من قصّر في الأخذ بالأسباب المقدور عليها فقد ترك من العبودية بحسب ذلك، ومن ترك التوكل انفصل عن القوة الكبرى، والمجاهد محتاج للأمرين ليتم أمره ويوفي عبوديته.
مقدمة
لما قام المجاهد ينصر الحق (من آداب المجاهد وتزكية النفس)، ولما كان لا بد من الإخلاص لله تعالى وحده لا ينازعه فيه غرض دنيوي (القيام لله وحده زاد المجاهد)، كما يجب عليه أن يحذر من آفات الإخلاص وما يضعفه (آفات تحول دون قبول عمل المجاهد)، وللمجاهد زاد المحبة (محبة الله زاد للمجاهد). وللمحبة أعمال تبرهن عليها وتزيد منها (أعمال لازمة لإعداد المجاهد).
لكن القوة على الطريق والمضي فيه لا بد فيه من التخلي عن الحول والقوة للنفس والتبري منها الى الالتجاء الى حول الله وحده وقوته تعالى وحده، وهنا بيان ذلك.
الركن الثالث من أركان التزكية
القيام بالله تعالى
والمقصود بالقيام بالله تعالى تجريد التوكل عليه سبحانه والاستعانة به وحده وتعليق القلب به عز وجل والتبرؤ من الحول والقوة وعدم التعلق بالأسباب مع فعلها .
والتوكل على الله عز وجل شرط في التوفيق والنصر، وضعفه أو عدمه سببٌ للخذلان والضياع. وهذا العمل القلبي من أفضل الأعمال وأنفعها للعبد ولا سيما المجاهد في سبيل الله عز وجل أو من يعدّ نفسه للجهاد.
وحقيقة التوكل هي:
“غاية الاعتماد على الله سبحانه، مع غاية الثقة به وحسن الظن به سبحانه، مع الأخذ بالأسباب المأمور بها وعدم الاعتماد عليها ولا التعلق بها، والتبرؤ من الحول والقوة إلا به سبحانه”.
وهو عبادة عظيمة تجمع بين تفويض الأمور إلى الله تعالى، وإحسان الظن به، والرجاء في رحمته ونصرته، وعدم الخوف إلا منه سبحانه؛ فهو الذي بيده النفع والضر، وما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها.
والتربية على التوكل تأتي من الاعتناء بالفقه بأسماء الله تعالى وصفاته الحسنى؛ فهو ثمرة هذا العلم الشريف؛ كالفقه بصفات العلم والقدرة والرحمة والحكمة، والتعبد لله سبحانه بها؛ لأن من أيقن كمال علم الله تعالى وأنه سبحانه يعلم ما كان وما يكون، وأنه رحيم بالمؤمنين، وحكيم في أقضيته وأحكامه.. من أيقن بهذا وتشرّب به قلبه اعتمد على مَن هذه صفاته وفوّض أمره إليه سبحانه .
دور الأسباب
ولا يتنافى هذا مع الأخذ بالأسباب؛ لأن الله عز وجل أمرٌ بالأخذ بالأسباب في قتال الأعداء؛ قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾ (الأنفال:60).
ولما ظنّ الصحابة رضي الله عنهم ترتب النصر على الأسباب وأعجبوا بها يوم حنين هُزموا في أول المعركة، قال تعالى: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ﴾ (التوبة:25).
فالأخذ بالأسباب من سنن المرسلين، والأخذ بها عبادة وطاعة لله تعالى مع ترك الاعتماد عليها، بل الاعتماد على الله وحده لا شريك له في حصول المقصود بعد الأخذ بالأسباب.
وقد تضيق بالعبد السبل وتنعدم الأسباب؛ وهنا ليس أمام العبد إلا عمل القلب وحده بصدق التوكل على الله عز وجل وصدق اللجوء والاضطرار إليه؛ كما لو أحاط العدو الكافر بالمجاهدين ولم يكن لهم حيلة في دفعه؛ قال الله تعالى عن المسلمين يوم أحد: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ (ال عمران:173)
وإن من لوازم التوكل على الله عز وجل اليقين بمعية الله سبحانه ونصرته لعباده المؤمنين وتثبيتهم، وإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم الكافرين، بعد الأخذ بالأسباب المأمور بها وبذل الوسع في ذلك .
مواقف الناس بين التوكل والأخذ بالأسباب
والناس في التوكل على الله عز وجل والأخذ بالأسباب في قتال الكافرين طرفان ووسط:
الطرف الأول: معجزات بلا أسباب..!
الذين يرون أن الله عز وجل سينصر المسلمين بالآيات والمعجزات والجنود الذين يسخّرهم للقضاء على الكافرين ولو لم يأخذوا بأسباب النصر أو لم يكملوها؛ فما داموا مسلمين وأعداؤهم من الكافرين فإن نصر الله عز وجل سينزل عليهم؛ لأنهم مسلمون وكفى.
وهذا الفريق من الناس يفَرّط في العادة في الأخذ بأسباب النصر أو يستطول الطريق فلا يكملها، وإنما ينتظر خارقة وآية من الله عز وجل في النصر والتمكين .
الطرف الثاني: أسباب تُغفل التدخل الرباني
وهو مقابل للطرف الأول ـ وقد يكون ردة فعل له ـ وذلك بقولهم بأنه لكي ينتصر المسلمون على أعدائهم ويمكَّن لهم في الأرض فلا بد أن يكونوا مكافئين لعدوهم في العدد والعتاد والسلاح وبالأخذ بالأسباب المادية.
ومثل هؤلاء يغلّبون الأسباب المادية ويتعلّقون بها ويفرّطون في الأسباب الشرعية، ولا يلتفتون إلى الآيات والمعجزات والإعانات التي ينصر الله سبحانه بها عباده المحققين لأسباب النصر متى شاء سبحانه وعلم أن عباده المؤمنين قد استفرغوا ما في جهدهم من الأخذ بأصول النصر وأسبابه.
الوسط: الجمع بين القيام بالأسباب والقيام بالتوكل
وهو الحق إن شاء الله تعالى، وهم الذين بذلوا كل ما في وسعهم في الأخذ بأسباب النصر السالفة الذكر، حيث بذلوا ما في وسعهم في الأخذ بالعلم النافع والعمل الصالح، وربّوا أنفسهم على ذلك، وبلّغوه للأمة قدر استطاعتهم حتى عرّفتْهم الأمة وما هم عليه من الحق، وعرفت أعداءهم وما هم عليه من كفر وفساد، وأخذوا بالأسباب المادية المباحة والمتاحة لهم؛ ومع أخذهم بهذه الأسباب فلم يعتمدوا عليها، بل اعتمدوا على مسبِّب الأسباب ومَن بيده ملكوت السموات والأرض، وانتظروا نصره المبين الذي وعد به عباده المؤمنين الذين أخذوا بأسباب النصر وبذلوا ما في وسعهم في ذلك، وانتظروا تأويل قوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ (محمد: 7)
ولم ينسوا قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ (الفتح: 7)، وقوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾ (المدثر:31).
بل هم موقنون بظهور قوة الله عز وجل، وظهور الآيات بعد أن يبذلوا وسعهم في الأخذ بالأسباب وإعداد العدة للجهاد، ولم يُرهبهم حينئذ قوة أعدائهم من الكفرة والمنافقين مهما بلغت من القوة والدمار؛ لأن قوة الله عز وجل فوق قوتهم، ونواصيهم بيده سبحانه، ولو يشاء الله تعالى دمرها عليهم وأبطل مفعولها. ولكن هذا لا يكون إلا لمن حقق أسباب النصر والتمكين “الشرعية” و”المادية”.
خطورة العُجب على النفوس
ويحسن هنا التنبيه إلى خطورة العُجْب على النفوس، وأنه من الأسباب التي تُحبط الأعمال وتُذهب بركتها ـ وبخاصة في أجواء الجهاد ومقارعة الكافرين ـ وأكبر شاهد على ذلك ما حصل للمسلمين في بداية غزوة حنين حينما أعجب بعض المسلمين بكثرة عددهم الذي بلغ اثني عشر ألف مقاتلاً فقالوا حينها «لن نُغلب اليوم من قِلّة”؛ فأنزل الله عز وجل قوله سبحانه: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ﴾ (التوبة:25)
وإن من أعظم ما يعالَج به داء العُجب؛ معرفةُ الله عز وجل بأسمائه وصفاته، والتعبدُ له سبحانه بعبودية الاستعانة والتوكل والتفويض، ومعرفةُ النفس بضعفها وقصورها وخطئها.
ولذا قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾:
“وكثيرا ما يقرن الناس بين الرياء والعُجب؛ فالرياء من باب الإشراك بالخلق، والعُجب من باب الإشراك بالنفس، وهذا حال المستكبر.
فالمرائي لا يحقق قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، والمعجَب لا يحقق قوله: ﴿وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾؛ فمن حقق قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ خرج عن الرياء، ومن حقق قوله: ﴿وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ خرج عن الإعجاب.
وفي الحديث المعروف «ثلاث مهلكات شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه» (1أبونعيم في الحلية 2/343 والبهيقي في الشعب (7252) وغيرها وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة) (2مجموع الفتاوى 1 /277).
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة في كثرة دعائه وتضرعه لربه سبحانه وطلبه للنصر منه في ميادين الجهاد مع فعله للأسباب؛ فقد روى مسلم في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:
«لما كان يوم بدر نظر رسول الله إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاث مائه وتسعة عشر رجلا فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه «اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم آتني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبد في الأرض»؛ فما زال يهتف بربه ماداً يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه؛ فأتاه أبو بكر رضي الله عنه فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك؛ فأنزل الله عز وجل ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ فأمده الله بالملائكة». 3(رواه مسلم (1763))
وهكذا كان سلفنا الصالح في جهادهم؛ فقد روى الذهبي رحمه الله في السير عن الأصمعي قال:
«لما صافّ قتيبه ابن مسلم للترك وهالَه أمرُهم سأل عن محمد بن واسع ـ العابد الزاهد المجاهد ـ فقيل هو ذاك في الميمنة جامع على قوسه يبصبص بأصبعه نحو السماء، قال تلك الأصبع أحب إليّ من مائة ألف سيف شهير وشاب طرير». (4سير أعلام النبلاء 6/121)
خاتمة
يوازن هذا الدين العظيم بين الأخذ بالأسباب لأنها جزء سبب، وهكذا أجرى الله تعالى الأمور في هذه الدار؛ لكنه لا يُغفل العبودية الكبرى بالتعلق بالله تعالى والنظر اليه.
والأمر في هذا فطري؛ فترك الأسباب قدح في العقل وتقصير في الشرع معاقب عليه، وترك التوكل إعراض عن الله تعالى مسبب الأسباب. والجمع بينهما مقتضى الفطرة ومقتضى الإيمان وإعمالٌ للأدلة.
وبهذا تستقيم الأمور؛ فلا يجنح الأخذ بالأسباب بالعبد الى خسارة قلبه، ولا يفهم التوكل فهما قاصر فيترك الأسباب فيتفوق عليه الكفار فيرجع بالارتياب؛ بينما هو المقصر؛ إذ لم يقم بما أمر الله ولم يجمع بين الأمرين، ولم يَجْر على العادة التي أجرى الله عباده عليها في هذه الدار.
……………………………………
هوامش:
- أبونعيم في الحلية 2/343 والبهيقي في الشعب (7252) وغيرها وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة.
- مجموع الفتاوى 1/277.
- رواه مسلم (1763).
- سير أعلام النبلاء 6/121.