر من فعل الظلام… و”المانوية” مجوس. (3في ظلال القرآن، (2/ 1031))

الرد على المشركين

وفي قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ رد على المشركين الذين يؤمنون بأن الله خالق كل شيء ثم هم يشركون معه أصنامًا وأربابًا مربوبة مخلوقة فيعْدلونها برب الأرض والسماوات.

مواجهة الإلحاد مع مواجهة الشرك

في قوله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ دليل في مواجهة المشركين لتقرير الوحدانية، وفي الوقت نفسه فيه دليل لمواجهة موجة الإلحاد وإنكار الله عز وجل، مع أن مَن وقع في الإلحاد من أمم الأرض، فإن أغلبهم ليسوا صادقين ولا مقتنعين بالإلحاد، لأن الفطرة ترفضه، ولكن قد تفسد الفطرة، وتتعطل فيها أجهزة الاستقبال والاستجابة؛ فيكون منها الإلحاد وإنكار الله عز وجل. ولكن هؤلاء قلة قليلة، وهم الذين نجح دعاة الإلحاد من اليهود والشيوعيين في استهدافهم بنفي وجود الله عز وجل.

وأما السواد الأعظم من المسلمين فقد فشلت محاولات اليهود والصليبيين في تحويلهم إلى الإلحاد أو إلى ديانات أخرى، ويئسوا من ذلك، فلجأوا إلى طريقة خبيثة لحرف المسلمين عن دينهم.

وقد بين هذه الطريقة الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى بقوله:

“وأحسب ـ والله أعلم ـ أن اليهود الصِّهْيَونِيِّين، والنصارى الصليبيين، كليهما؛ قد يئسوا من هذا الدين في هذه المنطقة الإسلامية الواسعة في إفريقية وآسيا وأوربا، كذلك يئسوا من أن يحوّلوا الناس فيها إلى الإلحاد ـ عن طريق المذاهب المادية ـ كما يئسوا كذلك من تحويلهم إلى ديانات أخرى عن طريق التبشير أو الاستعمار؛ ذلك أن الفطرة البشرية بذاتها تنفر من الإلحاد وترفضه، حتى بين الوثنيين ـ فضلًا على المسلمين ـ وأن الديانات الأخرى لا تجرؤ على اقتحام قلبٍ عرف الإسلام، أو حتى ورِث الإسلام.

وأحسب ـ والله أعلم ـ أنه كان من ثمرة اليأس من هذا الدين أن عدَل اليهود الصهيونيون والنصارى الصليبيون عن مواجهة الإسلام جهرة عن طريق الشيوعية أو عن طريق التبشير؛ فعدلوا إلى طرائق أخبث، وإلى حبائل أمكر.. لجأوا إلى إقامة أنظمة وأوضاع في المنطقة كلها تتزيا بزيّ الإسلام؛ وتتمسح في العقيدة؛ ولا تنكر الدين جملة.. ثم هي تحت هذا الستار الخادع، تنفذ جميع المشروعات التي أشارت بها مؤتمرات التبشير وبروتوكلات صِهْيَوْن، ثم عجزت عن تنفيذها كلها في المدى الطويل..!

إن هذه الأنظمة والأوضاع ترفع راية الإسلام ـ أو على الأقل تعلن احترامها للدين ـ بينما هي تحكم بغير ما أنزل الله؛ وتُقصي شريعة الله عن الحياة، وتحل ما حرم الله، وتنشر تصورات وقيمًا مادية عن الحياة والأخلاق تدمر التصورات والقيم الإسلامية، وتسلط جميع أجهزة التوجيه والإعلام لتدمير القيم الأخلاقية الإسلامية، وسحق التصورات والاتجاهات الإسلامية، وتنفذ ما نصّت عليه مؤتمرات المبشرين وبروتوكولات الصهيونيين، من ضرورة إخراج المرأة المسلمة إلى الشارع، وجعلها فتنة للمجتمع، باسم التطور والتحضر ومصلحة العمل والإنتاج، بينما ملايين الأيدي العاملة في هذه البلاد متعطلة لا تجد الكفاف! وتيسر وسائل الانحلال وتدفع الجنسين إليها دفعًا بالعمل والتوجيه.. كل ذلك وهي تزعم أنها مسلمة، وأنها تحترم العقيدة!

فإذا بقيت بقية في هذه الرقعة لم تجز عليها الخدعة، ولم تستسلم للتخدير باسم الدين المزيف، وباسم الأجهزة الدينية المسخرة لتحريف الكلم عن مواضعه، ولوصف الكفر بأنه الإسلام، والفسق والفجور والانحلال، بأنه تطور وتقدم وتجدد.. إذا بقيت بقية كهذه سلطت عليها الحرب الساحقة الماحقة، وصبّت عليها التهم الكاذبة الفاجرة وسحقت سحقًا، بينما وكالات الأنباء العالمية وأجهزة الإعلام العالمية خرساء صماء عمياء!”. (4في ظلال القرآن، (3/ 1033))

خاتمة

يعاني المسلمون من “وباء” الأنظمة المتسترة زورا بالإسلام وهي تحاربه، يعانونه في صورة تغييب للعقيدة، وتبديل للقيم، وخسارة للأجيال، وإهدار للمقدرات إذ يترافق فسادهم مع انحرافهم.

وفي كتاب الله تعالى دواء ناجع لكل انحراف طاريء ﴿وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا﴾ [الفرقان: 33]. وعلى الأمة طلب خلاصها ونجاتها في كتاب ربها تعالى.

…………………………………

الهوامش:

  1. تفسير السعدي، (صـ 250)، باختصار.
  2. في ظلال القرآن، (2/ 1031).
  3. المحرر الوجيز، (3/ 311).
  4. في ظلال القرآن، (3/ 1033).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة