خرج جند الله من دمشق الى الأندلس فأقاموا جنة في الدنيا، ولما تغيروا تغير الحال الى محاكم التفتيش. وفي ذلك درس بليغ؛ فإن التجربة تتكرر ويبقى أخذ العبرة.

بين الماضي والحاضر

الأندلس في قلب الأمة وقلب تاريخ المسلمين، افتُتحت في حالٍ عقدي وديني وحضاري، وسقطت في حالٍ معاكس، والخشية اليوم على حواضر المسلمين، ومنها دمشق؛ التي منها خرجت جيوش فتح الأندلس واليوم نخشى عليها؛ فلنأخذ العبرة.

بدايات الانطلاقة

في عهد الخلافة الأموية وبين عامي (92 – 93 هـ) أرسل “موسى بن نصير” القائد الشاب “طارق بن زياد” من “طنجة” على رأس جيش صغير من المسلمين لدخول أوربا عبر المضيق الذي سمي فيما بعد مضيق جبل طارق، حيث استطاع الانتصار على القوط الغربيين وقتل ملكهم “لذريق” في معركة جواداليتي، في (28 رمضان عام 92) هـ.

أقام “طارق بن زياد” في الجبل المذكور عدة أيام بنى خلالها سورا أحاط بجيوشه سماه “سور العرب” كما أعدّ قاعدة عسكرية بجوار الجبل على الساحل لحماية ظهره فى حالة الانسحاب أو الهزيمة بمدينة الجزيرة الخضراء.

ثم واصل مسيرته حتى وصل بحيرة “لاخندا”، وبعث رجال استطلاعه إلى الشمال، وعندما عادوا أبلغوه عن ضخامة جيش العدو بقيادة الملك “لذريق”؛ فكتب “طارق” إلى “موسى بن نصير” يطلب منه أن يمده بالمزيد من الجنود، فزوّده بخمسة آلاف جندي.

ودارت رحى المعركة الفاصلة التي استمرت ثمانية أيام من الأحد 28 رمضان إلى الأحد 4 شوال عام 92 هـ  في جنوب غرب اسبانيا،  وقد انتهت بانتصار المسلمين وهزيمة جيش العدو.

وبعد هذه المعركة الفاصلة والنصر الكبير الذي حققه الجيش الإسلامي فُتحت أبواب الأندلس، واتجه طارق بالجيش شمالا إلى العاصمة “طليطلة” وبسط سيطرته على أغلب أراضي الأندلس.

وفى شهر رمضان عام 93هـ عبر “موسى بن نصير” مضيق “جبل طارق” واستولى على مدن أخرى كـ “إشبيلية” و”ماردة”..

ثم وصل إلى نهر “التاجو” بالقرب من “طليطلة” فالتقى بـ “طارق بن زياد” هناك وتابع الجيشان مسيرتهما نحو الشمال باتجاه جبال البرانس.

وأخذت المدن تتساقط في أيديهم حتى وصلا إلى الحدود الإسبانية الفرنسية.

ليكون ذلك بداية خضوع “الأندلس” للخلافة الإسلامية كإحدى الولايات الرئيسة، إلى أن سقطت الدولة الأموية سنة (132هـ)، حيث اتجه العباسيون إلى استئصال شأفة الأمويين.

وحينها تمكن عبد الرحمن بن معاوية بن عبد الملك بن مروان ـ عبد الرحمن الداخل ـ من الإفلات من قبضتهم، فهرب إلى الشمال الإفريقي، وأقام فيه فترة من الزمن، ظل يتهيأ خلالها لدخول الأندلس، عبر مراسلة الأمويين فيها.

ارتهان حال البلاد بحال نفوس العباد

وبعد أن صارت الظروف مواتية بدأ “صقر قريش” رحلته الميمونة إلى هناك، لتشق عصور ازدهار المغرب الإسلامي الأقصى طريقها بوصوله؛ حيث أسّس دولة إسلامية لم يعرف التاريخ لها نظيراً.

دولة أذهلت الرائي بمشاهدها الطبيعية، وحيّرت الناظر بمظاهرها العمرانية، وهالت العالم بمستوى نشاطها العلمي..

دولة بدت الأندلس في ظلها رافلة في زهو حضاري جعلها بحق جنة الدنيا وزينة الحياة ومقصد العلماء ومزرعة العباقرة.

ظلت الأندلس ردحا من الزمن تنعم بوارف ظلال الإسلام منهجا وحياةً؛ حتى بدت تدير ظهرها لرسالتها الأصلية، فتناست قول الله تعالى :﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾، فدبّ إلى مفاصلها الفساد واستشرت في عروقها الغثائية، بعد أن ضعف لدى غالب أهلها الالتزام بمبادئ الدين وأحكامه، وانعدمت بينهم مقتضيات الأخوة والتضامن الإسلامي، وفشا في صفوفهم التفكك السياسي، وتخلى أكثرهم عن شعيرة الجهاد في سبيل الله.

إضافة إلى غياب “الولاء الإسلامي” لدى كثير من كبرائهم وأمرائهم، الذين أخلدوا إلى الأثرة وحب الذات والجبن والخور، مع استشراء العصبية القبلية التي طغت على واقع المسلمين هناك، فكانت لها آثار مدمرة على النسيج المجتمعي؛ إذ حوّلته إلى مجموعات متشرذمة وقبائل متناحرة.

وعمّت الفوضى السياسية، وساد الإخلاد إلى الأرض والتطاحن على المصالح الضيقة، وانتشرت النزاعات الداخلية بين أصحاب النفوذ، وصار ولاء كثير منهم للنصارى فاستمرؤوا التبعية لهم.

إضافة إلى ما سرى في مفاصل حياة المجتمع الأندلسي المسلم من البذخ والمجون والترف والخلاعة.

مع ما أشير إليه آنفا من الضعف العسكري والانقطاع عن الجهاد، والتفكك السياسي وانعدام الولاء الإسلامي، واستبداله بولاءات للأعداء.

إضافة إلى إهمال الإعداد الذاتي لمدافعة الأخطار، مع قلة الإحساس بالمسؤولية، وغياب المهمة الجهادية وواجب النصرة، رغم تنوع الاعتداء النصراني على المسلمين في الأندلس وازدياد عنفه.

وقد تكرّس ذلك في ظل الانهزام الفكري لدى المسلمين وتدهور حياتهم العامة نفسيا وأمنيا واقتصاديا. (1)

وهكذا طفقت ولايات الأندلس تتساقط فاستحالت من “جنة الأرض” لعدة عصور إلى “جحيم محاكم التفتيش”، بعد أن فرّط أهلها في أسباب النصر ووسائل حفظ النعم، فسقطت من يد المسلمين إلى اليوم؛ بل اعتبرها العدو الصليبي نموذجا لكبح جماح أي طموح إسلامي، إذ شهدت في عصرنا عدة اتفاقات وأنشطة بأقنعة مختلفة لتكريس الأمر الواقع إمعانا في الشماتة بالإسلام وأهله.

المخاوف على الشام

لقد كان انطلاق فتح الأندلس من الشام؛ حيث ظلت ألوية الفتح المبين تُعقد من هناك، وكما أن المسلمين ضيّعوا الأندلس قبل قرون، فإنهم قد ضيّعوا الشام قبل عقود، وتركوا دماءها تنزف ودموعها تنهمر بعد أن عبثت بها مخالب الصهيونية والنصيرية والقرامطة والدروز والرافضة..

وأجهشت عليها قوى الوثنية والتنصير كالثعابين الجريحة تنفث سمومها وتشفي غليل أحقادها وضغائنها، مجمعة على التنكيل بأهل السنة فيها، كما فعل النصارى بمسلمي الأندلس.

فما أحوجنا إلى “موسى” و”طارق” و”صقر” و”صلاح”؛ فاللهم فرِّج عن أهل الشام وعن المسلمين في كل مكان.

………………………………………………………………

الهوامش:

  • لاستجلاء الموضوع أكثر يرجى الرجوع إلى الكتاب النفيس “الضعف المعنوي وأثره في سقوط الأمم” لمؤلفه الدكتور حمد بن صالح السحيباني.

المصدر:

  • د. أحمد ولد محمد ذو النورين، مجلة البيان، الأحد 17 ربيع الأول 1440 هـ – الموافق2018/11/25 م.

 اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة